ابراهيم الأمين
أخبار الجنوب عادية. لا شيء مختلفٌ عن السائد. عمليات كلاسيكية. إسرائيل تقصف وتنفّذ غارات، وحزب الله ينفّذ عمليات إطلاق قذائف وصواريخ على المواقع، وتنقضّ مُسيّراته الانتحارية على نقاط غير مرئية. لكن، من الواضح أن الأضرار كبيرة على جانبي الحدود. وتشير الحقائق إلى أن الخسائر البشرية في الجانب اللبناني أكبر بكثير منها في جانب العدو.خلاصة يقدّمها مراسلون صحافيون يعملون في المنطقة الحدودية، وما يمكن سماعه من سياسيين مؤيدين أو معارضين لجبهة الإسناد. وقد يكون ممكناً لبعض الخبراء العسكريين إضافة ملاحظات مهنية على مجريات الميدان.
لكنّ السؤال الذي لا جواب عليه عند كل هؤلاء هو: أي حرب تحصل اليوم على الجبهة اللبنانية مع فلسطين المحتلة؟
ما لا يلاحظه جميع المراسلين في المنطقة، ولا تهتم لأمره غالبية السياسيين، ويصعب على الخبراء العسكريين تقبّله بسهولة، هو أن الحرب على جبهتنا تحوّلت، مع الوقت، إلى مختبر غير مسبوق للجانبين، لجهة التعامل الإلزامي، وغير المخطّط له، مع مجريات ميدانية تفرض تكتيكات مبتكرة، كما تفرض شكلاً مختلفاً من الأسلحة وطريقة استخدامها. وما يصعب المهمة، هي قواعد الاشتباك التي تفرض قيوداً كبيرة جداً على استخدام القوة النارية في المعارك. وهو أمر يربك جيش الاحتلال الذي يفرط في استخدام ما لديه من قوة في غزة، بينما يجد نفسه مضطراً للتقيّد كثيراً مع لبنان. كما يفرض على المقاومة اللجوء إلى أسلحة استُخدم ما هو أكثر فعالية منها في حرب تموز 2006، علماً أنها راكمت قوة هائلة قياساً بحركات المقاومة.
الأمر لا يبدأ من هنا. بل من أكثر الأمور حساسية في الحروب، وهي حركة القوات. ما يحصل على الأرض يفرض واقعاً مختلفاً، إذ إن حزب الله الذي يشكّل مقاتلوه أساس قوته، هم بغالبيتهم من أبناء القرى الجنوبية، سواء تلك المنخرطة في المواجهة أو البعيدة عنها. لكنهم غير قادرين على التصرف بحرية، إذ تفرض عليهم قواعد الاشتباك عدم الاقتراب من خطط ومنشآت وأسلحة مخصّصة لمواجهة من نوع مختلف. وهذا ما يدفعهم إلى العمل تحت ضغط كبير، سواء لناحية التحشيد والتبديل عند الثغر القتالية، مروراً بعمليات الإمداد الأساسية المتعلقة بالعمل الميداني أو الحياتي، بالإضافة إلى وسائط التواصل بين المجموعات نفسها أو بينها وبين غرف العمليات. ويحصل في كثير من الأحيان أن يجد المقاومون أنفسهم في حالة اضطرار للعودة إلى أساليب سبق أن جرّبوها خلال المواجهات مع العدو قبل التحرير في عام 2000، لتحقيق ما هو مطلوب من أهداف.
وإذا كانت الحروب تعني، بالنسبة إلى المقاتلين، أنها ساحة يرتفع فيها خطر الاستشهاد، فإن الحرب القائمة الآن ترفع كثيراً من احتمالية تعرّض المقاتلين للإصابة المباشرة. وقد دلّت التحقيقات الميدانية في حوادث سقوط مقاومين على أن طبيعة المواجهة نفسها، وقرار التقيّد بقواعد الاشتباك، رفعا من نسبة المخاطرة، وتالياً من نسبة الخسائر البشرية، شهداء أو جرحى.
