توقفت الغارات… ماذا عن الرصاص الطائش؟
طائرة “الميدل إيست” تقلع، فتبتعد عن غارة في ضاحية بيروت، وتحلّق في السماء ناجية بركّابها. هذا المشهد “الانتصار” لإرادة اللبنانيين على الحياة وسط الموت، ورفض لبنان فصله عن العالم، وُصف عالمياً بـ”الأكثر شجاعة” على مستوى شركة طيران الشرق الأوسط. لكن هناك “جنوداً” مجهولين لم تشملهم الصورة ولا التصنيف، من موظفين في المطار استبسلوا في أداء واجبهم وسط الغارات. وأكثرهم بسالة، كانوا المسؤولين عن سلامة الملاحة الجوية، مراقبي برج المراقبة، الذين حرصوا على أرواح قرابة 300 ألف مسافر خلال شهري الحرب، فيما كانت أرواحهم مهددة ليس من العدوان الإسرائيلي وحسب، بل من دولتهم نفسها، في بقعة جغرافية لا يبعد عنها القصف سوى كيلومتر واحد أحياناً.
إذا كنتم ضمن الـ291 ألف مسافر خلال 64 يوماً من الحرب، تخيلوا أن المراقبين الجويين الذين أشرفوا على إقلاع أو هبوط طائرتكم، كانوا يعملون 24 ساعة متواصلة من دون توقف، في ضرب فاضح للمعايير الدولية التي تراعي قدرة المراقب على التركيز في مهمة لا تقبل الخطأ البشري ولا يمكن التمديد لها لأكثر من 12 ساعة! هذا ما يظهره جدول الدوامات الذي حصلت “نداء الوطن” على نسخة منه لشهر كانون الأول الحالي. فوجود 17 مراقباً مجازاً فقط يديرون الملاحة الجوية برمتها في لبنان، فيما الحاجة لقرابة 100 مراقب جوي، يفعل العجائب، ولو على حساب السلامة العامة.
هذه الصورة الحقيقية لتسيير مطار رفيق الحريري الدولي في كواليس الحرب. أما اليوم، بعد وقف إطلاق النار، فانتقل المطار الذي تحوطه الضاحية، من خطر الغارات إلى خطر الرصاص الطائش.
لكن دعونا نعود إلى صورة طائرة الميدل إيست المقلعة رغم كل شيء. ونسأل: تحت أي ظروف عمل الموظفون في المطار وكيف تمّ “تقييم المخاطر” الذي على أساسه سُيّرت الرحلات الجوية؟ وماذا عن اليوم التالي للحرب؟ فالمطار يخضع لتقييم منظمة الطيران المدني الدولي “الإيكاو” ICAO، على مستويات السلامة والأمن، وهي لا تخضع بدورها لمعايير تشغيل المطار “عاللبناني”!
من الحرب… إلى الرصاص الطائش
انتهت الحرب، ولم تنتهِ التداعيات النفسية على مراقبي برج المراقبة، فصوت الرصاص الطائش ما زال يصدر من الضاحية، لا ليذكّرهم برصاص الإخلاء قبيل الغارات وحسب، بل بالرصاص الطائش ما قبل الحرب، الذي يصيب مدرجات المطار بشكل يومي أحيانا ويهدد الملاحة الجوية، وسبق أن أصابت طلقاته زجاج برج المراقبة بالفعل في رأس السنة العام 2023 وفق ما يكشف سجل الحوادث اليومي لبرج المراقبة، عدا عن حوادث إصابته للطائرات وأشهرها، طائرة آتية من الأردن كانت النائبة بولا يعقوبيان على متنها أواخر العام 2022. هكذا “خلّص” المطار من خطر الحرب ليعود لمواجهة خطر الرصاص الطائش، فيما خطة وزارة الداخلية هي “مساعدة اللبناني لنفسه” وفق ما جاء على لسان وزير الداخلية بسام مولوي منذ أيام تعقيباً على هذه الآفة!
