“التليل” عاشت جهنم الحمراء
وضع أحد أبناء عكار دولاباً محفوفاً، مهترئاً، غير صالح، تسير عليه “مركبة” وقال: كيف يمكن لدولة إقناع صاحب هذا الدولاب بتغيير كمامته كل ثلاث ساعات؟ وكيف يمكنها إقناعه أن البنزين خطر والتهريب ممنوع؟ وكيف يمكن أن يقنعه أحد بالإقتراع لغير طاقم النواب الذين انتخبهم وحرقوه؟ هؤلاء، نواب أمة عكار، الذين رموا الإتهامات على بعضهم بعضاً ظناً منهم أنهم بذلك يُبعدون عنهم كأس الجريمة التي هم شركاء فيها حتى الثمالة!
هل هو “المستقبل” من فعل ذلك أم “التيار الوطني الحرّ” أم القرود الحمر؟ وهل تكمن كل النتيجة هنا أم في عشرات الشباب الذين يتقلّبون الآن في أسرتهم، كما الطير المذبوح، بسبب حروق تصل نسبتها في بعض حالاتهم الى مئة في المئة، وفي دموع أمهات وآباء خسروا في لحظة، في أقل من لحظة، في بيت واحد، ولداً وإثنين وثلاثة؟
تعب اللبنانيون أما الساسة فلا. اللبنانيون، عكّاريون وغير عكاريين، رفعوا العشرة، فما يحصل كثير. إنها الإبادة. وحين يُصبح المصير هشّاً، على المحك، كما اليوم، لا يعود كل الكلام الإنشائي مقبولاً. ويُصبح لزاماً البحث في اللبّ. فماذا في لبّ مجزرة عكار؟
قبل أن يُصبح عشرات العكاريين أشلاء، وهم على فوهة خزان الموت، كانت مئات غالونات البنزين مشلوحة على طرقات مدن وقرى عكار، وتحت عين الشمس، تباع في السوق السوداء. ولم تحرّك الدولة ساكناً. إنها شريكة. وهذا هو التفسير شبه الوحيد لتخاذلها. العكاريون مضى عليهم أشهر بلا محروقات شرعية ومن يُحرم لا يعود يميّز بين الخطأ والصواب، وبين التهريب واللاتهريب، لكن، ماذا عن نواب عكار الذين تراشقوا التهم وكأن كل طرف براء من دماء ضحايا مجزرة 15 آب؟
فليرحلوا جميعاً. فليرحل كل السياسيين المتخاذلين. هذه هي إرادة الشعب. وأحد العكاريين ردد: “حرقوا جبالك يا عكار، حرقوا ولادك يا عكار، وين رجالك يا عكار؟”. هو غاضب جداً. كثيرون غاضبون مثله. لكن من فعل بهم ما فعل؟ هم لم يستثنوا “التيارين”، “المستقبل” و”الوطني الحرّ”، فهل هما بالفعل شريكان؟ وماذا عمّن ابتسموا وقالوا: إتهمتم “حزب الله” بالتهريب وهو من ذلك براء “فالتهريب شمالي الهوا”؟
جواب أحد نواب عكار نفسها واضح، كما عين الشمس: كلهم مشاركون. ولتجرؤ الدولة وتبحث في شمال شرق البقاع وفي الجنوب، في بيئة “حزب الله” تحديداً، وستكتشف مئات الخزانات التي تحوي أطناناً من المواد التي قد تشتعل وتُشعل كل من حولها. فلكلِ طرف بيئته. ولكلِ مشارك معبره. وكلهم في خدمة سوريا الأسد. والرئيس سعد الحريري مشارك بشكلٍ أو بآخر. فنوابه العكاريون بأكثريتهم، “زلمة النظام الأسدي”، والزلم لديهم أيضاً زلم، وزلم الزلم لديهم أيضاً اتباع. نسأل العكاريين، الذين ما زالوا تحت وقع الصدمة، فيتكلمون ويسهبون: “كل من تراشقوا الإتهامات حلفاء. كلهم تشاركوا في الإتيان بنواب يوالون سوريا أولاً”. “المستقبل” و”الوطني الحرّ” تحالفا في الإنتخابات النيابية فتمخضت لائحتهما عن مصطفى حسين وأسعد درغام (تيار وطني حرّ) وطارق المرعبي ووليد البعريني ومحمد سليمان (مستقبل). ومصطفى حسين، على سبيل المثال، قال بدل المرة مرات: أنا مع سوريا. مظلتي سوريا. وأنا مع المقاومة خط أحمر. وفي السياسة مع “التيار الوطني الحر”. ولن أتخلى ما حييت عن قناعاتي. طارق طلال المرعبي ووليد وجيه البعريني أيضاً، وعلى “راس السطح”، مع سوريا. فهل يفترض أن نسأل: كيف لمن ناهضوا سوريا الأسد أن يأتوا بأزلام سوريا؟ هذا هو التكتيك السياسي الذي يمارسه سياسيون لبنانيون يفكرون بمصالحهم أولاً وآخراً.
معادلة البيزنس
نائب عكار السابق معين المرعبي، الذي رأى نفسه بعيد انتخابه قبل دورتين أنه في المكان الخطأ، يعرف “أن في السياسة تطغى معادلة “البيزنس”، وهذا تحقق يوم تحالفَ التياران البرتقالي والأزرق في العام 2018، من خلال المصالح الشخصية بين سعد الحريري وجبران باسيل. فالسياسة اللبنانية تهيمن عليها “البيزنس” مثل العادة”. هنا اللبّ. وهذا ما يُفسر أن الكل شركاء.
