“الخميني” في الاستقبال وشعارات استُحدثت وصور
بين أغنية كاظم الساهر “يا رايح لبنان ودي لحبيبي سلام” وأغنية جوليا “وين مسافر أوعى تسافر” وعبارة “أهلا بهالطلة” التي أتحفتنا بها وزارة السياحة في صيفٍ مضى، وفي ظلِّ وقف إطلاق نار قد يباغت في أيّ ثانية – لبنانيين مغتربين وزواراً – بحربٍ تستجدّ… سرحنا “ع طريق المطار” ذهاباً وإياباً علّنا نطمئن إلى أن الآتي أفضل ونهمس في أذن قريب وحبيب وصديق: اشتقنا. مشينا بحذرٍ شديد واكتشفنا بيقين كبير: لا، أن الأمور ليست يا أحباب بخير. طريق المطار يستمرّ مخطوفاً تحت حجج: “سنقاتلهم” و”يا قدس نحن قادمون” و”القدس وكربلاء دربنا”. فيا من تستعدون للقدوم إلى لبنانكم لا تتفاجأوا حين تهبطون في أرض المطار وتعبرون في أول ثوانٍ: جادة الإمام الخميني!
يا حرام يا لبنان. خُطفت منذ عقود ولم يرتدع الخاطفون وما زالوا يجلدونك بسوطٍ لا تستحقه. هم يظنون أنهم يجلدون العدو متناسين- أو غير مبالين- أن البلد “ع آخر نفس”. وأن الوطن أمان. فليُترك الناس “بقا” في أمان. فلنقصد سوياً مطار رفيق الحريري الدولي. اليوم، عيد القديسة بربارة. الأزياء التنكرية تقليد. البارحة، ليلة العيد، تنكر الأطفال بأزياءٍ ووجوه طالبين من القديسة تعرية كل الوجوه من كل قناع مزيّف، وهي التي علمتهم أن المحبة تُسقط كل الأقنعة. نعبر شرق بيروت. نمرّ في الأشرفية وبدارو والطيونة نزولاً نحو المطار بحثاً عن تفاصيل اللحظة “على حقيقتها”. هنا، على هذا الطريق، نتذكّر ابن مغدوشة جوزف صادر. هنا اختفى ذات يوم.
مبان هُدّت ومبان تمسح جروحها وكهول ينبشون في براميل النفايات المكدسة عند جانبي الطريق. صهاريج تروح وتجيء وعبارة ملفتة: “وجعلنا من المياه كلّ شيء حيّ”. باعة موز وكلمنتين على مدّ العين ولا شيء، لا شيء سوى ذلك، “يفتح القلب”. أكياس نايلون تتطاير. وآرمة ترحب بنا: “جادة الإمام الخميني”. هي آرمة ثقيلة على النظر والسمع. لو قلتم: جادة رينيه معوض أو بشير الجميل أو رفيق الحريري أو كمال جنبلاط أو حتى حسن نصرالله لشعرنا بلبنانية المكان أما أن نعبر، في قلب شريان بيروت، في جادة الإمام الخميني فهذا يُنبئنا بإصرار من جروا البلد مرة ومرتين وثلاثاً إلى الموت على التفاني من أجل “الاستعمار الإيراني” للبنان.
السير يمشي. لا زحمة. ووحدها التماثيل والصور المنتشرة تزدحم على الميلين. لا وجود لعلمٍ لبناني على طول الطريق. ووحدها الصورة المتكررة للسيد حسن تُظهره مرات ملتحفاً- عن قصد- بلونين أحمر وأخضر (لون العلم اللبناني) ومرات بلونٍ أصفر طبيعي باهت. ما عدا ذلك نبحث ملياً عن لبنان فلا نجده لا لون ولا حضور. نمشي بين شعارات “المقاومة سرّ بقائنا” و”وإن الله على نصرهم لقدير” فتطالعنا أغنية عبر أثير “لبنان الحرّ”: لبنان جنة مقدسة أوعا تخاطرو فيا هيدي وصية مكرسي ومجد الرب حاميها والأنبيا مشيو عَ تراباتها”. نطمئن.
