لم يكد يُصدر الجيش بياناً يتوعّد فيه بدهم محطات الوقود التي تحتكر الوقود وتُخبئه، واعداً بتوزيعه مجاناً على المواطنين حتى «ظهر» البنزين فجأة على معظم المحطات. غير أنّ تحرّك الجيش تبعه انفجاران في اليوم نفسه. الأول وقع في طليا أثناء إفراغ خزان بنزين، لكن من دون وقوع ضحايا وأدى إلى تضرّر آلية للجيش، فيما الانفجار الثاني تسبب بمجزرة في بلدة التليل في عكار، راح ضحيتها 28 شخصاً قضوا شهداء لقمة العيش، وأكثر من مئة جريح ومفقود. فماذا حصل في عكار، ومن يتحمّل المسؤولية؟
حتى اللحظة، لم يُعلن الجيش نتائج التحقيق الذي تُجريه الشرطة العسكرية بشأن ما حصل في التليل. غير أنّ روايات الشهود العيان تحدثت عن فرضيتين. الرواية الأولى تفيد بأنّ دوريات الجيش دهمت الأرض التي يوجد فيها خزان يحتوي على 60 ألف ليتر من البنزين. وصادرت القسم الأكبر من البنزين المخبّأ لتترك البنزين الباقي يوزعه الناس بين بعضهم البعض. وهنا انقسم الناس بين قائلٍ إنّ الجيش انسحب بعدما ملأ صهريجاً بالبنزين المصادَر، وبين قائلٍ إنّ دورية من استخبارات الجيش بقيت في المكان. وهنا قد يستدل على بيان الجيش بشأن استشهاد عسكريَّين ووقوع عدد من الجرحى في صفوف العسكريين، للإشارة إلى أنهم كانوا موجودين. لكن إفادات عدد كبير من الشهود والأهالي تكشف أنّ معظم هؤلاء العسكريين لم يكونوا في الخدمة، إنما جاؤوا لتعبئة البنزين.
وبالعودة إلى هذه الفرضية، فقد اختلف الأهالي على أفضلية تعبئة البنزين ليتطور الخلاف إلى هرج ومرج، قام جراءه أحد المواطنين بالتهديد بإشعال الخزان بواسطة قداحته، وبالفعل أشعل القداحة مهدِّداً لينفجر الخزان.
الرواية الثانية تتحدث عن قيام شخص بإطلاق النار على الخزان عندما رأى الناس يأخذون البنزين بغياب الجيش، ما أدى إلى انفجاره. وهناك رواية ثالثة أوردها مالك الأرض جورج رشيد تحدث فيها عن نشوب خلاف بين المتجمهرين لتعبئة البنزين، ثم رمي أحدهم سيجارة مشتعلة في خزان البنزين، ما أدى إلى اشتعاله. ووسط هذه الروايات الثلاث، تبقى رواية القدّاحة الأكثر ترجيحاً، بانتظار تقرير الأدلة الجنائية بشأن رصاصة زعم أحد المواطنين أنّها تسببت بالانفجار، لمقارنتها بسلاح موقوف زعم بعض الشهود أنه أطلق النار.
صاحب خزان البنزين الذي انفجر موقوف لدى الجيش منذ نحو 3 أشهر
ورغم كل ما تقدم، هناك مجموعة نقاط لا بُدّ من إثارتها تتعلق بأداء الجيش في هذا الملف. صحيح أنّ تحرّك الجيش في ملف الوقود ساهم في توفر البنزين المخبأ وظهوره في معظم المحطات. وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدلّ على تخاذل الأجهزة الأمنية في ملاحقة المحتكرين الذين ساهموا في استفحال أزمة الوقود. غير أنّ ذلك لا يُعفي الجيش من المسؤولية. إذ إنّ القانون ينص على أنّ المصادَرة تنقل الحيازة لتصبح الجهة طالبة المصادرة مسؤولة عن حراستها. وفي مجزرة التليل، يُعتبر الجيش الذي صادر البنزين المخبّأ مسؤولاً عن حراسته. وبالتالي، من غير المقبول أن ينسحب الجيش تاركاً البنزين بين أيدي الناس ليقتتلوا على الحصول عليه. وكان عليه ضبط الخزان بانتظار مغادرة الناس، ثم يقوم بإفراغه بطريقة آمنة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الجيش لا يحقُّ له أصلاً توزيع البنزين المُصادَر على اعتبار أنّ توزيع المضبوط مجاناً مخالف للقانون لكونه يزيد التوتر لدى مالكه. وبالتالي، فإنّ ذلك يفرض أن يكون هناك قرار محكمة بحيث يُغرّم مالك البنزين أو يتقرَّر مصادرة البنزين بقرار قاضٍ.
ومع أنّ المصادر الإدارية لا تحتاج الى قرار قضائي، لكن ضبط المحروقات لا يتم سوى بقرار قضائي. فهل كان لدى الجيش إشارة قضائية؟ وبإشارة مَن صادر البنزين ولمصلحة مَن؟
كذلك فإنّ هناك استنابة قضائية صادرة عن النائب العام التمييزي تنصّ على أنّه إذا كان الوقود المُصادَر يزيد على الخمسين ألف ليتر، فإنّه يفترض تسليمه إلى المديرية العامة للنفط، وهذا ما لم يفعله الجيش، إذا تبين فعلاً أنّ الكمية المضبوطة في خزان التليل هي ستون ألف ليتر.
هناك مسألة أخيرة تتعلق بمالك خزان البنزين الذي تسبب بمجزرة عكار. فقد تبين أنه يدعى علي فرج وهو موقوف لدى الجيش منذ أكثر من ثلاثة أشهر. كما أنّ صاحب الأرض الذي كان قد أجّرها إلى فرج يقول إنه لم يكن يعلم بأنّ أحد الخزانات مملوء بالبنزين. وهنا لا بُدّ من السؤال: لماذا جرى دهم الخزان في اليوم نفسه الذي صدر فيه بيان الجيش؟ وهل كانت هناك معلومات مسبقة لدى الجيش قبل تنفيذ الدهم، على اعتبار أن مالك البنزين موقوف لديهم منذ أشهر في ملف أذونات جمركية وتهريب؟
على الجيش إصدار بيان مفصّل يشرح فيه وجهة نظره مما جرى. أما تحميل المسؤوليات، فمن اختصاص القضاء الذي لا يُتوقّع منه الفصل في قضية أحد أطرافها المؤسسة العسكرية.