“بعد 40 عاماً ذكّرني عون بمذكّرة توقيف في حقّي”
لا تحتمل خامة هذا الرجل الرمادية. لذلك، إما تحبّونه أو لا. هو ليس من صنفِ من يَطعنون في الظهر. يقول ما لديه بصراحة وحين يفرمل ذكرياته يكون ذلك لمصلحة عامة أو لمصلحة الجماعة والدروز ووليد بك. وفيٌّ. هادئ الطباع مع «وقف التنفيذ» حين تلامس الأمور تخوم عاليه والمختارة. رمى القلم وأمسك البندقية وعبر ألغاماً. وها هو اليوم، يجلس جنب مدفأته، محصّناً بتاريخٍ وافر من التفاصيل التي تستحقّ أن تُسرد. هو لم يُنهِ نضاله (ولن ينهيه ما دام فيه رمق) لكنه يتمنّى أن يتنحّى، بعد انتهاء دورة هذا المجلس النيابي، من العمل السياسي تاركاً لجيلٍ جديد متابعة «المهمة الصعبة». هو أصبح بعد إصابته بمرض عضال أكثر عاطفة ويشعر باقترابِهِ- كما كل من يمرّ في محنةٍ صحيّة، أكثر من الموت. عن الموتِ والحياة والصحّة والحرب والوفاء والألغام و7 أيار ولوزان وجنيف ونصرالله وعون وجعجع وبشير والجبهات والتحالفات وجمالية لحظة 14 آذار حديث طويل مع أكرم شهيّب:
قد يُعجب أكرم شهيّب أن نعرّف عنه الأستاذ، أستاذ التاريخ والفلسفة وابن الحزب التقدمي الإشتراكي، وهو الذي لم يطمح يوماً الى أكثر من البقاء في حدود عاليه. والده حسين، العنصر في الجندرما أيام الدولة العثمانية الذي استلم لاحقاً أمانة صندوق بلدية عاليه. والده كان وحيداً وهو أتى بعد 24 عاماً على زواج والديه (حسين وظريفة الجردي). وله شقيقتان وداد وإكرام. كبر مدلّلاً «الى حدٍّ ما». أصيب بمرض في الدم وهو صغير وخضع بعمر السادسة الى عملية جراحية خرج منها بلا طحال وسمع يومها من يردّدون: أنجب حسين صبياً بعد 24 عاماً وسيموت. أعطاه الله العمر وها هو اليوم بعمر يناهز السادسة والسبعين. تعلّم في عاليه وعلّم في عاليه. ودرس في جامعة بيروت العربية التاريخ وتخرّج منها. وبعمر الرابعة عشرة أرسله والده صيفاً للعمل «أوفيس بوي» في فيدرال بنك. وعرف لاحقاً أن والده كان يُسدّد أجره (25 ليرة لبنانية في الأسبوع). كان يريده أن يتعلّم الاتّكال على النفس.
كان مشاغباً في صغره «ما قصّرت. كنت أدقّ الجرس، الذي يُشبه جرس الكنيسة، في غير المواعيد الصحيحة، وذات يوم طلب مني أستاذ الرياضيات أنيس واكيم (والد نجاح واكيم) أن أحلّ معادلة حسابية قلت له انتهى موعد حصتك. فقال لي: دقّ الجرس إذاً. خرجت دققت الجرس وطردت ثلاثة أيام (يضحك لذلك)». أحببتُ دائماً الرياضة على أنواعها وحين أصبحتُ نائباً أوّل ما فعلته في عاليه أنني جمعت ناديين في نادٍ واحد هو الإخاء الأهلي الذي كان يُسبّب تنافساً عائلياً».
زمن الحرب
أحبّ الصيد لكن حين أصبح وزيراً للبيئة عدل عن ذلك. ويوم كان في الوزارة عاونه نبيل أبو غانم الرجل الآدمي. تزوّج عام 1967 ابنة خاله سلمى وكانا لا يزالان طالبين في الجامعة. نراها تحوطه اليوم بحبٍّ ودفء. كبُر شهيّب في بيتٍ ناصري «والدي كان في عصبة العمل القومي الى جانب يوسف ابراهيم يزبك وعلي ناصر الدين. وأتذكر أنه في العام 1969 أتى جمال عبد الناصر الى دمشق فأخذنا والدي الى هناك لرؤيته. كان بيتنا عروبياً ومسيّساً. وكان تنظيم الطليعة الذي انتسبت إليه وكان معنا محسن دلول وعبد الرحيم مراد ومحسن الجردي ويوسف شميط. ويوم توفي عبد الناصر انتهت القصّة».