محاصرون في “غرفة زجاجية” قابلة للكسر
خلال 65 يوماً من الحرب، كان الخطر على المراقب الجوي، يبدأ من الطريق المؤدي إلى المطار. “فنفسية المراقب هي نفسية كل لبناني محطم في هذا البلد “فبدل ما يكون جايي مرتاح، ما عم بيفكّر بشي كان يعمل تحت ظروف قاهرة وصعبة”. بهذه الكلمات، يصف أحد المراقبين الجويين، مشاعره خلال مناوبته، حيث كان الرعب يصل لذروته مع كل غارة تصيب الضاحية “إذ كنا نخاف أن تكون قريبة منّا، جراء قوة الصوت والضغط الذي يرافقها، ويزيد من شعورنا بالخوف، ضرب إسرائيل للمطار العام 2006، ومكوثنا في غرفة زجاجية، لا نعرف أي لحظة ينهار علينا زجاجها من قوة القصف”.
لا تأمين على حياتهم
على الرغم من عملهم في منطقة نزاع مسلح، لا تأمين مخاطر على حياة المراقبين الجويين، فهم مشمولون فقط في تعاونية موظفي الدولة، وهو ما يكشف الاستهتار الفادح بأرواحهم، الذي ترافق مع “جوائز ترضية” تمثلت بوجبات طعام لا تصرف في قاموس حقهم بتأمين على الحياة يوازي تعريضهم حياتهم للخطر في سبيل أداء واجبهم.
“حكي العالم عن الميدل إيست وموظفي المطار وما حدا جاب سيرة المراقب الجوي، لولا المراقب الجوي لا في مطار ولا في ميدل إيست ولا أي عامل في المطار”. بهذه الكلمات يعبر المراقب عن الحمل الثقيل الذي ألقي على عاتقه وزملائه، الذين كان عليهم الانفصال تماماً عن الأحداث حتى لو أصابت منطقة سكنهم، والتركيز حصراً على سلامة الطيران، وهي مهمة دونها حرق أعصاب وقلق كبيران، فكيف إذا ما كانت ساعات عملهم 24 ساعة؟ تخرقها ساعتا “استراحة” على صوت قصف الضاحية؟
وأصعب لحظات المراقبة، كانت تلك التي يتزامن فيها هبوط طائرة أو إقلاعها، مع غارة في الضاحية، وهو ما رصده البث المباشر للمحطات التلفزيونية مراراً. ويشرح المراقب: “لقد أخّرنا هبوط طائرات تزامنا مع حصول غارات في الضاحية، أما تغيير مسار الرحلة، فلا يحصل إلا في حال احتدام الوضع”. وكل هذه المهام، تطلبت تركيزاً حضر بفعل الضمير المهني، في حين أن الضعط الوحيد الذي خفّت حدته، كان عدد الرحلات التي انحصرت بأوقات محددة وتقلصت إلى 20 في المئة.
تمّ دمج المراقبين في مبنى الرادار (المراقبة الإقليمية) مع مراقبي برج المراقبة (مراقبة المطار)، فتوزعوا إلى خمسة فرق، فكان المراقب يداوم 24 ساعة ليعطل 4 أيام. أما اليوم، فعاد ليعمل يوماً كاملاً ويعطل 3 أيام، مع استئناف رحلات الشركات الأجنبية، ليصل ضغط عمله إلى الذروة.
ووفق ما يظهره جدول دوام الموظفين وفق التعميم رقم 10/262 لمصلحة الملاحة الجوية، فإن مناوبة المراقب الجوي، هي 24 ساعة كاملة.
فعلى سبيل المثال، يعمل المراقب X يومي 1 و2 كانون الأول، وفق دوامين متواصلين: من الساعة السابعة صباحاً حتى الساعة 24:00 أي 12 منتصف الليل من تاريخ 1 كانون الحالي، ويعمل من تلك الساعة حتى الساعة السابعة صباحا بتاريخ 2 كانون الحالي، أي ما مجموعه 24 ساعة، دون توقف.
علماً أنه لا يسمح بالتمديد لأكثر من 12 ساعة لعمل المراقب الجوي وفق المعايير الدولية، حيث تكون ساعات العمل الطبيعية 8 ساعات فقط، لضمان التركيز على المهمة فائقة الدقة، حيث كلفة الخطأ فيها بالأرواح، كون المراقب مسؤولاً عن سلامة الملاحة الجوية.
ساعات العمل المضاعفة عما هو مسموح به دولياً، والتي تعرض سلامة الملاحة الجوية للخطر في السلم كما في الحرب، هي نتاج سوء إدارة، يضاف لعدم حلّ ملف النقص المزمن في عدد المراقبين الجويين، بفعل رفض الرئيس ميشال عون آنذاك توقيع مرسوم تثبيت الناجحين في مجلس الخدمة المدنية العام 2018.
