IMLebanon

القصّة مش عين الرمّانة القصّة قلوب مليانة

 

 

لن يكون 14 تشرين الأوّل 2021 يوماً عاديّاً في روزنامة الوطن، بل سيكون يوماً أسود في تاريخ كلّ مَن حاول أن يتباهى بانتشائه بفائض قوّة سلاحه غير الشرعي. ولن يغفر الوطن لهؤلاء جميعهم لأنّهم قفزوا فوق حقيقة الوطن الرسالة، وطن العيش معاً. لن ندخل في تحليل استراتيجي دولي كما يحاول دائماً محلّلو المحور الإيراني تعليل نظريّة المؤامرة الكونيّة ضدّهم، بل سنقوم بتحليل الأبعاد السيكوسوسيولوجيّة لهذه الأحداث ومثيلاتها في التاريخ المعاصر.

 

إذا ما عدنا بتاريخ لبنان المعاصر إلى بدايات إنشاء الكيان اللبناني، يتبيّن لنا بأنّ بكركي بشخص البطريرك الياس الحويّك هي التي أصرّت على إدخال جبل عامل والبقاع حتّى بعلبك والهرمل في صلب الكيانيّة اللبنانيّة. والسبب في ذلك أعاده بعضهم إلى حاجة الطبيعة اللبنانيّة إلى السهول للزراعة، لأنّ المجتمع اللبناني لم يكن في تلك المرحلة لا صناعيّاً ولا خدماتيّاً. وتناسى بعضهم هذا بأنّ تاريخ الوجوديّة اللبنانيّة مرتبط بالجبل اللبناني أكثر من السهل. لذلك تحوّلت الجبال مع الأجداد إلى مدرّجات أو جلول كما أسموها، وصارت أرضاً زراعيّة أنبتت أشهى الخضار والثمار.

 

فالسبب الرئيسي إذاً يعود إلى الطبيعة التعدّديّة التي أرادها الآباء المؤسّسون. فهذا عامل سوسيولوجيّ دأبت بكركي على الحفاظ عليه طوال تاريخ لبنان الحديث، أي من زمن الحويّك حتّى زمن الراعي في أيّامنا هذه. فصار لبنان الوطن الأنموذج لتلاقي وحوار الحضارات. من هنا الدعوة اليوم إلى الحياد للحفاظ على هذا الدّور الريادي للبنان. لكن الخطأ الكياني الذي وقع فيه اللبنانيّون يكمن في مسألتين:

 

1 – الارتباط الإقليمي – الأيديولوجي للمجموعات الحضاريّة المكوّنة للبنانيّة السياسيّة بهدف الإستقواء وفرض الأمر الواقع بالقوّة على الآخر المختلِف.

 

2 – عدم التوصّل إلى نظام سوسيوبوليتيكي يضمن سيرورة الحياة لهذا الوطن تحت راية الإتّحاد اللبناني.

 

وهنا تتجلّى المشكلة السيكولوجيّة التي بدأت تتعاظم مع مرور الزمن عند كلّ مجموعة حضاريّة في لبنان. فكلّما ارتفع منسوب هذه المشكلة يقع الانفجار في مكان ما داخل الحدود اللبنانيّة. فهذا الشعور بالاستضعاف أو بفائض القوّة لم يوفّر اللبنانيّون على اختلاف انتمائهم الحضاري، أيّ جهد لترجمته على أرض الواقع. فيوم شعر المسيحيّون بفائض قوّتهم التي استمدّوها من بعدهم الكياني الأيديولوجيّ بتماهيهم مع الغرب المسيحي، ترجموا ذلك بتفوّقهم داخل السلطة اللبنانيّة. ولكن للمفارقة والتاريخ بأنّ هذه الترجمة أتت في بناء لبنان المؤسّسات في الجمهوريّة الأولى.

