على وقع المآسي المتناسلة وآخرها في عكار المألومة، وعلى مشاهد طوابير الذلّ التي تزداد طولاً وكثافة، يحلو للفريق الرئاسي ممارسة اللعبة السياسية والإعلامية بكثير من العبثية وقليل من الذكاء والفطنة.
يُمعن هذا الفريق في إثبات حالة الإنكار السياسي والذهني التي يعيشها، وحوله شلّة من الانتهازيين وقليلي الخبرة الذين لا يجيدون إلا الألاعيب الصبيانية. يعتقد الذين يتحكّمون بموقع سلطوي يعينهم غيابه عن الواقع المعاش، أن ممارسة السلطة والعمل السياسي ليست سوى اختراع الأفكار الهادفة إلى تحويل الانتباه عن المشاكل الجوهرية التي تقع عليه إيجاد الحلول لها أو المساهمة فيها. التعاطي مع انفجار خزّان الوقود في عكار الكارثي واحد من الأمثلة.
لكن مجزرة عكار الناجمة حكماً عن الإهمال وتغطية البعض لأعمال الاحتكار والتهريب والانتفاع بالشعارات الكبرى، دليل إضافي على توالي مظاهر انحلال الدولة وتداعيات اهتراء مؤسساتها، والتهاء المسؤولين بالتناحر على المواقع وتمديد الفراغ الحكومي لإبقاء السلطة التنفيذية معطّلة من أجل ممارسة وهم القدرة على التفرّد في الحكم، فيما الحقيقة أن هذا الوهم يقود إلى تخريب كل آليات ممارسة المؤسسات دورها. أليس الفراغ في السلطة وتعطيل الحكومة وترك الأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية على غاربها هو ما يقود إلى الفوضى وإلى التعمية عن المسؤوليات، وإلى إضاعة الحقائق وإفلات توزيع الاتهامات للغرائز، وإخضاع مسالك المحاسبة للعشوائية؟
قبل حرف الأنظار عن انفجار عكار قامت حملة بتحميل المسؤولية لقرار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة رفع الدعم، فجرى حرف الأنظار عن الأسباب الموجبة لهذا القرار، بدءاً بالتهريب والاحتكار وتخزين المواد المدعومة بحمايات سياسية، وبتحميل صاحب القرار مسؤولية التسبّب بفقدان السلع المدعومة، فيما كشفت دوريات الجيش خلال اليومين الماضيين أين يجري هذا التخزين، وكيف وتحت حماية من، فيما التهريب موثّق لدى الجميع مع مسالكه وهوياتها. وقبله أيضاً جرى حرف الأنظار عن موافقة الفريق الرئاسي على هذا الإجراء، كأن لا ذاكرة لمن استمعوا إلى تحذير رموزه من رئيس “التيار الحر” النائب جبران باسيل من المس بالاحتياطي الإلزامي قبل بضعة أسابيع، من باب المزايدة.
وبعد ساعات، جرى حرف الأنظار عن مسؤولية من يتّخذ القرارات التنفيذية عبر المجلس الأعلى للدفاع، عن أزمة رفع الدعم، بعدما أوهم هذا الفريق نفسه بالقدرة على استرداد صلاحيات الرئاسة بالممارسة عبر تعطيل تأليف الحكومة، بإرسال رسالة إلى البرلمان تطالبه باتخاذ “الإجراء المناسب” في ما يشبه الشكوى على سلامة. ألم ينتبّه جهابذة تدبيج الرسالة أن إحدى مفاعيلها تسليم مقاليد السلطة التنفيذية إلى السلطة التشريعية، بسبب تكراره الرسائل وآخرها رمي مسؤولية معالجة المفاعيل السلبية لرفع الدعم على البرلمان، في وقت تعود هذه المهمّة إلى من يدّعي ممارسة الحكم. ألم يفطن هؤلاء إلى أن مطالبة البرلمان بـ”الإجراء المناسب” هي دليل إلى أن التفرّد باتخاذ القرارات لا يؤتي أي نتيجة، وأن من لا تنفع قراراته تفضي إلى التساؤل عن سبب بقائه على رأس السلطة الموهومة؟
إذا كانت الخطوة تهدف أيضاً إلى حرف الأنظار عن أولوية تشكيل الحكومة التي لا بد منها لمعالجة رفع الدعم، كأحد عوامل المأزق الاقتصادي والمعيشي القاتل الذي يزيده الفراغ الحكومي عمقاً، بات الجميع يدرك أن اختراع الحجج تارة باسم حقوق المسيحيين، وأخرى بالاعتراض على توزير يوسف الخليل للمقعد الشيعي ثم بالتراجع عن الاعتراض، وبطرح مطالب أخرى تعجيزية للإبقاء على الفراغ، بات مكشوفاً أمام القاصي والداني في الداخل والخارج. صار الداخل والخارج مدركين أكثر من أي وقت أن الفراغ أدّى منذ أكثر من سنة إلى الاهتراء البطيء، وأن هناك حليفاً قوياً للرئيس الضعيف يتخبّط، فتارة يخترع بدوره الأوهام لتسويغ إطالة الفراغ بمواصلة التصاقه بالحليف الرئاسي لأهداف أخرى هو “حزب الله”، ويطلب قيام حكومة في أسرع وقت ويقرّ بفداحة الفراغ. من مظاهر أوهام الحزب ما جاء في بيان كتلته النيابية الخميس الماضي عن “هجمة عدوانية هدفها عزل قوى المقاومة وإقصاؤها عن التأثير في الشأن السياسي والاقتصادي والدفاعي للبلاد”، متّهماً هذه “الهجمة” بـ”دعم مجموعات السفارات”. أي عزل هذا إذا كانت السفارات المقصودة تقول لمن يهمّه الأمر، إنه على من يتحجّج بموقفها السلبي من الحزب، ألا يتلطى بها لتأخير تشكيل الحكومة، حتى لو شارك الحزب فيها بطريقة أو بأخرى؟
هل عدّل الحزب الموقف بدعوة الأمين العام السيد حسن نصر الله إلى تشكيل حكومة خلال 3 أو 4 أيام، بعد فاجعة عكار؟