كان قريباً من فكر كمال جنبلاط لكنه لم ينتسب الى الحزب الاشتراكي رسمياً إلا عام 1979. قبلها، يوم اندلعت الحرب، هبّ مع الشباب لاقتحامها: «كان هناك 11 فصيلاً وأنا كنت مسؤولاً عن الفصيل السادس الذي ضمّ 31 شخصاً تحت إشراف الحزب التقدمي الإشتراكي. كان مناصراً «وأوّل شعار رفعناه كان القرار الوطني الفلسطيني المستقل في عاليه». كان المعلم كمال جنبلاط قد توفي واستلم وليد بك بروحية جديدة».
من كان عدوّك الأوّل؟ الكتائب؟ يجيب: «كنا نسمّيهم الأعداء الإنعزاليين ونقصد بذلك مجموعة الأحزاب اليمينية. نحن في المشروع اليساري الذي قاده كمال جنبلاط واستمرّ مع وليد جنبلاط والحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية كانت يومها في عزّها والحركة الطلابية. هذه الحرب كانت جزءاً من الحرب الباردة. وانسحب الصراع السوفياتي الأميركي في ذلك الوقت على السوري والإسرائيلي، وهنا انسحب علينا وعلى القوات والكتائب. كنا الوقود لذلك المشروع الذي عرفنا كيف بدأ ولا نعرف كيف سينتهي. ذهبنا مثل «الشاطرين» الى الطائف وقالوا: سلّموا أسلحتكم. سلّمناها. وبالتالي كان المشروع أكبر منا جميعاً. كان لبنان هدفاً ولدي مقولة دائمة: والي عكا ووالي الشام. ونحن تحركنا ضمن هذين الواليين».
قبل اندلاع الحرب «كان كمال جنبلاط منذ العام 1975 يسعى ألّا تصل الحرب الى الجبل. كان يقول لنا إذا أردتم المشاركة انزلوا الى فينيسيا وشاركوا في حرب الفنادق وأبعدوا هذا الكأس عن الجبل. لكن تطوّر الأحداث كان أكبر منا جميعاً. ومع الاجتياح الإسرائيلي في السادس من حزيران (1982) دخلت القوات مع الإسرائيليين وحصلت معركة خلدة. وكان الشيخ بشير يسعى الى الوصول الى سدّة رئاسة الجمهورية على أن يبقى على علاقة حسنة مع الجبل وأن يحدّ قدر الإمكان من الصراع الدموي فيه. لكننا شعرنا حينها بالهزيمة ونقلنا كل سلاحنا من عاليه الى المتن. وانتظرنا ما هو آت. وأذكر أن الشعور بالهزيمة كان كاملاً والقدرة على المقاومة كانت معدومة».
لكن، قسماً من دروز الجبل عملوا على إيصال بشير الجميّل الى الرئاسة من قلب بيت المير مجيد إرسلان؟ يجيب:»هؤلاء شكّلوا قسماً بسيطاً مع المير فيصل (إرسلان) والست حياة، وكان المير مجيد في آخر أيامه. في العام 1983 كان البك في المختارة فحصلت اتصالات بينه وبين الأميركيين انتقل بموجبها الى بيروت وأصبح محاصراً. وأتذكر أننا وضعنا في حينه حاجزاً عند مدخل الحي الغربي في عاليه، حي المسيحيين، كي لا يقتحمه أحد من الدروز. وكان لديّ صديق اسمه أمين معاصري قريبه شكري معاصري مسؤول الكتائب في المنطقة. وليلة دخول الإسرائيليين الى عاليه انتقلت الى بيت الحزب الإشتراكي. دخلت مجموعة اعتقدتها إسرائيلية تكلمت مع عناصرها بالإنكليزية فردّ أحدهم بالعربية طالباً وقوفي على الحائط. وصل المقدم شريف فياض، المسؤول عن الجيش الشعبي، ووصل شيخ أراد الحصول على الطحين. سألنا المداهمون من المسؤول: أجبت أنا. أردت حماية شريف فياض. وأيقنت أن الساعة قد أتت وأنا واقف على الحائط. سمعت شجاراً عرفت لاحقاً أن أحد الإسرائيليين حين رأى الشيخ بيننا اعترض على التعامل معنا. ولاحقاً سألتُ إيلي حبيقة عن الفيديو المسجّل فقال لي: من صوّره أصبح صديقاً لك لكني لن أقول اسمه».
