ابراهيم الأمين
ملف جهوزية المقاومة لمواجهة أي حرب واسعة مع العدو لا يتعلق فقط بما تنشره المقاومة عن بنك أهدافها في الكيان، بل بما أظهرته تجربة الأشهر التسعة الماضية من قدرات. وبينما حفلت مرحلة ما بعد عدوان عام 2006 وصولاً إلى معركة «طوفان الأقصى» بتلميحات وإنذارات وجّهتها المقاومة إلى قادة العدو وجيشه ومستوطنيه، إلا أن احتمالات التصعيد القائمة الآن تفرض نمطاً مختلفاً من الرسائل الردعية.سابقاً، وإلى جانب خطابات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن القدرات النوعية لحزب الله، بثّت المقاومة فيديو كان نادراً في مضمونه، إثر تهديد العدو بقصف مواقع قرب مطار بيروت، تضمّن إحداثيات مواقع عسكرية ومقارَّ أمنية وأجهزة خاصة نصبها العدو قرب مراكز سكنية وتربوية ومدنية. واختتم الفيديو بعبارة للسيد نصرالله يقول فيها إنه في حال ضربتم أهدافاً بين المدنيين عندنا، سنفعل الأمر نفسه عندكم.
وخاطب السيد نصرالله جيش الاحتلال في أيلول 2018 بأن «المقاومة تملك من الصواريخ الدقيقة وغير الدقيقة، ومن الإمكانات التسليحية، ما يفرض على إسرائيل مصيراً وواقعاً لم تتوقّعهما في يوم من الأيام». ثم وفي صيف العام الماضي أعلن أن المقاومة «تحتاج فقط إلى بضعة صواريخ دقيقة لتدمير لائحة أهداف من بينها مطارات مدنية وعسكرية وقواعد لسلاح الجو ومحطات توليد الكهرباء ومحطات المياه مع مجموعة من البنى التحتية ومصافي النفط وأهمها مفاعل ديمونا».
في كل حملته الردعية، كان الحزب يشهر بعض ما يعرفه العدو، نتيجة جهده الاستخباراتي الهائل، معلناً جهاراً نهاراً، عن قدرة الوصول إلى أهداف مركزية بالنسبة إلى الكيان، سواء العسكرية، أو البنى التحتية الاستراتيجية، أو مراكز الخدمات العامة. وكان الحزب يتدرّج في رفع مستوى الإنذار – التهديد، بما يتناسب مع جهد العدو ضد المقاومة وبناها البشرية واللوجستية، ولا سيما في مرحلة «المعركة بين الحروب» التي كان العدو يقوم خلالها بعمل مثلّث الأضلاع:
– السعي إلى ضرب ما يفترضه سلاحاً في طريقه إلى حزب الله من خلال غارات جوية.
– تنفيذ استخبارات العدو عمليات أمنية – عسكرية على طرق الإمداد.
– عمليات أمنية تخريبية في عمق لبنان، والأخيرة كانت الأكثر خطورة، وقد أظهرت عمليات كشف شبكات العملاء تفاصيل كثيرة عما قام به العدو أو ما كان يخطط له، خصوصاً أنه وجد نفسه في بعض الحالات «مضطراً» للقيام بأعمال استثنائية، مثل عملية المُسيّرات التي انفجرت فوق الضاحية الجنوبية في آب 2019، والتي سبقتها وتلتها محاولات فرق كوماندوس إسرائيلية الوصول إلى منشآت تخص المقاومة في أكثر من منطقة لبنانية، بهدف ضرب ما تعتبره إسرائيل مراكز تصنيع أسلحة متطورة، أو عمليات تحويل الصواريخ العمياء إلى صواريخ دقيقة، علماً أن جهد العدو الاستخباراتي في هذا المجال لم يقتصر على هذا النوع من العمليات بل قام بأمور أخرى كثيرة ربما تكشف المقاومة في وقت لاحق تفاصيلها.
وبما أننا في قلب حرب قاسية، يمعن خلالها العدو في إجرامه ضد الفلسطينيين، وتتعاظم احتمالات التصعيد على الجبهة اللبنانية، حتى مع تراجع مؤشراته الأسبوع الماضي، تقوم المقاومة فعلياً بتعزيز الجهوزية لمواجهة شاملة. وهي قرّرت رفع مستوى رسائل التهديد لإفهام جمهور العدو، وقسم غير صغير من قياداته السياسية، وغالبية المتعاطين بالشأن العام، إلى جانب المستوى العسكري والأمني، بأن الحرب متى صارت شاملة، فإن لدى المقاومة برنامجها المغاير لكل التقديرات.
وفي تمرين نظري وعملي لما يمكن أن تكون عليه الأمور، واستناداً إلى ما بثّته المقاومة من ثلاثة أفلام فقط، وهي «هدهد -1» و«هدهد –2» و«لمن يهمه الأمر»، يمكن افتراض الآتي:
عرضت المقاومة أكثر من مئة هدف حيوي، بين مواقع وثكنات عسكرية تقليدية أو مستحدثة، ومراكز عمل قوات العدو المدفعية والجوية وإدارة العمليات الحربية، ومراكز جمع المعلومات والحرب الإلكترونية، وأدوات التجسس على اختلافها، ومنظومات الرادارات والاستشعار والرصد والتعقب، إضافة إلى مراكز القيادة والإدارة، ومخازن الأسلحة والذخائر، ونقاط تموضع الدبابات والآليات الأساسية، إضافة إلى منظومات الدفاع الجوي التي تشتمل على الرادارات ومنظومات التحكم ومنصات الإطلاق.
