نبيع السمك في الماء
على طول الأوتوستراد الدولي من طرابلس باتجاه عكار تبدو حركة السير ناشطة نسبياً. مراقبة الطريق تعكس واقعاً مؤلماً هنا: خط طويل مليء بالحفر والمطبات (وللمفارقة يُسمى أوتوستراداً دولياً!). مارة يتنقلون من دون أسلحة الوقاية (كمّامات وقفّازات). محال ميكانيك سيارات كثيرة شرّعت أبوابها. رجال وأطفال مُلطخة أياديهم بزيوت محركات السيارات وسواد إطاراتها. سائقو سيارات أجرة في ساحة العبدة لم يملّوا بعد انتظار الركاب. عناصر من قوى الأمن الداخلي بوجوه شاحبة، يضعون الكمّامات على أنوفهم، ويتأملون الفوضى.
وحدها مسمكة العبدة تلفت الانتباه. “مقفلة منذ أسبوع”، يقول الدركي. صمتت أصوات “الباعة والشرّايين” وانقضى زمن المزاد العلني. لكن إلى متى؟ الجواب يقودنا إلى مشوار في “حيّ البحر” العكاري.
صمت مطبق يُخيّم على المكان، تخرقه بين الفينة والأخرى أمواج عاتية تصطدم بالصخور. من بلدة قبّة شمرا في السهل العكاري وصولاً إلى بلدة تلّ حياة، لا شيء سوى السكون وعدد من الأطفال يلعبون قبالة البحر. حطّت رحالنا في منزل آل الأحمد. 5 إخوة يتوزعون على ثلاثة منازل ملتصقة ببعضها البعض.
ينهمك الأخ الأكبر عصام بتقطيع الحطب للتدفئة: “البرد شديد هنا. نحتاج إلى حطب للتدفئة حتى انقضاء شهر نيسان. يخال البعض أن البرد لا يحط إلا في أعالي عكار، متناسين أن البحر يحمل البرد والرطوبة معاً، والآن ربما يحمل الكورونا!”. يغسل عصام يديه ويُكمل: “مصيبة وحلّت علينا وكأنه لا يكفينا ما نعيشه من مآسي في هذا البلد وفي هذه المحافظة تحديداً”، مضيفاً: “كلنا في هذه القرية صيادو أسماك. لا نجيد حرفة أخرى. منذ أسبوع أغلقت المسمكة في عكار وأُجبرنا على التوقف عن العمل”. يضيف ابنه عماد بحدة: “يوم اتخذ قرار إقفال المسمكة كنت قد اصطدت صيداً وفيراً. تخيلي أنني رميته كله ولم أجنِ فلساً”. يضيف ابن الـ16 عاماً: “مخطئ من يظن أن الصيد أمر سهل أو غير مكلف. لا يا عيني، إنه مكلف ومتعب ويحتاج جهداً وصبراً، فالبحر في هذا الوقت من السنة يكون بخيلاً”.