اللقاء مع بشير
أخذونا الى مصرف قريب. وأتى عناصر من الصليب الأحمر وأخرجونا متنكرين بثيابه واختبأنا في بيت شقيقتي في آخر بلدة عاليه. بحث عني صديقي أمين معاصري لاحقاً وقال لي: إن الشباب (وبينهم الكتائبي شكري معاصري ومسؤول الكتائب في عاليه موريس سابا) يريدون رؤيتي. قلتُ له: لن أفيدهم بشيء كأكرم شهيّب أما كإشتراكي فلن أفيدهم أيضاً إلا بعد مراجعة وليد بك. أخذني الى بيروت. وحصلت على ورقة من الإشتراكيين أنه في حال أصابني شيء فليس لي علاقة بهم. نزلتُ الى المتحف. دخلتُ الى بيت وليد بك وسألت بو عصام (مرافقه) وين البك؟ قال لي: في البريستول. كان هناك. أخبرته بكل ما حصل. أجابني: إنتبهوا لأنفسكم لا أريد أن يموت أحد. وأردف: لا أريد الكلام في السياسة لكن خلّصوا أنفسكم أمنياً. فهمت من كلامه أنه لا يعترض على ذهابي. ذهبت مع معاصري على أساس رؤية موريس سابا لكنني فوجئت بأن اللقاء مع بشير. إستقبلتني سكرتيرة بلطف وقالت لي: معه اتصال خارجي. لحظات ودخل بشير، كان قلبي يرتجف ليس من بشير لكن من وليد بك. فماذا أقول له عن لقائي ببشير وأنا لست رقماً صعباً في الحزب الإشتراكي؟ قدّم لي شوكولا فلم آكل. تناول هو واحدة وكأنه أراد أن يطمئنني. قدّم لي سيكارة فقلتُ له: لا أدخّن. قال لي: ماذا سنفعل في الجبل؟ أجبته: لستُ أنا المسؤول، سألني: كيف حال وليد جنبلاط. قلت له: هو لا يعرف أنني سألتقي بك. قال لي نحن لسنا جيش احتلال رابع (بعد السوري والفلسطيني والإسرائيلي). أجبته: لكن الممارسات عكس ما تقول. قال ما معناه: نحن سنعيش معاً. عرفتُ أنه في قفا عقله مشروع رئيس جمهورية. إتصل بشخص اسمه جورج شعنين وقال له: إذهب مع أكرم وسلّمه مكتب الحزب الإشتراكي في عاليه وقال له بالحرف: ممنوع أي مظاهر عسكرية في الجبل. وهذا ما حصل. في اليوم الثاني أتى أمين معاصري وقال لي: يريد الباش أن يراك. قلت له: وهل هذه سيرة؟».
هل بلغت وليد جنبلاط؟ يجيب: «لم أتمكن. كانت معركة قبيع قد بدأت. نزلنا الى مكتب كريم بقرادوني. دخلت الى غرفة العمليات. طاولة طويلة كان حولها عسكر. عرفت منهم زاهي البستاني وايلي حبيقة. كان إرنست الجميّل قد قتل للتو وسمعت بشير يقول على الهاتف: أريد معلومات وأجوبة لا عواطف. أقفل الخط وتوجّه لي: نريد المرور من قبيع. أجبته: أحتاج أن أتواصل مع وليد بك بهذا الخصوص. أكدت على العلاقة التراتبية مع قيادتي. وبدأت الحرب وانخرطنا فيها».
والي عكا ووالي الشام
حصلت مجازر في المنطقة… يقاطعنا بالقول: «تكلمتُ عن الحرب الباردة التي استخدمونا فيها أدوات: أضاف «أسسنا الجيش الشعبي وكنا نحصل على السلاح من الإتحاد السوفياتي، وليد بك غادر الى الشام بعدما قال لنا: إن الحرب ستكون طويلة وإذا أردتم شيئاً تكلموا مع المير مجيد. ذهبنا إليه أنا وفؤاد سلمان وداوود حامد وكان في آخر أيامه. وقال لي يومها بالحرف: الله يقويكم».
