صناعة المآزق مزدهرة ومشتركة بين ما هو داخلي وما هو خارجي. ونحن اليوم في مأزق جديد كل مخرج منه يقود الى مأزق آخر. وكالعادة، فإن صنّاع المآزق يدفعون الناس الغارقة في الأزمات الى السجالات والعصبيات والمواقف التي تخفي الحقيقة. وليس جديداً أن نتوقف أمام الصور المحدودة ونركّز على الشجرة التي تحجب الغابة، بدل رؤية المشهد الواسع بكل أبعاده. الجديد أن اللعبة القاتلة هذه المرة تدور في هاوية عميقة وتدار بدم بارد، وقت الحاجة الملحة للخروج من الهاوية والفرصة المفتوحة دولياً لمساعدتنا على الخروج.
ذلك أننا لا نزال، منذ 13 نيسان (إبريل) 1975 حتى اليوم، نتراشق بالروايات والإتهامات والنظريات، لا حول ما حدث في عين الرمانة يوم البوسطة الفلسطينية بل حول ما قادها الى هذا الطريق، ومن جعلها السبب المباشر للبداية الرسمية لحرب لبنان، ومن هي الأطراف التي كانت مستعدة للحرب ومن أجل ماذا. وهذا التراشق يتكرر اليوم بعد حادثة الطيونة-عين الرمانة، حيث شيء واضح في الصور وأشياء غامضة وراء الصور.
والصدفة جعلت التوقيت عشية الذكرى الثانية لإنطلاق “الثورة” الشعبية السلمية من أجل التغيير. ومن حق اللبناني الذي شارك أو لا، بعدما إندفع حراس “الستاتيكو” في إحتوائها وتفكيكها، أن يسأل: ماذا بقي من “الثورة” بعد عامين من الأحلام التي ضربتها الكوابيس؟ لكن من واجبه أن يسأل: ماذا بقي من لبنان؟ “الثورة” كانت إعلان ولادة لمواطن عابر للطوائف والمذاهب والمناطق. وهي لم تمت بل مرت في مرحلة “إختبار” ثم في مرحلة “إختمار” لولادة أحزاب وتيارات جديدة. ولبنان، كما عرفناه، مهدد بأن يصبح ذكرى. ولبنان الآخر الذي يتم الشغل عليه خطوة خطوة ويراد لنا أن نتكيف معه، مرشح لأن يكون مساحة جغرافية معزولة عن تاريخها وتراثها وهويتها، ضمن مشروع إقليمي يحارب بسلاح تاريخ تستحيل إستعادته من أجل “تصحيحه”. وما دام النظام الطائفي نظام الأزمة الدائمة، فإن البديل منه هو الدولة المدنية، وليس النظام المذهبي ولا الدولة الدينية الأخطر.
ومن السهل أن نستمر في السجالات والإنشغال بما يسميه البروفسور إبراهيم قالين مستشار الرئيس رجب طيب أردوغان “تحليل الصورة بدل تحليل العملية”. والأسهل هو تجاهل اللاعب الكبير الذي يدير اللعبة الكبيرة، ويتلاعب بالجميع، والتركيز على حسابات اللاعبين الصغار. لكن من الصعب الهرب من النتائج الواقعية أمامنا. فالتحقيق في إنفجار المرفأ تعطّل عملياً سواء بقي المحقق العدلي طارق البيطار في مهمته أو جيء بآخر. ومجلس الوزراء الذي هو مركز السلطة والقرار مشلول ولن يدعوه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الى الإجتماع “قبل حل المشكلة” خارجه. وفرصة الخروج من الهاوية تكاد تضيع. وما نجح هو حيلة المحرج: تغيير الموضوع. أما الذين يحذرون من الوقوع في الفتنة الموصوفة بأنها “أشد من القتل” فإنهم يعرفون أننا في الفتنة.
والرجاء ألا ينطبق علينا في المأزق ما يقوله مثل روسي عن الخيارات: “إذا ذهبت الى اليسار تخسر حصانك، وإذا ذهبت الى اليمين تخسر رأسك، وإذا ذهبت في الإتجاه المستقيم لا تجد شيئاً”.