عماد ترك المدرسة باكراً. تعلّق صاحب الوجه الطفولي الجميل بالبحر وكره العلم. بالنسبة إليه من يريد أن يمدحه فليُنادِه بـ”الكابتن عماد”. أن يسمع عبارة “الصياد عماد” أهم ألف مرة بالنسبة له من نيله علامة 10/10 في المدرسة. منذ أزمة الكورونا مُنع عماد من ارتياد البحر. يقول والده: “بات يتخبط كالسمكة فور إخراجها من الماء. لكنه فهم أخيراً أن لا طائل من الصيد. فضلاً عن أن الجيش يُسيّر دوريات باستمرار في المنطقة بحثاً عن الخارجين عن القانون، وسنكون منهم إن خرجنا من منازلنا”. “لكن كيف نعيش؟ هل سنموت من الجوع؟” يرد عماد. يبقى سؤاله محلقاً في فضاء المنزل. لا أحد يتجرأ على الإجابة. المسمكة مقفلة حتى إشعار آخر، فوفق عصام: “إن غالبية المحال في المسمكة تعود ملكيتها لأشخاص من بلدة ببنين. وعقب انتشار الخبر عن وجود عدّة إصابات بالكورونا في تلك البلدة لم يعد أحد يتجرأ على التردد الى المسكمة. حتى لو اتخذ قرار إعادة فتحها، فإن الناس لن تُقبل على الشراء خوفاً من التقاط العدوى بالمرض، وكأننا بتنا كمن يبيع السمك في الماء”. على غفلة يحضر بلال، شقيق عصام وعمّ عماد. يقطن في الطبقة الثانية من المنزل مع زوجته وأطفاله الأربعة. يسأل: “تتحدثون عن كورونا؟”. “وكأن لدى شعوب العالم حديث آخر”، يرد عماد. يرمي بلال سيجارته من فمه ويردف: “صراحة خسارتنا لا تعوّض، فلو صادف اتخاذ قرارات منع التجوّل وإغلاق المسكمة في وقت آخر لما كنا تأذينا إلى هذا الحدّ. فبالنسبة لنا إن فترة الصوم لدى المسيحيين موسم الربح. المسيحيون يأكلون السمك كثيراً في هذه الفترة، وهم يشترون أجود الأنواع منه، خصوصاً المسيحيون القادمون من جبل لبنان وبيروت. هؤلاء يشيدون بجودة السمك العكاري وبنكهته فيترددون إلى هنا للشراء ولا سيما في عيدي البشارة والشعنينة”، مضيفاً: “أذكر أن إشكالاً وقع في المسمكة منذ عامين تقريباً بين رجلين مسيحيين على خلفية “شَيلة سمك” كبيرة. كانوا “دفيعة” ولا يجادلون كثيراً في الأسعار. في هذين اليومين لا يبقى “طرف” سمكة في المسكمة. كل شيء يُباع ونعود نحن إلى منازلنا محملين بغلة تكفينا لأسبوعين على الأقل”.
يحاول “أهل البحر” عدم التفكير كثيراً بمصابهم، إلا أن مشاكلهم وهمومهم الكثيرة تمنعهم من ذلك، فيعودون إلى التذمر والنقاش بحثاً عن حلٍ ما. طفلان من أولاد بلال مصابان بمرض التلاسيميا. يعاني الرجل في تأمين العلاج اللازم لهما: “ما أجنيه من أموال لا يكفي لإطعامهما، ولكنني أحاول قدر المستطاع أن أقوم بواجبي تجاههما. الآن ازداد الأمر سوءاً بسبب توقف الصيد لم يعد لدي أي مدخول”. عتب بلال على الدولة كسواه من أبناء عكار. الدولة بمختلف وزاراتها ومؤسساتها تشيح بوجهها عن المحافظة الأكثر فقراً في لبنان منذ سنين. لا يُسأل الناس هنا عن احتياجاتهم، وإن سُئلوا لا يتغيّر شيء. عديدة هي التقارير التي كتبت وتكتب عن حال عكار (تماماً مثل هذه السطور) لكنها لم تُهز رمشاً واحداً لدى أي مسؤول. بحسب بلال: “لا شكّ أن قرار إقفال المؤسسات والحجر المنزلي صائب، ويصب في مصلحتنا بهدف عدم الإصابة بالمرض، ولكن من يُطعمنا؟ من يُقدم لنا قوتنا اليومي؟ من يُطبب أطفالنا عند أي وعكة صحية؟ من يعوّض لهم عن عام دراسي كامل؟”. يتابع ضاحكاً: “الأغرب من كل هذا أن الدولة العجيبة وجدت الحلّ في إقامة الدروس بواسطة الإنترنت من المنازل. يا له من حلٍ ذكي فعلاً. هذا أكبر دليل على أن الدولة لا تضع في الحسبان الطبقة الفقيرة عند اتخاذ قراراتها. من قال أن لدى كل الناس انترنت في منازلهم؟ تخيلي أن ابنتي طالبة في المرحلة الثانوية ستخسر سنتها التعليمية بسبب هذا. ليس لدينا انترنت في المنزل ولا “كمبيوتر” (أي حاسوب)، حتى أن ابنتي تكاد تكون الشابة الوحيدة في مدرستها التي لم تحمل هاتفاً خلوياً. ببساطة لأن لا قدرة لي على شرائه”.