نعود لنسأله: لكن إعداد انتخاب بشير كان في بيت المير مجيد؟ يجيب: «بعض الدروز أيّدوا ذلك لا جميعهم. كانت نظرة بشير نظرة اليمين أما نظرتنا نحن فكانت شيئاً آخر». لكن، ألم تقوموا لاحقاً بجردة حساب حول سبب قيام اليمين بمواجهة المشروع الفلسطيني على أرض لبنان؟ يجيب: «بقيت نظرتنا مختلفة على الرغم من اعترافنا بالممارسات الخاطئة التي حصلت بحقّ عدد من اللبنانيين من قيادات فلسطينية في لبنان. ألم أقل أن ما أصابنا بفعل والي عكا ووالي الشام؟ وأتذكر أنه يوم انتخب بشير كان وليد بك في منزل صائب سلام وخرج حزيناً».
إنتخب بشير وقتل. إستشهد… يجيب شهيّب: «الإسرائيلي رفع عنه الغطاء والسوري قتله. ويستطرد: ثمة نظرية في الحرب إذا لم تَقتل تُقتل. موت بشير ترك ارتياحاً عند العقل المدبّر».
في العام 1983 حصلت حرب الجبل وتغيّرت المعادلة. وعشية الانسحاب الإسرائيلي بدأت المعركة وفتحت كل الجبهات وإمدادنا من السلاح كان يأتي من السوفيات عبر دمشق ومن الجزائر وكانت المخازن السورية تمدّنا بالسلاح حين يتأخر الإمداد السوفياتي».
وصلت برقية الى أكرم شهيب من وليد جنبلاط الذي عاد الى المختارة ويقول «طلبني وسألني إذا كان بحوزتي جواز سفر. قلت له: نعم. كان يوم سبت فقال لي: يوم الإثنين صباحاً ستكون معي في مكتبي في الشام. غادرت الى هناك في كانون الأول عام 1983».
ثمة علامة استفهام تبقى: كيف استطاع وليد جنبلاط أن يلتجئ الى الشام بعد قتل والده؟ يجيب: «أتذكر أن لقاء ضمّ مي جنبلاط والسفير السوفياتي ألكسندر سولداتوف في بيروت خلص الى أن أمام وليد بك حلاً من ثلاثة: إما إسرائيل أو البحر أو الشام. وإذا أراد وليد جنبلاط أن يتابع نضاله فيحتاج الى باب فكان الباب السوري رغم معرفتنا الكاملة بمن قتل كمال جنبلاط. وأتذكر أن في أول زيارة قام فيها وليد بك الى حافظ الأسد قال له الأخير: يا وليد شو بتشبه بيّك. وكأنه أراد توجيه رسالة له. لكن كان لا بُدّ من متابعة الحياة السياسية. في السياسة يحتاج المرء الى تدوير الزوايا وهذا ما حصل علماً أنه كان يعرف تماماً من قتل والده لكننا بلعنا الموس».
في العام 1983 بدأت مسيرة أكرم شهيّب السياسية من باب الحزب. وبدأ التحضير لمؤتمر جنيف: «إلتقينا في أوتيل شيراتون الشيخ رفيق (الحريري). وكان التناغم السوري السعودي قد بدأ. وكنا نحن قد انتصرنا على مشروع القوات اللبنانية ونريد الذهاب الى الدولة. وسافرت مع وليد بك الى جنيف ثم لوزان».
في الشام
وثق بك وليد جنبلاط؟ يجيب: «بالتأكيد. وأنا هامشي كان المختارة، وفقط المختارة، ولا أطمح الى شيء آخر. سكنت مع وليد بك في المنزل نفسه في الشام. وكان خالد بك جنبلاط ومروان حمادة والمقدم شريف فياض وتعرفت إلى الشيخ رفيق الذي كان يسعى الى تأمين نجاح مؤتمر جنيف والوصول الى تسوية دائمة وحلّ. ذهبنا الى جنيف مع مرافقين اثنين. وسمحت لنا السفارة السويسرية بترخيص حمل خمسة مسدسات. وذهب أمين (الجميل) مع وفد كبير وسمح له بذلك أيضاً. ويوم كنّا نستعدّ للنزول الى قاعة المؤتمر أتى جان عبيد مع جوني عبدو وتمنّيا علينا عدم الدخول الى القاعة مع سلاحنا. قال لهما وليد بك أمين الجميل معه أيضاً سلاح. فأجابا: هو سلّم سلاحه. رفع وليد جنبلاط سلاحه وأنا أيضاً ووضعناهما خارجاً. كنا ذاهبين الى الحوار مستنفرين (يضحك لذلك)».
