الملوّثات تفتك بصحّة الإنسان الجسدية والنفسية… والتصدّي العربي خجول
إرتفاع في نِسب القتل والخطف والانتحار في لبنان وتراجُع في معدّلات السرقة. هذا ما أكّدته المؤشرات الأمنية في الشهرين الأوّلين من العام الحالي مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. تزامناً، كشفت دراسة حديثة نشرتها الشهر الماضي دورية Nature Sustainability عن صلة غير متوقّعة بين جودة الهواء والصحة العقلية، وتحديداً الانتحار. فما العلاقة بين التغيّرات المناخية والصحتين النفسية والعقلية، وهل لبنان بمنأى عنها؟
الأرقام التي نشرتها «الدولية للمعلومات»، إستناداً إلى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، تشير إلى ارتفاع في أعداد القتلى بنسبة 91.3%، حوادث الخطف بنسبة 150% والانتحار بنسبة 14.3%، وإلى تراجع السرقة بنسبة 13%، خلال شهري كانون الثاني وشباط 2024. علماً بأن الأرقام الفعلية قد تكون أعلى من المصرَّح عنها بكثير. وفي حين يُتوقّع أن تسجّل هذه الرقام أعلى مستويات لها منذ العام 2012، عزت «الدولية للمعلومات» أسباب هذه الحالات إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وكذلك النفسية والشخصية. من جهتها، أشارت الدراسة آنفة الذكر إلى أن معدّل الانتحار يرتفع أسبوعياً في العالم بنسبة 25% مع زيادة بنسبة 1% في تلوّث الجسيّمات الدقيقة (PM 2.5). وتبيّن أن 16% من حالات الانتحار حول العالم تحدث في الصين التي تُعتبر من أكثر البلدان تلوّثاً.
في لبنان، طبعاً، ثمة أسباب «قاتلة» بأزمة مناخية أو بدونها. لكنّ الأرقام تفتح باب التساؤلات حول تأثيرات مناخية محتملة يمكن أن تكون سبباً رئيسياً وراء الحالات النفسية والعقلية التي يواجهها الإنسان، لا سيّما في ظلّ التغيّرات المناخية والاحتباس الحراري والملوّثات الهوائية التي تهدّد حياة البشر. الطبّ لدينا، كما في غالبية الدول العربية، ليس معنياً تماماً في التوفيق بين عِلم الجريمة، من ناحية، والتغيّر المناخي، من ناحية أخرى. فمسبّبات كثيرة تحول دون ذلك فيما الخطر يتحوّل من محتمل إلى حتميّ. ندع الشقّ اللامناخي جانباً ونجول لبنانياً وعربياً.
المناطق الحارّة والعنف… والانتحار
البداية من لبنان مع المتخصّصة في عِلم الجريمة، باميلا حنينه، التي أشارت في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أن الاحتباس الحراري والتغيّرات المناخية لا تقتصر تداعياتها على الكوارث الطبيعية وانتشار الأمراض، إنما على البنية الفكرية للإنسان أيضاً. فارتفاع درجات الحرارة يزيد معدّلات العنف لدى الإنسان بسبب ارتفاع حرارة جسمه، ما يجعله أكثر عصبية. «أثبتت الدراسات أن ارتفاع الحرارة بواقع 4 درجات مئوية يزيد احتمال حدوث نزاعات مسلّحة بنسبة 26%. كما أظهرت دراسات أخرى أن الأفكار السوداء زادت لدى غالبية الشعب الأميركي، ما قد يؤدّي إلى حالات انتحار. وهذا ضاعف من عمليات النزوح من مناطق حارة إلى أخرى أكثر اعتدالاً».