في “البيزنس” تستباح الأمور. ومن يظنون أنهم أذكياء يخالون أنهم لا يخسرون. وما يحصل في لبنان أدى الى خسارة الجميع. وما حصل أخيراً في عكار أعاد تركيز العكاريين أولاً على أصل وفصل نوابهم. فنواب عكار (بغالبيتهم) سوريو الهوى. وبعضهم يقدمون مصلحة الشام على مصلحة بيروت وعكار وطرابلس وصيدا وصور. فإذا كان “التيار الوطني الحرّ” متحالف، في السراء والضراء، مع “حزب الله” ومن خلاله مع سوريا، ولديه حساباته في “الخضوع”، فما الذي يُجبر “المستقبل” على الإتيان بهذه النوعية من النواب؟ هناك، في عكار، ينقلون عن سعد الحريري إجابته عن هذا السؤال بالقول: “هؤلاء تابوا” في إشارة الى تراجعهم عن علاقتهم التاريخية بسوريا. أخطأ هنا أيضاً سعد الحريري.
من خلال هؤلاء النواب وأمثالهم اشتدّ التهريب في الشمال، ومن خلال “حزب الله” يشتدّ التهريب عبر مسارب الهرمل والبقاع، والقصير شاهدة، وهذا إشارة، لسوء حظ اللبنانيين، الى أن كثيراً ممن أعطوهم ثقتهم أخلّوا بها. لبنان جاع إكراماً لسوريا الأسد. اللبنانيون في جهنم وهناك من يحملون الجنسية اللبنانية ووكالة تمثيلية عنهم باعوهم بقرش من الفضة.
قرية التليل في عكار دفعت ثمناً باهظاً جداً. وكثيرون ممن اتهموا بوضع البنزين يتبعون، اقله في الظاهر، لنواب “تيار المستقبل” في عكار. أشخاص من آل فرج متهمون. الإبن علي وهو في السجن هو المتهم الأول، أما الآخرون، والده والأشقاء: صبحي وعلاء وعادل… فيضعون صور وليد البعريني ويذيلونها بعبارات من نوع: “القائد. الضمانة. الأمل. تاج راسنا”… هذه هي المعادلة التي “تمشي” فيها الأمور من “زمان وجاي” فتتلاقى المصالح بين الزلم وزلم الزلم على حساب الناس العاديين.
مسؤولية بعض نواب عكار، كما بعض الأطراف في لبنان، أنهم أحبوا سوريا أكثر من لبنان.
ماذا عن وجع العكاريين؟ يتحدث النائب السابق معين المرعبي ويطرح قبل الإجابة سؤالاً: “هل يمكن ان يجيبني أحد عن 100 ميغا واط من الكهرباء التي تأتينا من سوريا. كيف تتوزع؟ لا تزال تزود سوريا لبنان بها أم لا؟ وكم يدفع لبنان للنظام السوري عنها؟”، (وكان لبنان قد رصد في 2017 إعتمادات بقيمة 500 مليار ليرة لبنانية بدل ذلك)، يضيف: “هل يمكن أن يخبرنا أحد عن عدد جرحى حزب الله، في معارك سوريا، الذين جرت طبابتهم على حساب وزارة الصحة في لبنان؟”.
عكار موجوعة جداً. إنها تتألم وتصرخ. فهل كان مطلوباً أن تحترق ليسمعوا؟ وماذا بعد يومين وأسبوعين: ألن يعودوا وينسوا؟ معين المرعبي يقول أن لا خبز في عكار أبداً. والعسكريون الذين يشكلون خزاناً بشرياً فيها لا يملكون حتى أجرة الإنتقال”. أحد العكاريين يجلس الى جانبه يُخبر: “أمس صعد معي “أوتوستوب” عسكري وأقسم أن ليس في جيبه إلا عشرين ألفاً للبحث عن خبز”.
دوامات التهريب
كلام كثير نسمعه هناك. وأحاديث عن مسالك التهريب التي لا تُخفى على أحد. أحدهم يشير الى كيفية توزيع أيام التهريب عبر قرى وادي خالد: تهريب الماشية أيام الأحد والثلثاء والخميس، وتهريب الحديد والخردة أيام الإثنين والأربعاء والسبت. أما المحروقات “فماشي” تهريبها طوال الأسبوع. أما في المقلب الآخر، عبر البقاع والهرمل والقصير، فالتهريب يشمل السيارات المسروقة والمحروقات على أنواعها ليل نهار. هذا ما يحدث في لبنان “على عينك يا تاجر”. وفجأة، عند حدوث مكروه، تظهر “دولتنا” بشكل المرأة المدهوشة التي تفتح ثغرها ولا تعرف بماذا تجيب وتبدأ بتراشق التهم: “هوي مش أنا”!
عدد الضحايا كثر. رائحة الدماء فاحت قوية. والأجساد التي باتت فحماً وجمراً شاهد آخر على أننا في جهنم الحمراء. فهل سنخرج منها أصحاء ام علينا أن نسأل: هل هناك بعد ما هو أسوأ من جهنم؟