وإذا كانت المقاومة لا تتخذ مقرات رسمية لها، وليست عندها في الحرب آليات واضحة المعالم للتحرك ونقل العتاد، فإن حجم الجبهة، وعدد مواقع العدو التي تقع ضمن الأهداف، وآلية إصابتها، تفرض إجراءات لم تكن واردة في أي وقت سابق. فكيف الحال، والمقاومة تواجه معركة تقنية توازي بقوتها وتأثيرها المعركة النارية المباشرة. وقد أمكن لفرق المقاومة، بعد 11 شهراً، أن تتعلم الكثير عن كيفية استخدام العدو للتكنولوجيا الحديثة في الحرب، ليس على مستوى الرصد العادي فقط، بل على مستوى العمل التجسّسي التقني الذي يتيح للعدو في أحيان كثيرة، تحديد مصادر الخطر أو مصادر النيران، وحيث تكون القوات في حالة جهوزية فورية للتعامل مع هذه المخاطر، ما ينعكس ضربات قاسية تصيب المقاومين في أكثر من مكان.
يتعامل الطرفان على أساس أن الحرب قد تطول. وهذا يعني أن العمل الوقائي صار جهداً مركزياً بحدّ ذاته، وهو ما فرض على المقاومة إجراءات جديدة على صعيد حركة القوات وتحديد الأهداف واتخاذ القرار بالعمل، وبالتالي اختيار السلاح المناسب، وقبل كل ذلك الاستعداد مسبقاً لرد العدو على هذا العمل. وفي هذه الحالة، يلاحظ المقاومون حجم الجهد الهائل الذي يبذله العدو لفرض سيطرة تقنية شاملة، سيّما أنه بعد أكثر من شهرين من العمليات المكثّفة والمتواصلة التي ضربت منظومة التجسس التقني على طول الحافة مع لبنان، اضطر العدو للبحث عن بدائل، تفرض على جنود العدو القيام بعمليات تمويه كبيرة للوصول إلى نقطة معينة تسمح بوضع كاميرا مراقبة، أو جهاز رادار للأفراد، أو نصب منصة استشعار للمُسيّرات، أو البحث عن منافذ لزرع مراصد تمكّن جيش الاحتلال من مراقبة المسالك البرية التي تنتشر على طول الجبهة. ومن يسمع يومياً عن قيام العدو بغارة هنا، أو عن نشاط لمحلّقة هناك، أو عن حركة المُسيّرات فوق هذه المنطقة أو تلك، عليه أن يعرف أن خلف هذا العمل سلسلة من الأهداف العملانية التي يحتاج إليها جيش الاحتلال، ليتمكن من التعامل مع الجهات المقابلة له. وهي عملية مضنية، ومكلفة جداً للعدو، لكنها ضرورية وإلزامية في المواجهة القائمة، وهي جعلت قوات الاحتلال تكتسب خبرة كبيرة في «العمليات غير النظامية» التي يُفترض أن حركات المقاومة هي من يقوم بها فقط. فيما تجد المقاومة نفسها أمام مهمة يومية، وأحياناً، تضطر إلى العمل فوراً، لإعادة ضرب كل ما يزرعه العدو، من أجل تحقيق رؤية واستشعار أفضل. والصعوبة تظهر من خلال قواعد الاشتباك نفسها التي تمنع المقاومة من المبادرة إلى القيام بأعمال في العمق، ما يعني اضطرارها في أحيان كثيرة إلى انتظار انتقال فعل العدو أو أغراضه إلى ساحة المواجهة كي يتم التعامل معها، ولو أن هناك أموراً كثيرة حصلت خارج الحسابات المفترضة.
وإزاء القدرات الهائلة للعدو، على صعيد المراقبة التقنية، أو قدرة الطيران الحربي أو المُسيّر على تنفيذ عمليات قاسية خلال وقت قصير، فإن المقاومة تعرف أن الكلفة على صعيد الخسائر البشرية في صفوفها ستكون مرتفعة، وهو ثمن صار واضحاً لدى قيادة المقاومة، بعد أسابيع فقط على اندلاع المواجهات. لكن القرار باستمرار عمل جبهة الإسناد، وفرض قواعد اشتباك على العدو، يجعل المخاطر عالية، وليس في يد المشرفين على العمل سوى ابتكار إجراءات وآليات تحمي العمل وتحدّ من الأكلاف.