بالعودة إلى الصين، فقد لوحظ تقارُب كبير بين ارتفاع درجات الحرارة ونسب الانتحار. فقد شهدت البلاد أكثر من 25 ألف حالة انتحار بين العامين 2013 و2019 ارتبطت بدرجات حرارة غير مثالية. من هنا، نصح خبراء صينيون بضرورة العمل على حماية الصحة العقلية من خلال التدخّل المبكر والتعليم والدعم الاجتماعي لجعل الإنسان أكثر تكيّفاً مع المتغيرات المناخية. ما المطلوب إذاً؟ «يقال إن الأكثر تعرّضاً للانتحار هم ذوو المستويات التعليمية المنخفضة. لذا نحن بحاجة لإدراج الصحة العقلية مع استراتيجيات التكيّف مع التغيّرات المناخية، كما على الحكومة والقطاع الصحي والمنظمات الاجتماعية العالمية تقديم الدعم اللازم، خصوصاً في المناطق التي تشهد الكثير من التقلبات المناخية»، كما تجيب حنينه.
مجرم بـ«الفطرة» أو بـ«الجغرافيا»؟
في دراسة أخرى، قدّم علماء الجريمة أدلّة على أن التقلبات في درجات الحرارة، لا سيّما الارتفاع المفاجئ جداً، تزيد من معدّلات العنف (وفي طليعتها القتل والسرقة والاعتداءات الجنسية والجسدية). بينما يقمع الانخفاض السريع في درجات الحرارة الجريمة. «تؤثر تلك الدرجات على نوع الجريمة أيضاً. ففي جنوب فرنسا، مثلاً، وهي منطقة حارة، تكثر جرائم العنف، أما في شمالها البارد فتكثر الجرائم المالية. لكنّ ذلك لا ينفي وجود عوامل خارجية كثيرة أخرى تؤثر على سلوك الفرد. فوقوع جريمة في فصل بارد أمر محتمل».
نظرية الجغرافيا في عِلم الجريمة نظرية قديمة. فبين العامين 1826 و1833، ربط علماء بين المكان الجغرافي ودرجة الحرارة، من جهة، وبين معدّلات الجريمة، من جهة أخرى، ما استتبعه صدور «قانون الحرارة الإجرامي» و»قانون ميزانية الجريمة» اللذين يتناولان الجرائم العنفية والمالية في الأقاليم الحارة. «يظنّ البعض أن الجريمة ترتبط فقط بالسلوك البشري أو بالأمراض النفسية أو العقلية. لا شك أن نظرية «المجرم بالفطرة» تؤكّد وجود خلل نورولوجي أو مشاكل في الجهاز العصبي لدى بعض من يرتكبون أفعالاً جرمية، لكن معدّلات الرطوبة والضغط الجوي كما التغيّر المناخي جميعها عوامل تساعد على تحويل الشخصية إلى إجرامية»، بحسب حنينه.
وقد أسفت ختاماً لأن يكون الاهتمام في هذا الجانب غائباً عن لبنان كما عن معظم الدول العربية الرازحة تحت أعباء النزاعات المسلّحة والحروب والفقر، إضافة إلى نقص التمويل الكافي للقيام بالأبحاث العلمية اللازمة كما المتخصصين في هذا المجال. «من الدول العربية التي تعمل جدّياً على عِلم الإجرام والشرطة المجتمعية، قطر والكويت وإمارة دبي. وهي دول متقدمة من حيث العلوم والأبحاث. أما في لبنان فيستلزم الأمر تغيير ثقافة شعب بكامله وإدراج هذه العلوم ضمن المناهج التعليمية والتربوية».
إضطرابات عقلية ونفسية
من لبنان إلى المغرب، حيث اعتبر الباحث في إدارة المناخ والتنمية المستدامة، ورئيس جمعية «أكسجين للبيئة والصحة»، الدكتور أيوب كرير، في اتصال مع «نداء الوطن» أن التلوّث بشكل عام شبح يفتك بالبشرية، خصوصاً في السنوات الأخيرة وفي الشقّ الهوائي منه. فتلوّث الهواء يهدّد ملايين البشر سنوياً، بحسب تقارير الأمم المتحدة للبيئة. «تخيّلوا أن 80% من سكان المناطق الحرارية في العالم يعيشون ضمن أجواء هواء ملوّث. فهناك تقريباً بين 6 و7 ملايين وفاة مبكرة سنوياً بسبب التعرّض لهواء ملوّث. هذا إضافة إلى الأرقام الصادمة الأخرى حول الجزيئيات العالقة المسرطنة والملوّثات الدقيقة في الهواء كتلك التي تطرحها المصانع والمحطات الحرارية».
