ابراهيم الأمين
بعد 32 أسبوعاً من المواجهات العسكرية الدامية، جاء فشل المفاوضات حول غزة، ليشير إلى أن حكومة العدو تصرّفت وفق منطق يقول بأن أي اتفاق يحصل اليوم، سوف لن يحقق أياً من النتائج المركزية للحرب. فلا قدرة على الخلاص من المقاومة، ولا على استعادة الأسرى من دون تحرير المعتقلين في سجونها. ولا مناص من فك الحصار عن القطاع. كما يعتبر العدو الاتفاق الآن، بمثابة انتصار إضافي لخصومه في جبهات أخرى. فهو لن يجبي من لبنان أي ثمن، بل يعلم أن كل المبادرات لن تغير من جوهر الأمور شيئاً، وأن حلفاء العدو، سيذهبون مرغمين نحو تسويات كبرى مع «أنصار الله» في اليمن، لا يقل ثمنها عن وقف الحرب وفك الحصار والتسليم بحضور تيار المقاومة هناك. هذا كله إلى جانب هاجس آخر، كون العدو ينظر إلى حصاد اإران من هذه الجولة، وكيفية تعزيز حضورها ونفوذها على صعيد المنطقة ككل. لا بل إن العدو يرى أن الإقرار بالهزيمة، يعني تبدلات كبيرة ستظهر تباعاً في أكثر من ساحة.بهذا المعنى، يمكن فهم رفض العدو السير بالمقترح الأخير للمفاوضات، وبهذا المعنى، يمكن فهم التغطية الأميركية لهذا القرار، ومواصلة دعم أهداف العدوان في غزة وبقية الجبهات، والمشاركة في توفير الدعم الاستخباراتي واللوجستي إلى جانب الإمداد بالسلاح. فيما لم يقف أحد في إسرائيل مذعوراً عندما أطلق قادة أميركا مواقف بدت بالنسبة إلى البعض انعكاساً لخلافات حقيقية مع العدو.
وعلى طريقة «أعطوني فرصة ثانية»، قرّر العدو مواصلة الحرب وفق المنطق العسكري والسياسي والإجرامي نفسه. فأعاد حشد قواته البرية والهجومية مع نحو ألف دبابة ومركبة وأسراب من الطائرات لأجل القيام بعملية واسعة في منطقة رفح، مستنداً إلى افتراضات بأن المدينة ومحيطها يحتضنان القيادة العسكرية المركزية للمقاومة، وفيهما يُحتجز الأسرى، ومكرراً معزوفة الأنفاق الممتدة نحو سيناء. وهي خلاصة برّر فيها فشل عملياته السابقة في كل مناطق القطاع. لكنّ العدو فوجئ وقبل انطلاق العملية الكبرى، بأن هناك تطورات لا تناسبه قد أطلّت برأسها من شمال غزة، وتحديداً من المناطق الشرقية المقابلة للغلاف، ما أجبره على إعادة توجيه ألوية هجومية مع مئات الدبابات لخوض معارك مجنونة في جباليا وحي الزيتون، دون أن يحقق أي هدف عسكري، بل زاد من خسائره، وأظهر لجيشه وجمهوره وللعالم أن المقاومة لم تُصب بأضرار تحول دون استئناف أو مواصلة القتال في كل منطقة من القطاع.
وإذا كانت الولايات المتحدة وحلفاء العدو من الغربيين والعرب يعتقدون بأن بنيامين نتنياهو يقود هذه الجولة لأجل تعزيز موقفه التفاوضي، فهم يقولون للمقاومة، إن هدف الجولة الجديدة، له حد أقصى موجود فقط في مخيلة العدو، وحد أدنى يخص المفاوضات نفسها. وما فُهم من خلال جولات التواصل التي جرت بعد إعلان العدو رفضه مقترح التفاوض، أنه لم يعد هناك الآن من فرصة لاستئناف المفاوضات قبل أن تنتهي عملية رفح.
يسعى العدو إلى تعزيز موقفه التفاوضي، وتسعى المقاومة إلى جعله يتوسل الاتفاق بأثمان كبرى
بناءً عليه، فإن المقاومة التي تتصرف على أساس أن الحرب طويلة وطويلة جداً، لم تشعر بارتباك إزاء قرار العدو مواصلة القتال، لكنها وإن كانت سعت إلى الاتفاق لمنع المزيد من الجرائم بحق المدنيين، إلا أنها رسمت لنفسها إطاراً جديداً، عنوانه أن العودة إلى أي جولة تفاوض جديدة، ستكون رهن وقائع الميدان. وطالما أن الجميع في محور المقاومة يتصرف بصبر وثبات وعقلانية، فإن المهمة اليوم، تتركز على جعل العدو يعود إلى طاولة المفاوضات متسولاً التسوية ومستعداً لدفع الأثمان الكبرى مما كان يفترض به دفعها سابقاً.
وبناءً عليه، فإن الجولة الجديدة من القتال الجارية الآن، تستند إلى مستوى مختلف تماماً من التنسيق إن على صعيد كتائب المقاومة في القطاع، أو على صعيد جبهات الإسناد خارج فلسطين، وتبرز هنا القيمة الكبيرة والعالية جداً لغرفة العمليات المشتركة التي يتشارك فيها ممثلون عن جميع القوى المعنية بالحرب في غزة، من أجل تنظيم المواجهة الجديدة وعنوانها الوحيد هو: استنزاف قاسٍ ودامٍ لقوات الاحتلال وداعميها.