ماذا عن العدو؟
حالة قوات الاحتلال يشرحها نقاش يجري بين الضباط والجنود الذين خدموا في قطاع غزة، ونُقلوا إلى الجبهة مع لبنان. وهؤلاء يشرحون بصورة جيدة طبيعة المعركة غير المسبوقة التي اضطروا إلى العمل وفق ضوابطها، حيث يعرفون أن الهامش الإضافي المتاح لهم، بخلاف المقاومة، هو حجم القوة النارية. لكن، لننظر قليلاً في واقع جيش الاحتلال الذي كان ينقل عشرات الألوف من جنوده وآلياته بحرية تامة. فيما يضطر اليوم، قبل أي خطوة، إلى إخلاء المستعمرات من السكان، ليس خشية تسلل قوة «الرضوان» فقط، بل لأن طبيعة المعركة تفرض عليه نمطاً يحتاج فيه إلى أن يكون حراً في حركته داخل هذه المستوطنات. وكونه يعرف جيداً أن المقاومة تراقبه وتحصي أنفاسه، فلن يكون قادراً على المغامرة بسقوط خسائر كبيرة في أي منشأة مدنية، أو بين أهلها، في حال تواجدهم خلال المعارك.
لم يكن أي جندي في جيش الاحتلال يتصور أنه لن يكون بمقدوره التحرك عبر دبابة أو مركبة عسكرية على طول الجبهة مع لبنان، فكيف الحال وقد باتوا مجبرين، قبل الوصول إلى النقاط الحدودية بمسافات كبيرة، على اتخاذ إجراءات من نوع مختلف، إذ لم يعودوا أحراراً في التحرك أو التواصل أو استخدام الإنترنت. وعليهم الاستعداد للمكوث لوقت طويل في نقطة مع حاجات قليلة. وعملية التبديل لم تعد متاحة في أي وقت. وعلى القوات التكيف مع فكرة البقاء لأيام طويلة في حالة تنقّل دائم، بين نقطة وأخرى. وهي حركة لا تحصل داخل الثكنات، بل في حرج أو واد أو مكان كثيف الأشجار. ويُصدم الجنود بأنه يمنع عليهم استخدام الثكنات العسكرية، وهم يشاهدون مباشرة كيف أن أي مركبة تتحرك تصاب فوراً بصواريخ موجّهة تدمّرها بصورة فعلية. كما تعرّف هؤلاء إلى صواريخ من فصيلة «الكاتيوشا» بات بمقدورها الوصول بدقة عالية نسبياً إلى المواقع العسكرية. وباتوا يعرفون أن عمليات التمويه تفرض عليهم التخفي بعيداً عن أعين مُسيّرات حزب الله التي تصوّرهم، قبل أن تُرسل مُسيّرة انقضاضية لضربهم متى توفّرت فرصة العمل. وعندما يصل الجنود إلى موقع أو ثكنة حدودية، يتجهون فوراً نحو الغرف المحصّنة، ولا يغادرونها إلا عند التبديل، واختفت ساعات الاستجمام على ساتر أو في دشمة ظاهرة للعيان.
لم يتخيّل جنود العدو يوماً أن يتحركوا كاللصوص بين المنازل وأن يغيّروا مواقعهم مرات عدة في يوم واحد
وكل ما على الجندي القيام به هو الصلاة لأن تبقى الكاميرات تعمل حتى تصله صورة ما يجري خارجاً وهو في حصنه تحت الأرض، وعندما تصاب هذه الكاميرات، يبدأ الصراخ، وتضج أجهزة المناداة، التي تطلب من إدارة المُسيّرات مدّهم بالمعلومات بطرق مختلفة. وفوق كل ذلك، على جندي العدو أن يكون مستعداً لتحمل ضغط بعض الصواريخ التي تفقد الإنسان توازنه، مثل صاروخ «البركان»، الذي يتمتع بفعالية توازي بالضبط فعالية غارة طائرة حربية. وعندما يسقط الصاروخ، يتحدث الجنود عن هزة أرضية كبيرة. وحتى عندما ينجح الجنود في التسلل إلى منزل مدني، فإن أي حركة ترصدها المقاومة، تعني أنه بات عليهم انتظار وصول الصواريخ الموجّهة، ولجنود العدو خبرة في التمييز بين نوعية القذائف التي تحملها الصواريخ الموجّهة، وقد اختبروا الصنف المخصص للآليات، أو الخاص بالتحصينات الخرسانية، أو تلك المخصصة للأفراد. وما زاد في إرباك القوات العاملة على الأرض، هو أن المقاومة أدخلت سلاح «الماس» الذي يتيح للمقاومين تجاوز العقبات الطبيعية من تلال وهضاب أو حتى العوائق القائمة على شكل سواتر أو جدران. هذا عدا اليأس الذي أصاب القوات الناشطة على الأرض، نتيجة قدرة المحلّقات على الوصول إلى المواقع وتدمير الأجهزة الموضوعة خصيصاً للتعرّف إليها.