أزمة المراقبين و”عهد عون”
ببساطة، يمكن القول إن ملف نقص المراقبين الجويين في مطار رفيق الحريري الدولي، انفجر بوجه اللبنانيين (الذين لم يدروا بانفجاره حتى) في أوج الحرب، فكانت الطائرات “سايرة” والرب حاميها” إضافة لضمير المراقب الجوي، في ظلّ غياب الضمير لدى مشغلي المطار، عدا عن رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، الذي زايد في هذا الملف بحجة التوازن الطائفي، فيما المراقبون هم من الفئة الرابعة ولا تشملها المناصفة بالتوظيف، في حين أن أي خطأ في الملاحة الجوية، لا يميز بين طوائف ضحاياه!
وواقع الحال اليوم، هو وجود 17 مراقباً جوياً مجازاً فقط، يناط بهم وحدهم تسيير الملاحة الجوية، يضاف إليهم 4 مراقبين قدامى، ممن جُدد التعاقد معهم، نسبة للحاجة الملحة، بينما هناك 15 معاون مراقب، غير مجازين، يساعدون المراقب ولا يستلمون مناوبة وحدهم، إضافة لـ17 متدرباً جديداً ممن نجحوا في مباراة العام 2017، وهؤلاء “لا إجازة لديهم ولا بيعرفوا يشتغلوا”، وكانوا يداومون في الحرب خلال النهار فقط واستعصي تدريبهم في هذه الظروف عدا عن الحاجة لأجهزة تشبيهية تمكنهم من التدرب.
الميدل إيست… نهتم بـ”نفسية” موظفينا
“أنا في بيتي خايف وأنا في المطار خايف”. كانت هذه إجابة أحد موظفي شركة MEAS (الشرق الأوسط لخدمة المطارات ش.م.ل)، في اليوم الأخير للحرب حول نفسيته خلال العمل.
طلب بعض الموظفين في مكاتب شركة الميدل إيست في المطار، إجازات سنوية مدفوعة، في حين وصلت الحوافز لمن عملوا خلال الحرب، إلى تقاضي راتبين في الشهر.
لكن الحوافز وحدها لا تشفي الموظفين من “تروما” الحرب. في السياق نسأل مستشار رئيس مجلس إدارة “الميدل إيست” الكابتن محمد عزيز، عما إذا كانت هناك خطط لمتابعة الصحة النفسية للموظفين بعد الحرب، ليؤكد “أننا نأخذ بالاعتبار اليوم الثاني للحرب، وندرك بأن وطنية الموظف، هي وحدها التي جعلته يعمل تحت ظروف الحرب، إضافة لثقته بتقييمنا للمخاطر”، مشدداً على “أننا سنكون حريصين على الموظفين بعد الحرب، تماما كما خلالها، حيث استحدثنا ضمن خطة الطوارئ في المطار، 15 غرفة في ملاجئ مع تجهيزات للإسعافات الأولية لموظفينا”.
تحليل المخاطر… إسرائيل تغلب المطار بالتكنولوجيا
خطة الطوارئ في المطار ، وتقييم المخاطر المستمر، كانا معيارين حاسمين لتشغيله طيلة فترة الحرب. صحيح أن جميع شركات الطيران العالمية توقفت عن تسيير رحلاتها إلى لبنان، لكن بقيت شركة الطيران الوطنية، الميدل إيست وحدها تعمل، لتقدّر نسبة عمل المطار بـ20 في المئة مقارنة بالأيام الطبيعية.
مقارنة بسيطة بين أعداد ركاب شهري تشرين الأول (135 ألف مسافر، و40 ألف عائد فقط) وتشرين الثاني (63 ألف مسافر و53 ألف عائد حتى يوم 25 تشرين الثاني وفق مصادر طيران الميدل إيست)، تظهر أن أرقام المسافرين والعائدين تقاربت في أواخر أيام الحرب. ولا يمكن إغفال أن تقييم المخاطر المستمرّ، والتطمينات للمطار بعدم قصفه، كانت عاملاً مساهماً بذلك.