لكن كيف يؤثّر تلوّث الهواء على الصحة العقلية؟ ثبت علمياً أنه يؤدي إلى فقدان الذاكرة لدى مجموعة من الأشخاص، لا سيّما كبار السنّ. كما يؤثّر على الدماغ بنسبة كبيرة إلى حدّ تسبّبه بسرطانات فتاكة. وبالتالي، حين نتحدث عن فقدان الذاكرة والخلل الدماغي، فهذا إنما ينعكس حكماً على الصحة النفسية والعقلية. «لذا نجد من يقطنون في مناطق ملوّثة مضطربي الحال، ويظهرون سلوكيات غير طبيعية. وغالباً ما يكون الوسط الذي يعيشون فيه وسطاً حرارياً عرضة لمجموعة من الملوّثات والمقذوفات الحرارية الناتجة عن وسائل النقل والسيارات والمصانع والمحطات الحرارية»، وفق كرير.
للتحرّك لبنانياً وعربياً
صحيح أن الدول الصناعية الكبرى تستحوذ على الهامش الأكبر على صعيد تلوّث الكوكب، لكن ذلك لا يعفي الدول متوسطة القدرات من مسؤوليتها تجاه ما تنتجه من غبار أسود كناية عن الإفرازات التي تخلّفها المحطات الحرارية المنتجة للكهرباء، والتي تعتمد على الفيول الصناعي والمواد المحترقة غير المطابِقة للمعايير. «العالم العربي يتأثر بما تفرزه الدول الكبرى وهو أيضاً منتج للبترول. حتى أن الأخيرة تقوم مؤخراً بإنشاء مصانعها في الدول النامية للتهرّب من ضريبة الكربون وإخفاء جرائمها البيئية. المؤسف أن غالبية الأطباء في العالم العربي يتجنّبون ربط بعض التأثيرات الصحية والاضطرابات النفسية بالتلوّث. ذلك أن تبعات هكذا قرار قد تكون وخيمة على المؤسسات الملوِثة والحكومات والأجهزة، حيث يمكن للمواطن المطالبة قانونياً بتعويضات ضخمة للمعالجة».
العالم العربي مدعوّ لتطبيق القوانين البيئية الرادعة وبصرامة. فالقوانين موجودة، وهي تضاهي مثيلاتها العالمية، لكن الحاجة ملحّة لتطبيقها والتعامل مع مختلف الملوّثين على قدر من المساواة دون إغفال بعض الاستثمارات المدعومة خارجياً. «على الدول العربية أن تكفل الصحة والسلامة لمواطنيها عبر الالتزام بالمعايير ومواكبة المصانع بشكل دوري، لا سيّما الحرارية منها، والوقف الفوري لكافة المحطات المنتجة للكهرباء بواسطة الفيول الصناعي والمركّبات غير السليمة. كما على الأطباء التمتّع بتكوين بيئي يتيح لهم ربط بعض الأمراض بالتلوّث»، كما يختم كرير.
في العام 2013 وضعت الصين خطة عمل للسيطرة على تلوّث الهواء، والتحوّل من استخدام الفحم إلى الغاز الطبيعي، ما منع أكثر من 60 ألف حالة انتحار بين العامين 2013 و2017. وفي لبنان آلاف الأطنان تدخل سنوياً محمّلة من إسبانيا ورومانيا وسواها. المقارنة ليست عادلة بالطبع، لكن في الأرقام عبرة. فأين نحن من اتخاذ خطوات ما… أي خطوات؟