كما عرضت أكثر من خمسين هدفاً تشمل البنى التحتية المركزية في كيان العدو، من المطارات والموانئ البحرية المركزية أو الفرعية، إلى محطات إنتاج وتوزيع الكهرباء وإدارة التحكم بمصادر المواد النفطية، لناحية الخزانات أو المصافي أو مصانع المنتجات البتروكيمياوية، وصولاً إلى المنشآت المدنية التي تشمل التجمعات السكنية (من كبار الموظفين ورجال الأعمال العاملين في الصناعات الخاصة في مناطق الشمال)، والتجمعات الاستيطانية (من الناس العاديين أو الحرفيين والمزارعين) التي قامت قبل قيام الكيان وبعده، وعدداً غير قليل من المراكز الخدماتية التي تخص هذه التجمعات المدنية، من مراكز تجارية ومصانع إنتاج مواد غذائية. وقامت المقاومة بمسح لمنطقة تشكل مركز شمال الكيان، تمتد من البحر غرباً حتى أقاصي شرق الجولان المحتل، وضمن مساحة تقارب 3650 كلم مربعاً، علماً أنها لم تعرض في الفيديوهات تفاصيل شديدة الحساسية تتعلق بالصناعات المتطورة التي تدرّ على كيان العدو وقطاعه الخاص مليارات الدولارات سنوياً، وهي القطاعات التي ستعرّضها الحرب الشاملة، ليس لخسائر مباشرة فقط، بل لتعطّل وعرقلة مشاريع عملاقة تعمل عليها بالتحالف والتعاون مع مؤسسات دولية في الشرق والغرب.
وإذا ما استندنا إلى ما يسرّبه العدو، وتعيد تظهيره أجهزة استخبارات عالمية ومؤسسات بحثية تعمل معها، وإذا ما أضفنا، ما كشفت عنه المقاومة من أسلحة خلال الأشهر التسعة الماضية، وما برز بين أيدي فصائل وقوى من محور المقاومة في المنطقة، من أسلحة تُستخدم في البر أو البحر أو الجو، وما يمكن افتراضه من أسلحة باتت معلنة لدى الحرس الثوري في إيران، والتي يتعامل العدو على أن نسخاً منها صارت بيد حزب الله، فهذا يكفي للقول إن التمرين النظري البسيط، يشير إلى الآتي:
أولاً، إن طبيعة الإجراءات التي اتُّخذت من قبل جميع الأطراف المعنية بالحرب الواسعة، حرمت العدو من عنصر المفاجأة، وأي عملية عسكرية مباغتة، يشنها العدو على شكل حملة جوية أو حتى عمليات إغارة برية، لن تنجح في تعطيل القدرات النوعية للمقاومة أو تشلها أو تصيبها بشكل يخرجها من الخدمة.
لم تُعرض في الفيديوهات تفاصيل شديدة الحساسية تتعلق بالصناعات المتطورة التي تدرّ على كيان العدو مليارات الدولارات سنوياً
ثانياً، إن منظومات الدفاع الجوي لدى العدو، من القبب الحديدية إلى مقلاع داوود ومنظومات حيتس والباتريوت، والطيران الحربي والمروحي والمُسيّر الذي يمكن استخدامه لمواجهة المقذوفات في الأجواء، تملك من القدرات العملية المختبرة ما يسمح لها بمواجهة صلية أولى واسعة، مع نتائج لا تصل إلى أكثر من 50%، علماً أن قدرة العدو على إعادة تذخير منظومات الدفاع الجوي قد لا تكون ممكنة خلال ساعات قليلة، وأن استراتيجية التشتيت التي اختبرتها المقاومة في لبنان، لن تحتاج في أقسى الظروف إلى إطلاق أكثر من عشرة آلاف مقذوف متنوّع، من مُسيّرات (لا أحد يعرف أي نوع سيُستخدم في حالة الحرب الشاملة) إلى القذائف المدفعية (الشديدة الفعالية) إلى الصواريخ التقليدية وصولاً إلى الصواريخ المجنّحة أو الباليستية، أو حتى الصواريخ المجهولة النوع والمدى والسرعة والقدرة التدميرية. وهذه الكمية من المقذوفات كافية لتدمير وتعطيل كل الأهداف المشار إليها أعلاه، وستشكل عملية إغارة لم يواجهها العدو سابقاً، وتجعل المقاومة في موقع القادر على إعادة تنظيم جولات الإغارة اللاحقة، مع احتمال جدي بشن المقاومة عملية برية كبيرة في عمق الشمال المحتل. وستكون النتيجة الأولية دماراً هائلاً يصيب بنية العدو العسكرية والمدنية والاستراتيجية، مع نزوح أكثر من مليون ونصف مليون مستوطن، في ظل حالة فوضى لا تشبه أبداً حتى فوضى مستعمرات غلاف غزة صبيحة 7 أكتوبر.
كل ذلك، ونحن نتحدّث عن عملية لا يزال نطاقها الجغرافي في الثلث الشمالي من كيان الاحتلال. لكنّ أحداً لا يمكنه الدخول في عقل المقاومة، لحسم ما إذا كانت البداية من الشمال حصراً، أو أنها قد تنطلق من مكان آخر، حيث مركز عصب الكيان، خصوصاً أن الجميع يعرف، أقله العدو، أن للمقاومة مسحها المعلوماتي الشامل لكل كيان الاحتلال، وهو مسح يحدث بصورة دائمة، بما يحقّق نتائج كبيرة لعمليات القصف القائمة الآن بواسطة الصواريخ أو المُسيّرات التي تنتمي إلى جيل يعود إلى أكثر من عقد على الأقل.