وأظهرت المعطيات الواردة من القطاع، أن فصائل المقاومة، ولا سيما كتائب القسام وسرايا القدس، قد أعادت تنظيم أمورها في كل محاور القطاع، وفق قاعدة العمل المقاوم المرن، وبعيداً عن كل الأنماط التي كانت قائمة سابقاً على شكل الهرميات والتشكيلات. وقد تثبّت الجميع، من أن وحدة التحكم والسيطرة عاملة بقوة على صعيد تنظيم كل أنواع العمليات. وقد تم إدخال سلاح المدفعية والصواريخ القصيرة المدى وفق قاعدة بيانات حصلت عليها قيادة المقاومة في غزة، وسمحت لها بالوقوف على الكثير من العناصر الأمنية التي تحتاج إليها عن جبهة العدو العسكرية والأمنية وانتشار قواته. وقد نجحت كتائب المقاومة مثلاً، في تعطيل وظيفة القوات التي كانت تتمركز في وادي غزة، ومنعت الاحتلال من تثبيت قواعد عسكرية هدفها الفصل بين الشمال والجنوب، حتى إن الجانب الأميركي اضطر للضغط على قوات الاحتلال، لإعادة نشر قواتها في المنطقة القريبة من رسو الرصيف العائم، من أجل ضمان مشاركة قوة أممية وأجنبية في عملية نقل المساعدات الآتية عبر الممر البحري إلى غزة.
من جهة ثانية، اضطرت قوات الاحتلال، وتحت وطأة القصف المدفعي لإعادة نشر قواتها المؤلّلة في بؤر خاصة على حدود القطاع وليس داخله، واتخذت مساراً عسكرياً غريباً، من حيث الحركة السريعة في التنقل بين الأحياء ومغاردتها فوراً بسبب قناعة القوات على الأرض، بأنها ستكون عرضة لكمائن متنوعة من جانب المقاومة، خصوصا أن أجهزة استخبارات العدو، أدركت بأن حجم الخسائر في صفوف المقاومين الفلسطينيين أقل بكثير مما كانت تعتقد، وبأن خارطة الأنفاق الفعالة لا تزال عاملة بنسبة تصل إلى 85% على الأقل.
وحرب الاستنزاف التي أعلنت عنها كتائب القسام، هي نفسها التي قرّر حزب الله اعتمادها في لبنان، لكن وفق وتيرة من نوع مختلف، بحيث اتُّخذت جميع الإجراءات الكفيلة أولاً، بتنظيم حركة قوات الحزب عند الحافة الأمامية، وتنويع الاختصاصات المشاركة في العملية بعد قرار إدخال أسلحة جديدة، سواء لناحية الصواريخ أو المُسيّرات المسلحة إضافة إلى المُسيّرات الانقضاضية. وما جرى خلال الأسبوعين الماضيين، كان عبارة عن اختبار أولي للخطة الجديدة، سيما أن لدى الحزب قائمة أهداف أساسية وأخرى مُحدثة تشمل عشرات الأهداف الحساسة التقليدية منها أو المرتبطة بالميدان الآن. وقد اعتمدت المقاومة وتيرة من العمل جعلت العدو أكثر حذراً في التعرض للمدنيين، وهي عاقبته أيضاً على تعمّده حرق أحراج في لبنان، كما ثبّتت في عقل المستوطنين، بأن مصير بيوتهم ومزارعهم ومتاجرهم ومصانعهم صار رهن سلوك قيادتهم العسكرية، وصولاً إلى حد رفض من بقي من المستوطنين في منازله، اقتراب جنود العدو من حدود بيته، لأنه يقر بحق المقاومة في قصفه دون سابق إنذار.
وعلى الوتيرة إياها، باشرت قوات «أنصار الله» وضع اللمسات الأخيرة، على خطة تصعيد تشمل قراراً نوعياً باستهداف كل سفينة لها علاقة بكيان الاحتلال. وهي أوضحت لجميع شركات الملاحة العالمية، بأن أي سفينة، بمعزل عن جنسية مالكها أو العلم الذي ترفعه، وبمعزل عن نقطة انطلاقها وما تحمله من بضائع، تبقى آمنة، إلا في حالة أن يكون لرحلتها أي علاقة بالكيان، سواء بالتوجه مباشرة نحو موانئه أو الاحتيال من خلال عمليات يقوم بها القراصنة في العادة. وبحسب ما يخطط له العسكريون في «أنصار الله»، فإن الاستهداف سوف يتخذ مساراً تصاعدياً في كل المديات التي تصل إليها قدرات اليمنيين، وفي كل البحار والمحيطات، وإن المرحلة السابقة، دلّت لقوى التحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة، على أن كل ما قام به، لم يعطل أي عملية تقرّرت، وأن فرصة إصابة المدمّرات الأميركية نفسها باتت أكبر من السابق، وهو ما دفع قيادة البحرية الأميركية إلى إجراءات غير مسبوقة في تاريخ عملها.