هل كان أمين يشبه أخاه بشير؟ يجيب: «تعرفت إليه بعد استشهاد بيار (الحفيد) وخلال ثورة 14 آذار وليس قبل ذلك. ويستطرد: عشنا مراحل صعبة جداً. في السادس من شباط عام 1984 كنا مع الرئيس نبيه بري ضد ممارسات الجيش الذي سمّيناه فئوياً. نحن والشيوعيون كنا في تصرف الرئيس بري في بيروت. إستلمت مكتب وليد بك في بيروت. وجرت حروب بيننا نحن كنا مخروقين وأمل أيضاً. زُهق دم كثيراً في معارك لا طعم لها وظُلم أهل بيروت وحدث انشطار عمودي في القوى الأمنية. وحصلت حرب المخيمات في العام 1985 ولمسنا بدايات حزب الله السرية آنذاك. لمسنا ذلك في حرب المخيمات. وأتذكر أنني وضعت سلطان أبو العينين في سيارتي وأخرجته مع موكب من المسلحين من بيروت الى صيدا».
الطائف وما قبله
في الطائف، مثّل الحزب الإشتراكي كل من توفيق عساف ومعه الوزير الدرزي الحالي القاضي عباس الحلبي «تابعنا معهما هاتفياً التطوّرات التي كانت تتقاطع مع معلومات تصلنا من مصدر آخر سوري. كان الطائف حلاً لا بُدّ منه. أنهى الحرب بإرادة أميركية سورية سعودية». ويتذكّر شهيّب قصّة اختيار قائد الجيش أيام الياس الهراوي «كان هناك رأيان: واحد يطالب بفهيم الحاج ورأي آخر يقول إميل لحود. كان لحود مطلباً سورياً ووديعة له في الجيش وفي بعبدا. وكان عهده من أسوأ العهود». قبل الطائف تم وضع الاتفاق الثلاثي ويقول شهيب «إشتغلت عليه أنا ومروان (حمادة) في سوريا، وكان إيلي حبيقة وأسعد الشفتري ومحمد عبد الحميد بيضون. وكان غزل بين ميشال المر وميشال سماحة من جهة مع السوريين ونجحوا بإقناع إيلي حبيقة بالتسوية. وليد بك لم يكن مقتنعاً أبداً بهذا الاتفاق. ووقتها حصل تضارب في الآراء بينه وبين عبد الحليم خدام وذهبنا أنا ومروان أربعين مرة الى سوريا في شهر. ويوم التوقيع قال وليد بك: في عهد ابني تيمور ينفّذ هذا الإنفاق (دلالة على أنه غير صالح). ويستطرد: وضع وليد بك نظارته ووقّع اسمه واضحاً فقال له خدام: شو هالخط يا وليد. أجابه: خطي واضح. ونزع نظارته وصار يدوّرها بين يديه بغضب. فقال له خدام: نحن نرى بلا نظارات. أجابه: نظارتي يا أبو جمال ترى للبعيد لا للقريب. كان الكلام بينهما يشبه ضربات كرة الطاولة».
هل نفهم أنه كان مضطراً الى توقيع ما لا يراه مجدياً كما كان مضطراً الى ملاقاة الشام بعد قتل والده؟ يجيب: «الإتفاق الثلاثي كان رغبة سورية وبداية تناغم بين فريق مسيحي والسوريين. ولم يكن ممكناً مواجهته». =
يدخل كلب. إنها بالأحرى كلبة/ أنثى تدعى إديسون عمرها ثمانية أعوام. تجلس أمام الموقدة. في منزل أكرم شهيب ثلاثة كلاب وقطتان. يدخل كلب أشقر كبير رائع ويتوقف أمام الجالسين وكأنه يلقي التحيّة. ثمة شعور بالأمان في المنزل الدافئ في عاليه. ونستكمل مع الوزير السابق والنائب الحالي أكرم شهيب استنهاض الذكريات السياسية والميدانية مع محطة حكومة عون العسكرية: «طموح عون لا يوصف. حين انطلقت الحرب بين القوات وعون، وبعد استشهاد أنور الفطايري، أتى داني شمعون وهو صديقي وحبيبي، وكان همّه أن يوقف الجبهات حتى يرتاح الجنرال في حربه مع القوات. قلتُ له: «القرار لوليد بك». السوريون أكثر من ارتاحوا لهذا الاشتباك في المنطقة الشرقية لأنه أعطاهم هامش تحرك».