أستاذة إدارة الطيران في جامعة Surrey في لندن الدكتورة نادين عيتاني، تلفت إلى “أن المنظمات الدولية المسؤولة عن سلامة الطيران، كمنظمة سلامة الطيران الأوروبية EASA، تصدر تعليمات عن درجة المخاطر في مجال جوي معين، وتقييماً بالإشارة إلى الأسلحة التي يتم استخدامها خلال الحرب ودرجة تأثيرها على سلامة الطيران والطائرات في المطار والمجال الجوي، وفي حالة لبنان، لم تكن الحكومة اللبنانية مبادرة proactive بل تتبع الإجراءات العالمية، أي كانت في حالة ردة الفعل Reactive”.
وتوضح “بأن إقفال المجال الجوي الذي لم يقفل إلا في حالات استثنائية مع الرد الإيراني على اسرائيل والعكس، وكذلك تسيير المجال الجوي، وتقييم المخاطر، كلها مسؤولية الطيران المدني في لبنان، وهو السلطة الأعلى للطيران التابعة للدولة”.
عيتاني ترى بأن لبنان الذي كان يعتمد بجزءٍ كبير في قرار تسيير مطاره على التطمينات الخارجية، “لا يستطيع أن يكون في موقع الفعل، وذلك لتأخره على المستوى التكنولوجي”. وتوضح “إن تقييم المخاطر يأخذ بالإعتبار الرادارات والمنظومات الدفاعية والأسلحة المستخدمة في الحرب، وهذا يتطلب جمع معلومات إستخباراتية وأمنية دقيقة وتكنولوجيا متطورة لرصد ذلك. وهذه القدرة متوفرة لدى دول أجنبية أوروبية كبرى، ولا يمكن للبنان جمع هكذا معلومات وحده”.
صلة الوصل الوحيد
هناك عامل آخر جعل المطار لا يتوقف عن العمل، عدا التطمينات. وفي هذا السياق، تشير عيتاني إلى “أن الدولة من خلال تسييرها للرحلات عبر طيران الميدل إيست، وفق تقييم المخاطر الذي كانت تحدثه، كانت تحافظ على المعبر الجوي الوحيد، كشريان حياة للبنان، فهناك مسؤولية الأمن الغذائي والصحي وربط لبنان بالخارج”.
بالعودة إلى موظفي المطار، فإن احتمال أن تفكر الميدل إيست، ببرامج للصحة النفسية لموظفيها، لا يقارن بانعدام احتمال ذلك على موظفي المطار، الخاضعين لمصلحة الطيران المدني، كمراقبي برج المراقبة، ولو أن الضرر النفسي على الجميع واحد.
ومن هنا تعلق عيتاني “تلك البرامج تأتي ضمن سياسات الموارد البشرية، لكن درجة نضوج الشركات عادة ما تعكس نضوج البلد ككل، ولا يمكننا توقع ذلك على نطاق واسع في بلد كلبنان منهار على كافة الأصعدة”.
المطار “تحت التدقيق”
يخضع لبنان لتدقيقين من منظمة إيكاو الدولية، تدقيق للسلامة العامة وتدقيق لأمن الطيران.
في السلامة العامة، الثغرات تطول، وأبرزها، ظروف عمل المراقبين الجويين مقارنة بمعايير تدقيق السلامة العامة، يضاف إليها عدم تطبيق لبنان للقانون 481 الصادر عام 2002 والذي ينص على إنشاء الهيئة العامة للطيران المدني، الناظمة للقطاع، والتي تحرره نوعاً ما من وصاية وزارة الأشغال، وبات هو الآخر بحاجة لتطوير.
أما التدقيق الأمني بالإضافة الى التجهيزات الفنية، فيشمل الحوكمة، وتعقب المسؤوليات بين الأجهزة الأمنية، وآلية تطبيق القوانين والمساءلة. في السياق، تشير عيتاني إلى الحاجة لـ”نفضة” للقطاع على كافة الأصعدة، فكل الوزارات ولجان النقل كانت تعتمد “الترقيع” وتحمل المسؤولية للوزارة أو لجنة النقل التي سبقتها.
إصلاحات جذرية
المطلوب إذاً، إصلاحات جذرية تبدأ بالقوانين التي عفّى عليها الزمن حتى قبل تطبيقها، ولا تنتهي بالصحة النفسية للموظفين الذين يسيّرون المرفق وحقوقهم الأساسية، كي يشعر الراكب بالفعل بأنه يمكنه الوثوق بأن القيمين على المطار، يخشون على حياته كما يخشون على حياة الموظف الذي يسيّر الرحلة، وحتى لا يكون إقلاع الطائرات المغادرة لبنان، كمصيره بعد الحرب، أي مجهولة المصير.