ابراهيم الأمين
خلال دقيقة واحدة، نجح العدو في توجيه أقسى ضرباته إلى جسم المقاومة الإسلامية منذ بدء الصراع مع العدو، في عملية أمنية استثنائية من حيث القدرة على الوصول إلى الأهداف، وإلى الوسائط، وفي إظهار عناصر التفوق التكنولوجي والاستخباراتي الإسرائيلي، أدّت إلى إصابة أكثر من ثلاثة آلاف مقاوم ومدني من وحدات حزب الله، عجّت بهم المستشفيات في الجنوب والبقاع وبيروت والضاحية.ما جرى أمس يضفي كثيراً من الدهشة من قدرة العدو على إيلام خصومه، ومن عدم ارتداعه عن القيام بأي عمل. وهو إذا كان يريد تأكيد تفوّقه الأمني، وأنه في حال يقظة دائمة، فقد أكّد المؤكد بأن من يواصل جريمته غير المسبوقة في غزة وفلسطين، يمكنه أن يفعل الكثير، بحيث لا مكان بعد اليوم لحديث عن تسوية وحلول، علماً أنه بعيداً عن الشعارات ورفع المعنويات، فإن العدو الذي تباهى بما حقّقه – ولو بعيداً عن الأضواء – يدرك جيداً أن هدفه الفعلي من العملية لم يتحقق، وهو إجبار المقاومة في لبنان على الاستسلام ووقف إسناد غزة.
ما قام به العدو أمس مثّل جرأة في استخدام الشر الذي يسكن في عقل وقلب من فكّر وخطّط وبرمج وقرّر ونفّذ أكثر العمليات لؤماً وخبثاً. وهو شر لم يسبقه أحد إليه. وعليه، شكّلت العملية تحوّلاً في مقاربته للحرب مع لبنان، خصوصاً أنه أقدم، عن سابق تصور وتصميم، على توجيه ضربة يعرف مسبقاً أنها ستصيب مدنيين، وهو يدرك جيداً أن الإجراءات التي يتخذها المقاومون، تفرض على قسم كبير منهم عدم إدخال هذه الأجهزة إلى كثير من المواقع، بدليل أن مئات من هذه الأجهزة انفجرت أمس في مكاتب ومنازل وسيارات.
وما أكّده العدو في عملية الأمس أنه لا يريد التقيّد بقواعد الاشتباك التي تمنع الاقتراب من المدنيين أو المنشآت المدنية، وأنه لن يميز بعد اليوم بين مقاتل على الجبهة أو حزبي يعمل في مكتب بعيد، وأنه لم يعد يهتم بحصر القتال بين عسكريين. وهو يقول بوضوح إنه ضاق ذرعاً بحرب الاستنزاف التي تخوضها المقاومة ضده، ويريد تغيير المعادلة.
ماذا عنّا نحن؟
ثمة نقاش له بعده الخاص انطلق بقوة داخل جسم المقاومة، سواء لمعرفة حقيقة ما حصل، أو لجهة التدقيق الأمني في مصدر الخرق الذي تسلّل منه العدو لتنفيذ هذا العمل الضخم. وهي عملية تبدأ من كيفية وصول العدو إلى معلومات أمّنت له الوصول إلى شحنة أجهزة الاتصال التي انفجرت أمس، مروراً بالخطوات التي اعتُمدت لضمان وصولها إلى أيدي المقاومين، وصولاً إلى طريقة التنفيذ وإحصاء الخسائر وانعكاسها على جبهة المقاومة.
الغضب الذي سيطر على الناس أمس لم ينعكس تهوّراً في أي خطوة أو ردة فعل. وعلى ضخامة ما جرى، وبمعزل عن التعطّش إلى رد كبير وصاخب، فإن المقاومة لن تخضع للانفعالات. لكنّ العدو يعرف جيداً أنه دفع المقاومة، مرة واحدة، إلى الخروج من مربع القواعد التقليدية للحرب القائمة منذ نحو عام، وأننا بتنا أمام وضع جديد.
تدفع اسرائيل المقاومة الى البحث عن رد باستخدام ما تتفوق فيه وبما يجبي من العدو، جيشاً ومؤسسات ومستوطنين، ثمن الجريمة
خلال أقل بقليل من عام، كان العدو يقف حائراً أمام مآلات الوضع على الحدود الشمالية، ويحاول يومياً حصر أضرار جبهة الإسناد اللبنانية. وعندما يصل إلى حدود اتخاذ قرار بعمل مجنون كالذي فعله أمس، فهو يحاول إفهامنا بأنه مستعدّ بصورة كبيرة لمواجهة جبهتنا. وكل ما قام به حتى الآن، بما في ذلك عملية أمس، يؤكد أنه يبرز عضلاته حيث يظهر تفوّقه الأمني والتقني وقوته النارية، لكنه لم يظهر بعد استعداده لحرب تصيبه في عنقه، فيلجأ إلى أعمال يفترض أنها تجنّبه توسيع دائرة النار. ولا تزال خشية العدو من أمرين، الأول الخوف من إقدام قوة الرضوان على شن هجوم بري على المستعمرات الشمالية أو حتى أبعد من ذلك، والثاني أن تلجأ المقاومة إلى استخدام ترسانة من الصواريخ النوعية في قصف منشآته العسكرية أو حتى الاستراتيجية.
والخشية من هذين الأمرين تنبع من إدراكه لعدم تفوّقه فيهما. ولذلك، يفضّل أن يخوض معركة تستوجب أدوات أمنية متطورة وجريئة، ودمجها بأعمال عسكرية عنيفة جداً، مثل القصف الجوي العنيف على أماكن يعتبرها مراكز أو قواعد للمقاومين، أو القيام بعمليات أكثر جرأة كما حصل في سوريا، عندما نفّذ عملية مركّبة، تضمّنت قصفاً جوياً وإنزالاً عسكرياً في منشأة عسكرية حساسة لم يكن ينفع معها القصف الجوي المتواصل. وهي عمليات، يفكر العدو في تنفيذها في لبنان، وقد حاول القيام بذلك بشكل مصغّر وضيّق في سنوات سابقة، لكنه امتنع عن تكرارها بعدما أيقن أن مجموعات المقاومة تنتظره في أكثر من نقطة.
عملياً، تدفع إسرائيل المقاومة إلى البحث عن ردّ وفق قاعدة التماثل. والأمر هنا، يكون من خلال لجوء المقاومة إلى استخدام ما تتفوّق به، بما يجبي من العدو، جيشاً ومؤسسات ومستوطنين، ثمن الجريمة.
ما حصل، يثبت الحاجة إلى عقل وشجاعة، لكنه قد يفتح الباب أمام بعض الجنون الذي يفيد أحياناً في إيقاظ حواس من لم يعد لديه أيّ نوع من الإحساس!