نتابع. صور السيّد حسن على الميلين مذيلة بعبارة: “ولى زمن الهزائم جاء نصرالله” و”أبي وفي وشجاع”. مبنى ألدورادو مغلق. يافطة مرفوعة على جسر قريب من مستشفى الرسول الأعظم: “من أرض الرافدين إلى جبال الأرز رسالتنا واحدة وتاريخنا واحد”. شعارٌ مقدم من جمهورية العراق- فزعة عراقية (حملة عراقية مساندة للنازحين). دواليب مرمية في نصف الطريق، وشباب يتحلّقون لتركيب عشر صور جديدة لسيّد “حزب الله” الراحل بأشكالٍ مختلفة: واحدة يضحك فيها وواحدة يرفع الإصبع وثالثة يقرأ القرآن ورابعة يعبس… (مقدمة من محمد دياب) “الشغل ماشي” على طريق المطار.
كئيبة هي التفاصيل. وشعار “مزلزل”: “مهما كانت التضحيات لا يمكن أن تتزلزل لنا قدم”. لماذا كل هذه الشعارات والصور والتماثيل والتحدي؟ ألا يستحق لبنان فسحة أمان؟ ألا يستحق من يفكرون بزيارة لبنان أن يروا الوجه المشرق من لبنان: فيروز وصباح ووديع الصافي وجبران خليل جبران و”أهلا بهالطلة”…؟ شعار يعترض نظرنا مجدداً: “يا قدس نحن قادمون”. يتبعه ثان: “الله من نصر”. يتبعه ثالث: في أمان الله يا شهيد”. يتبعه رابع: “نعاهد شهداءنا الأبرار أننا سنواصل دربهم أيا تكن التضحيات”. يتبعه خامس: “لو كانت هزيمتنا باستشهاد قادتنا لكانت كربلاء نهايتنا”… الشباب، منذ سرى الاتفاق وتراجعوا إلى ما قبل الليطاني، وهم ينغلون في طباعة الصور والشعارات. و… نصل إلى المطار: رافقنكم السلامة. مبنى الميدل إيست على اليمين. مبنى كبار الزوار بلا زوار. وثكنة الياس قرداحي قاعدة بيروت البحرية هنا. ودركي يتسلّى بهاتفه. وعمال يقلمون الأشجار حول المطار. نلقي التحية ونعود أدراجنا.
في ميل العودة آرمة: لبنان يرحب بكم Welcome to Lebanon. سيقرأها الزائر والمغترب الآتي قبل أن تبادره آرمة قريبة جداً بحقيقة “على الأرض”: “أهلا بكم في جادة الإمام الخميني”. تتبعها مباشرة صورة عملاقة تجمع “الأستاذ” (نبيه بري) و”البيك” (سليمان فرنجية). يليهما مباشرة شعار: “نحن سادة عند الولي الفقيه”. الشعار تقدمة فهد المولى. صور جديدة تُشكّل ما يشبه “الزنار” تحت أشجار النخيل اليابسة تجمع كل قادة الصفر- لبنانيين وإيرانيين- الذين قتلوا في حرب الإسناد. الصور مقدمة من محمد دياب إسماعيل. وجنبها تقع “إسماعيل ماركت”.
هذا ما سيراه القادمون من كل العالم إلى “سويسرا الشرق”. وأكثر شعار حقيقي عُلّق على طريق المطار: “الخبر ما سترون لا ما ستسمعون”. هذه كلّ الحقيقة. لم نرَ انتصارات ونسمع عن انتصارات. في كل حال، ما رأيناه البارحة جعلنا نردد: يا الله يا الله… أين لبنان على طريق المطار؟
إذاعة البشائر هنا. قناة الإيمان هنا. إذاعة النور هنا. مجمّع سيد الشهداء. محطة الأيتام… كلّ الأسماء، على طول الطريق، تستمرّ في تذكيرنا أننا لا ولن نعيش طبيعياً. تعب الناس. من يبحثون في القمامة يزيد عددهم عن العابرين. نتجه نحو المدينة الرياضية. فلربما يتمكن الزائر الذي اشتاق إلى لبنان من العبور من دون أن تحجب عيناه كل مظاهر الموت. هناك تتكرر أيضا الصور التي رُفعت حديثاً. سيراها أكيد “الزائر” ووحدها عبارة خرطشها أحدهم على أحد جدران المدينة الرياضية وقد صدقت: “ليش مكشّر يا حبوب”. إنها أجمل ما كتب على طريق مطار بيروت الدولي.