 

وتعرّضت هذه الفترة لاهتزازات حاولت المجموعة الحضاريّة السنيّة ترجمتها في أكثر من مناسبة ترتبط بالإقليم بدءاً بالقضيّة العربيّة في العام 1948، وصولاً إلى الانفجار الكبير في الحرب اللبنانيّة التي شكّلت فيها منظّمة التحرير الفلسطينيّة الذراع العسكريّة لهذه المجموعة. وترجِمَ ذلك باتّفاق الطائف الذي أقام توازناً في السلطة اللبنانيّة، ولكنّه لم يترجم ميدانيّاً نتيجة وجود الاحتلال السوري. هذا الاحتلال الذي سمح وساهم بنشوء الدّولة الرديفة لـ”حزب الله” بتسليحه طوال الأربعة عقود التي خلت. وهذا ما ولّد شعوراً فوقيّاً لهذه الجماعة السياسيّة، وليس للمكوّن الحضاريّ الشيعي بالكامل. وما هتافات “شيعة شيعة” إلا ترجمة لهذه النشوة التي انعكست على مُطلقيها كلّهم. وهذا ما ولّد شعوراً سيكولوجيّاً نابعاً من الحالة السوسيولوجيّة التي عاشها المكوّن الشيعي طوال هذه المئة سنة حتّى صارت “القلوب مليانة”.

 

وما أحداث السابع من أيّار وأحداث خلدة بالأمس القريب وأحداث عين الرمّانة إلا ترجمة لهذا الواقع. من هنا لقطع دابر أيّ فتنة، الدّولة مطالبة بتحقيقات جدّيّة تحدّد فيها المسؤوليّات. ومَن يهدّد التحقيق قبل صدور نتائجه يعني حتماً بأنّه متورّط بشيء ما. وهذا ما يحدث في ملفّ انفجار المرفأ مع القاضي البيطار. كلّ مَن يهدّد مسار هذا التحقيق فهو يدين نفسه بنفسه.

 

وأيّ تحقيق يجري لا يمكن أن يأخذ القضيّة من دون النظر بحيثيّاتها وخطاباتها التحريضيّة. فلا يمكن مثلاً تجاهل خطابات أمين عام “حزب الله” منذ أربعة أشهر إلى اليوم، فضلاً عن أدائه التهديديّ للمحقّق العدلي. وكفى استهزاءً بعقول النّاس مستخدمين الصحافة التي من المفترض أن تكون مهنة سامية لأنّها مهنة الحقيقة، لفبركة مقالات تحريضيّة غوبلزيّة. لكن الفيديوات التي تسرّبت على مواقع التواصل الاجتماعي أظهرت بما لا يقبل الشكّ مدى سلميّة التحرّكات التي انطلقت باتّجاه عين الرمانة التي أتت نتيجة الشحن الذي مورِسَ بحقّ أهالي هذه المناطق الذين لم يخضعوا يوماً لترهيب السلاح غير الشرعي، بوقت استطاع إخضاع الدّولة بأكملها، بمجلس وزرائها، ورئيسها في ذلك السابع من أيّار. واليوم فشل بتكرار السيناريو نفسه لأنّ خوفه من الحقائق التي توصّل إليها القاضي البيطار أبطل مفاعيل قوّته غير الشرعيّة، أمام القوّة الشرعيّة للقضاء والقانون.

 

ولا يمكن لأيٍّ كان بعد اليوم الانقلاب على القضاء بالقضاء من خلال استعادة المرحلة السوداء بفبركة سيدة نجاة ثانية للانقضاض بالقضاء على غريم سياسيٍّ، لا سيّما قبل موعد الانتخابات النيابيّة القادمة. ولا ينفع بعد اليوم أيضاً أيّ تحريض يُمَارَس على أهالي الشهداء للتخلّص من المحقّق العدلي. والتداعيات الوحيدة التي تنعكس على مستوى البلد لن تكون إلا من وجهة استعمال هذا السلاح، لا بل من بقائه ربطاً بأيديولوجيّته المذهبيّة لتبرير أيديولوجيّته الوجوديّة. القلوب المليانة من عين الرمانة كشفت هذه الحقائق كلّها. وصلابة الموقف القضائي هي من صلابة الوجوديّة اللبنانيّة.

 

مخطئ مَن ظنّ بأنّ عين الرمانة سترفع الراية البيضاء. فالدفاع عن الأرض والعرض واجب مقدّس يبدأ أولاً بالوقوف خلف الجيش اللبناني الذي يجب أن يقوم بواجبه كاملاً منعاً لتكرار أخطاء الماضي. وهذا ما سيسمح في المستقبل القريب بالتوصّل إلى طاولة تحديث النّظام تحت مسمّى الاتّحاد اللبناني. وعدا ذلك يكون الجمهور الذي هتف “شيعة شيعة” قد دفع قُدُماً بلبنان إلى التحلّل والتقسيم. وسيحملون وحدهم وزر هذه الخطيئة المميتة أمام الله والتاريخ.