عرفتُ بيروت كئيبة كالغيم، مرحةً كالرقص، متناقضة كالعشق،محطّمةً كمرآة، مشرقةً كقمر، غاضبة كعاصفة، مزدحمة كأفكار، منشرحةً كمدى، مسبيّة كقديسة.عرفتُ مدينتي بكل تقلباتها وأمزجتها وأطوارها وتحوّلاتها وتواريخها وحروبها ومهرجاناتها ومعارضها وزماميرها وزعيق باعتها.
عرفت أرصفة، ووجوهاً، وأبنية، وأحياء، وزواريب، وشوارع، ومحال، وأشجاراً، ويماماً ومقاهي وشرفات وفصول. بطاقة هوية المدينة مطبوعة في ذهني بحرف نافر. فجر الثلاثاء بدت لي المدينة غريبة. مظلمة أكثر من الظلام. صامتة أكثر من الموت. حزينة أكثر من الحزن.
في الطريق من أدما إلى مطار رفيق الحريري الدولي، قدتُ سيارتي وسط عتمة كثيفة. لأوّل مرة منذ أعوام الحرب الأولى، أشعر أنني محاصر بالعتمة الشاملة. لا أفران مضاءة. لا أعمدة إنارة. لا إشارات سير. لا لوحات إعلانية. حتى القمر “طفّى ونام”. طوابير النهار نامت أمام محطات الوقود المعتمة. سيارات خصوصية وفانات وسيارات عمومية. غداً،أمام السائقين، يوم ذلّ آخر.
مع اقترابي من المطار، لاحت الأنوار. على الأقل هناك شيء مضاء. طريق الفرار من البلد مشعشع وسالك ويشهد زحمة لا مثيل لها. مؤشرٌ مقلق. القوى العاملة والقوى الشابة تغادر بلداً يشيخ بسرعة. شاخ لبنان خمسين عاماً في خمسة أعوام. ثمة ضرورة لتعديل النشيد الوطني. الشيخ باق. الفتى لا يريد الوطن. شعرت باطمئنان مشوب بالإشتياق المسبق، أن ريم، ابنتي، ستغادر جمهورية العتمة القوية إلى جمهورية ألمانيا الإتحادية لدعم اختصاصها بـ “ستاج” واستكمال دراستها الجامعية. تذكرت ما قاله لي سياسي صديق قبل فترة قصيرة ونحن نستعرض حال البلد المتحلل كثوب في آخر درجات الرثاثة وشعرتُ بما شعر به. “كل سنة يأتي ابني البكر من كندا لتمضية عطلة الصيف. وقبل أيام وفيما هو يغيب عن ناظري متجهاً عند أول نقطة تدقيق في صالة المغادرين، شعرتُ أنه لن يعود ثانية”.
سفرٌ للدراسة أو سفر للعمل تقليد لبناني قديم منذ القرن التاسع عشر والقرن العشرين أما السفر في السنة الحادية والعشرين من القرن الواحد والعشرين فله طعم الهروب من جمهورية العتمة. بات السفر حلماً جامحاً ومشتركاً بين الطموحين واليائسين والمغامرين والمحبطين والمتفائلين. تصدير الأولاد صار مهنة الآباء. أجزم كوالد أن والد مروان تراجع عن أقواله: لوين يا مروان عً مهلك / عَ مين تارك بيتك وأهلك ؟” وهناك خبرية في البلد أن والد مروان اعتدى بالضرب على مطرب صاعد تجرأ وغنى “بيّ بيّ الغربة الوطن حنونا”.
كنا خمسة في السيارة ذهاباً وأربعة إياباً. بعد سنة سنتوجه إلى المطار أربعة ونعود ثلاثة، وبعد أربع سنين، سنذهب ثلاثة ونعود اثنين. وبعد خمسة أعوام، ومع تحسن التغذية الكهربائية، سيتوجّه رجل وزوجته إلى المطار ويعود التاكسي لوحده !