عراضة «سرية العباس» تطبيق حي للمثل الشعبي: «رضينا بالهم، والهم لم يرض بنا».
فمنذ مدة، لم تعد قليلة، ينوجد الخطاب الذي يحدد المشكلة المركزية في لبنان على أنها مشكلة سلاح «حزب الله» وحروبه، والمشروع الفئوي التغلبي الذي يعبّر عنه، أمام أنماط مختلفة من «المراجعة» أو التململ منه.
فهذا الخطاب صار يعتبر عند كثيرين أنه يستخدم لتبرير سياسات اقتصادية واجتماعية، متعارضة مع مصالح العدد الأكبر من الناس. وصار يعتبر عند آخرين أنه خطاب غير صالح حتى للشروع في حل المشكلات العالقة مع «حزب الله»، والاتفاق معه على كلمة سواء.
بالتوازي، ثمة من أخذ يراهن على امكانية، ولو موقتة، لوضع المشكلة المركزية مع «حزب الله»، بين قوسين، أو «الحجر الصحي» عليها، أو تأجيلها الى أجل غير مسمى، لعلّ وعسى تنضج ظروف اقليمية مؤاتية لحلها في أمد غير منظور.
بقي أن المشكلة هنا، وميدانية تماماً، وليست «فقط» في أن الحزب يحارب في سوريا، بل هي مشكلة كونه حزباً مسلحاً، يتحجج بغياب «الدولة القوية القادرة» ليستضعف أمر الدولة اللبنانية، وهو مشارك في مؤسساتها في الوقت نفسه، ومساهم في تعطيل هذه المؤسسة مرة، وتلك المؤسسة مرتين. صحيح أن هذه المشكلة المركزية لا تبرر أي سياسة خاطئة في أي مجال كان، لكن صحيح أيضاً أن لا حل عميقاً وحقيقياً لأي مشكلة فرعية في ظل استفحال هذه المشكلة المركزية، مشكلة السلاح، خصوصاً عندما يكون الانصراف للمشكلات الجزئية مدفوعاً بالتهرب أو المكابرة على مشكلة العنف غير الشرعي.
لأجل هذا أيضاً، فان نمط «حروب النقاط والمشهديات» التي يزاولها الحزب موسمياً في الداخل اللبناني، أو حتى نمط انفلاشه الأمني بالمطلق، لا يمكن مقاربتهما من زاوية عابرة، محدودة، مرتبطة بملابسات ظرفية. هي عراضات تراكم واقعاً تغلبياً يطعن بشكل متزايد بفكرة الدولة، بمرجعية الدولة، وبحجة أن الدولة ضعيفة يستضعفها أكثر ويعمل على اضعافها أكثر، وعلى توجيه الرسائل في مختلف الاتجاهات بأنه الآمر الناهي في أول الأمر وآخره، يفعل ما يشتهيه، مرة باستعراض لدبابات في سوريا، قرب الحدود اللبنانية، ومرة باستعراض تحت عنوان «بوليسي بديل»، وقبل ذلك القمصان السود، و«الاهالي» ضد «اليونيفيل»، ومواويل أخرى.
«سيتطوع» دائماً «حزب الله» لإعادة المتململين أو «الضجرانين» من الواقع اليه: يتطوع دائماً، بعراضات قوة وعنجهية للتذكير بأنّ كل خوض في أمر حياتي أو مطلبي أو تسييري لأحوال الناس، وكل نقاش في السياسة أو في الاقتصاد والمال أو في الثقافة، سيظل نقاشاً «خارجاً عن الموضوع» الى حد كبير، ما لم يقرن، عضوياً، من داخله، بالمصارحة، للذات وللآخر معاً، بأنه لا يمكن لا تسكين ولا تأجيل حقيقة وعمق مشكلة السلاح الخارج عن إمرة الدولة والمتصل بإمرة دولة أخرى. تماماً مثلما كان من الصعب، في سني الوصاية السورية، طرح أو مناقشة أي فكرة أو مسألة في لبنان، جزئية أو كلية، من دون مقاربة موضوع الوصاية، بشكل أو بآخر. بل أكثر: لأن «حزب الله» هو مشروع مزدوج، لوراثة الوصاية الخارجي، والتعامل مع بقية المكونات بلغة الوصي الخارجي، ولوراثة تاريخ لبناني من النزاع على الغلبة بين الجماعات، وطرح نفسه كـ«نهاية لهذا التاريخ»، بوصفه صاحب مشروع الهيمنة الشاملة والنهائية.
فقط من بعد اعادة عراضة «سرية العباس» الى منظار شامل، منظار يذكر بأن «التكرار» في موضوع أن المشكلة المركزية في هذا البلد هي مشكلة «سلاح حزب الله»، وأنه ليست المشكلة في هذا التكرار في ذاته، وانما في كيفية تسييسه وترجمته، فقط بعد اعادة الادراج هذه، وبعد التكرار المصاحب لها، يمكن العودة الى قراءة ما جرى في الساعات الماضية في ظرفيته الحالية: ظرفية متوازية مع وضع الحزب العراقيل لمساعي انضاج قانون توافقي لقانون الانتخاب، حاول مشروع قانون الوزير جبران باسيل، بشكل من الاشكال الاقتراب منه، ووضع العراقيل بشكل عام أمام كل مسعى للمحافظة على الصورة الواعدة لعهد الرئيس ميشال عون، والصورة الواعدة لهذا التفاهم بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والطاقم الحكومي بشكل عام، ناهيك عن الحيثية اللوجستية المباشرة المتصلة بتحكم الدولة بمرافقها، بدءاً من المطار.
لا يعني هذا أن المواجهة المفتوحة مع الحزب هي في أمر اليوم في كل وقت. هي تحديداً مواجهة بالنقاط والمشهديات، مثلما يساهم الحزب في التذكير والتنبيه قبل سواه.