طُلب منكم إذا مساعدة ميشال عون عبر وقف المعارك على الجبهات؟ يجيب: «كان السوريون مع عون في وجه القوات وهم من مرروا له المحروقات وما شابه».
بعيد الطائف انطلقت رحلة أكرم شهيّب في السياسة اللبنانية: «صدقيني كان بودي البقاء في عاليه. تمنيت أن أبقى أستاذاً لكن وليد جنبلاط اختارني وأيمن شقير لتمثيل المنطقة في المجلس النيابي المعيّن. وكان هناك رأيان، رأي مجلس الوزراء الذي قرّر تعيين الدرزي الجديد في مقعد عاليه أما الرئيس حسين الحسيني فرفض ذلك. لاحقاً، قيل إن بيروت بحاجة الى تمثيل درزي أوسع وتقرر نقل المقعد الى بيروت. قصدت وليد بك وقلت له فليعفني من هذه المهمة لأنني أتمنى العودة الى التعليم. لاحقاً، سُئل وليد بك وكنت الى جانبه عن رأيه فأجاب: نُقل الموقع الى بيروت ومعه سيُنقل المرشح الذي كان في عاليه الى بيروت. وهكذا، عُيّنت في بيروت، في الدائرة الثانية، في العام 1991. وفي العام 1992، حدثت الإنتخابات النيابية الأولى بعد الحرب وترشحت عن عاليه ولا أزال. أصبح عمري اليوم 76 عاماً. كنت أنوي الإنكفاء وعدم الترشح في الدورة البرلمانية الأخيرة. قلت لوليد بك: بدأنا معاً وأتمنى أن أعطي مكاني للشباب. أجابني: إبق الآن. عملت وزير بيئة وزراعة ومهجرين وتربية. وأعتقد أن التربية كانت المكافأة المعنوية لي كوني كنت أستاذاً. كافأني وليد بك بها».
مع المير
علاقته مع طلال إرسلان لم تكن مستقرة: «كانت up and down واختلفنا في محطات عدة. كنت خارجاً من الحرب والشباب أعرفهم واحداً واحداً. كبرت معهم وبينهم. والناس كانوا أوفياء لي فأعطوني وأعطوا الحزب الإشتراكي أصواتهم ولم أتقصّد حجب طلال إرسلان». كيف هي علاقتهما الآن؟ يجيب: «للأمانة، أقول إن طلال لطيف وودود وقلبه طيّب لكن، مع الأسف، هناك مجموعة حوله تحرّضه. وفي المرحلة الأخيرة، على الرغم ممّا حصل في قبرشمون، ووراءه بالتأكيد جبران باسيل وطموحه، إتصل بي طلال حين عرف أن مرضاً ألمّ بي. وعلاقتنا الآن طيبة».
أوّل مرة قابل فيها الدكتور سمير جعجع كانت يوم خروجه من سجنه تحت الأرض: «كانت ستريدا في يسوع الملك وسمير في السجن. وقابلناها أول مرة في مأتم أبو حسن عارف حلاوي. وعدنا والتقيناها في احتفال في المختارة على شرف السفير الفرنسي. ويوم انتفاضة الأرز وحّدنا المبدأ ووحّدتنا الشعارات. تعرفت إلى فارس سعيد وهو أخ وصديق. فتح سيرة لاقتراح قانون من أجل العفو عن الدكتور جعجع. تكلمنا مع وليد بك وزرت ستريدا في يسوع الملك مع وائل أبو فاعور وفارس سعيد. أتذكر أننا كنا في سيارة مرسيدس قديمة من أجل «تغيير الشنكاش» لكنهم لحقونا. توطدت لاحقاً العلاقة مع القوات ووقّعنا الإقتراح أنا وعلاء ترو. وصعد وليد بك الى يسوع الملك وكان داعماً ليقينه أن الحرب انتهت. وأرسل وائل أبو فاعور للقاء عون. كان همّنا إعادة تكوين الموقع المسيحي الوطني. ويستطرد: خرج سمير جعجع من السجن والتقيناه، أنا وجبران تويني، في المطار. كانت أول مرة أراه فيها. وجهه كان باهتاً لأنه لم يكن يرى الشمس». هل حمّله وليد جنبلاط رسالة ما؟ يجيب: لا، كان الجوّ في حينه غير طبيعي لكن ستريدا صمدت وحمت الموقع».