لكنّ الأمر لا يقف عند هذا الحد. فجيش العدو معروف بالعلاقة القوية التي تربط الجنود بقادتهم العسكريين. لكنّ هؤلاء يختبرون واقعاً مختلفاً. فزيارة قائد المنطقة أو رئيس الأركان أو ضابط الاستخبارات الأرفع أو وزير الحرب أو رئيس للحكومة صارت حدثاً أمنياً خالصاً، إذ يُمنع على أحد معرفة أي تفصيل يخصها. ولا يُنشر الخبر إلا بعد عودة هؤلاء إلى مكاتبهم، ولم يعد هناك مجال لاصطحاب الصحافيين، بل يُكتفى بإعلام الجيش، ويضطر إلى عمليات تمويه لإخفاء الوجوه والأسماء والكثير من العلامات في الأمكنة. وأول درس تعلّمه قادة العدو، هو أنه لا يمكن عقد اجتماع في مقر معروف، ولم يعد من حاجة إلى دعوة كل المتواجدين في المكان للسلام على الشخصية الآتية من بعيد، كما لم يعد مسموحاً لكل من يرغب بتفقد الشمال أن يحظى بهذه الزيارة. ويتصرف جنود العدو على أنهم تحت رقابة لصيقة طوال الوقت. ويظهرون الخشية بصورة أكبر، ويُصدمون بتصرف من بقي من المستوطنين في منازلهم، حيث يبادر هؤلاء إلى منع الجنود من الاقتراب من منازلهم، ويصرخون في وجوههم: اسمعوا، لقد اتصل بنا حزب الله، وحذّرنا من فتح منازلنا لكم، ومتى فعلتم ذلك، فالصواريخ ستسقط علينا؟
تفرض المقاومة قواعد صارمة تقيّد حركة المقاتلين وحرية استخدام السلاح وتجبرهم على ابتكار تكتيكات يومية لتحقيق الأهداف
هذه القناعة موجودة عند الجنود والضباط الذين لم يسبق لهم أن اضطروا إلى إعداد دراسة طويلة جداً، وفحص مع عدد غير قليل من الجهات، قبل استخدام شركة تساعد في إعادة ترميم عَمود إرسال أو إنارة خاصة. وهو ما جعل المشهد في المستوطنات الشمالية، كأنها مناطق مهجورة منذ عشرات السنين، حيث الدمار قائم دون إزالة الركام، وحيث المعامل تُخرب وتتعطل ويغزوها العفن والجرذان، وحيث اليباس يسيطر على المشهد الذي لطالما كان علامة لتمييز الحدود عن لبنان. لكن ما هو أخطر بالنسبة إلى جنود العدو، أو إلى من بقي من المستوطنين، هو اضطرارهم للتعايش القسري مع حالة التأهب الدائمة. فصافرات الإنذار هي رفيق دائم للإزعاج، كما هي حال أصوات المُسيّرات فوق جنوب لبنان. والهروب فجأة إلى الغرف المحصّنة أو الملاجئ صار تمريناً يومياً لمن لا يريد المغادرة إلى مكان بعيد. وقد استقبلت مستشفيات العدو مئات المستوطنين الذين أصيبوا نتيجة تعثرهم خلال الهرب نحو المخابئ بالإضافة إلى التوترات النفسية التي تجعل الجنود يتصرفون عند تسريحهم مثل فتية يحتفلون بتخرّجهم من المدرسة، فتراهم ينتظرون عبور نحو 15 كيلومتراً قبل أن يصرخوا مهلّلين لأنهم خرجوا من الجحيم سالمين.
على حدود فلسطين، ثمة معركة من نوع مختلف، وثمة دروس عسكرية وأمنية واستخباراتية ونفسية وإنسانية ستُدرّس في أي مؤسسة معنية بتطوير قدرات المقاتلين أو الجيوش. وهي شديدة القساوة بسبب الشروط الكبيرة التي تفرضها المقاومة على العدو، ولذلك، نجد بين المقاومين عندنا من يقول: متى يا ربّ تحين لحظة فك القيود؟