يصعد بنا بلال إلى منزله بغية مقابلة الفتاة لكنها ترفض التحدث إلينا. ليس سهلاً على فتاة بعمر الورد أن تتوسّل العِلم والغذاء والصحة. لا تزال الصغيرة تذكر يوم “بَخّت” ذبابة في فم والدها وكاد أن يموت على باب المستشفى. يخبرنا بلال: “يومها كانت أزمة النفايات في أوجها. عدد كبير من البلديات واجه مشكلة في التخلّص من نفاياته، وبدأوا بالتفتيش عن أماكن لرميها بعيداً، فتحوّلت بلدتنا المحاذية للبحر إلى مكبّ نفايات. كانت تقصدنا الشاحنات المحملة بمختلف أنواع الزبالة ليلاً في الظلام الحالك وتُفرّغ حمولتها في السهل، بين منازلنا وبمحاذاة البحر. يوماً بعد يوم بدأت تسوء الحالة، ناشدنا المعنيين ورفعنا الصوت في وسائل الإعلام لكن من دون جدوى. تحوّلت البلدة إلى مكبّ غزاه الذباب الضخم أزرق اللون. وفي إحدى المرات كنت عائداً من الصيد إلى المنزل برفقة صديق. وكنا نتبادل أطراف الحديث على الطريق. وأنا أتكلم دخلت ذبابة في فمي و”بخّت” فيه. علقت إفرازاتها في حنجرتي. ما هي إلا ثوانٍ حتى تبدل لوني وكدت أن أختنق. بدأت أتخبط يميناً ويساراً وأحاول التقاط أنفاسي والصراخ. لم يعرف أحد ما بي. نقلوني إلى المستشفى الحكومي في حلبا الذي استطاع معرفة ما حصل معي لكن طلب نقلي إلى مستشفى آخر لغياب التجهيزات المطلوبة لهكذا حالات. هنا بدأ الماراثون. تنقل بي إخوتي من مستشفى خاص إلى آخر لساعات. غالبية المستشفيات رفضت استقبالي قبل دفع مبلغ مالي “حرزان” عند الباب”.
قبل أن يُنهي بلال قصته يعلو صراخ الأطفال في الخارج. اجتمع هؤلاء للعب بعبوة مطهّر وزعتها البلدية على البيوت للتعقيم وأخذ الاحتياطات الاحترازية ضد فيروس كورونا. هنا “بيت القصيد”، وفق بلال: “هذا جلّ ما قامت به البلدية منذ بدء الأزمة وحتى الآن. وزعت علينا عبوات مطهرة و”رشّت” الطرق والمنازل من الخارج وعقّمت حاويات النفايات. لكنها لم تُقدم أي خطة دعم للصيادين، علماً أن كل أبناء البلدة القاطنين قرب البحر هم من الصيادين، وجميعنا مهدد بالجوع”، مردفاً: “حتى أنهم لم يجتمعوا بنا رغم ما أثاره إقفال المسمكة من ضجة، لم تتكبد البلدية عناء تطميننا بتقديم أي مساعدة أو دعم. لكن كل هذا الكلام غير مفيد، فالبلدية ما هي إلا نسخة مصغّرة عن الدولة”.
من جهته، يوضح رئيس البلدية زياد أحمد أن “البلدية لا يُمكنها أن تحلّ مكان الدولة، فقطاع صيد الأسماك يحتاج إلى دعم خاص وإلى تطوير على صعد ومستويات عدة، وهو من دون شكّ يشكو من غياب الدولة، إلا أننا الآن في وضع استثنائي يُحتّم علينا العمل ضمن إمكانياتنا المتاحة، ويفرض على جميع الأطراف التعاون لتجاوزه”، مشيراً إلى أن “البلدية بصدد تحضير حصص غذائية لتوزيعها على الفئات الأكثر حاجة في البلدة”، مشدداً على أن “التواصل مستمر مع وزارة الشؤون الاجتماعية للبحث ما إذا كان هناك اتجاه لإرسال مبالغ مالية صغيرة للعائلات المحتاجة أو لا، وعلى ضوئه تُقرر البلدية ماذا ستفعل”.