هل دفع سمير جعجع ثمناً عن كل الآخرين؟ يجيب: هو مبدئي وقاس في مبدئه. ولو لم يكن هكذا لما كان سمير جعجع. هو حافظ على مبادئه ودفع ثمن ذلك».
ممنوع المرور
هل جمعته علاقة هادئة ذات يوم مع ميشال عون؟ (يضحك) ويقول: «إلتقيت به في وقت صعب، ليلة الخروج الإسرائيلي من الجبل. وصلتني إشارة من نقطة استطلاع أن قوة عسكرية تقترب مع قوة إسرائيلية. وصلت إشارة ثانية من صوفر. تكلمت مع الرفاق في القيادة في عاليه وأجرينا اتصالات مع المختارة (مكتب الشام) وأتى الجواب: ممنوع مرورهم. ويستطرد ضاحكاً: كما تعلمون ليس في الميدان إلا حديدان. قررنا منعهم من خلال الناس لا النار. ذهبت مع نائب عاليه السابق فضل الله تلحوق وطلبت عودتهم من أول عاليه، من جهة بحمدون… نزل رجل وعرّف عن نفسه: ميشال عون قائد اللواء الثامن. أجبته: أنا أكرم شهيّب مسؤول في الحزب الإشتراكي. قال لي: أريد أن أمرّ وكرامة الجيش فوق كل شيء. أجبته: الجيش أولاد الناس وكرامة الناس أولاً وهم لا يريدون ذلك. أعطيته حلولاً أخرى لكنه رفض. تقدّمت سيارة إسرائيلية وأخرى تابعة للجيش بأمرة عون فقامت قيامة الناس الذين حطموا سيارة ميشال عون ووقع ضحايا. في اليوم التالي صدرت مذكّرة توقيف في حقي. إلتقيته بعد سنوات. وزرته يوم أصبح رئيساً للجمهورية ولم يتطرّق الى ما حصل. وبعد أربعين عاماً، يوم قدمت له ملف عمداء الجامعة حنق وقال لي: ألا تتذكر ماذا حصل بيننا في عاليه. أجبته بطريقة غير دبلوماسية: ولماذا أنسى؟ خرجت وما زال ملف العمداء معلقاً».
الأخبار كثيرة. المحطات كثيرة. أكرم شهيّب أصيب في الفترة الأخيرة بسرطان المثانة. فماذا تغيّر فيه؟ ماذا عن مفهوم الموت لديه؟ يجيب: «أنا رجل مؤمن وقدري. واجهت ما حصل بإيمان ورضى. خضعت الى 12 جلسة كيميائية و35 جلسة شعاعية. وأصبحت اليوم أفضل. عدت الى نشاطي لكني أصبحت أكثر التصاقاً بمن أحب. يُصبح المرء حين يشعر بدنوّ الموت منه، عاطفياً أكثر وواقعياً أكثر وهاجس الحياة يصبح أقوى وأشد. لكني أعتبر أن الموت حياة ثانية».
في حصاد عمر شهيب أربعة أولاد: مازن ووائل وهبة ولمى. ولديه 11 حفيداً هو فخور جداً بهم. حين يتحدث عنهم تلمع عيناه. من أصدقائه: «أنطوان زهرا وغياث يزبك وإيلي كيروز وأيضاً سيمون أبو رميا وآلان عون وابراهيم (كنعان) أحترمه».
وماذا عن علاقته اليوم بوليد جنبلاط الذي تتوزع صوره مع عائلته أركان البيت؟ يجيب: «نسبة وفاء هذا الرجل كبيرة. الناس لا يعرفون وليد جنبلاط عن قرب. هو إنساني جداً ونجده في اللحظات الصعبة. رافقني في مرضي وأهداني 20 كتاباً وأحاطني. نورا نفس الشيء. وأم تيمور أيضاً. هؤلاء عائلتي أيضاً».