إبراهيم الأمين
هل ورّط الأميركيون قائد الجيش العماد جوزيف عون في مهمة لا يقوى على القيام بها، أم تريد القوى المعارضة للمقاومة التخلص منه كمرشح رئاسي من خلال دفعه إلى مواجهة مع حزب الله؟
سبب السؤال، هو التحديات التي ألقيت كلها في حضن عون دفعة واحدة. بدأ الأمر عشية العدوان على لبنان، وأخذ شكلاً مختلفاً خلال العدوان عندما تصرّف أعداء المقاومة، في الخارج أولاً وفي الداخل ثانياً، على قاعدة أن قائد الجيش هو الوحيد القادر على «تنظيف المكان» بعد أن تنجز إسرائيل مهمتها بتدمير المقاومة. وبعد أسابيع على بدء الحرب البرية، بدأت الصورة تتبدّل، وصارت المعلومات ترد أولاً إلى قائد الجيش نفسه بأن الوضع لا يسير كما يتمنّى أصحاب المشروع. وإلى ما قبل أسبوعين من الإعلان عن وقف إطلاق النار، بدأ الفريق نفسه يلمس حجم التوتر لدى الفريق الأميركي وحلفائه من العرب واللبنانيين، حين ساد شعور بأن الحرب لن تنتهي بتدمير حزب الله ولا باستسلامه، ما أثّر على طريقة النقاش مع قائد الجيش نفسه، خصوصاً أنه كان لدى جماعة أميركا تصور لدور يقوم به الجيش يتجاوز الحدود التقنية في الانتشار جنوباً وشرقاً وشمالاً، وتفكيك سلاح المقاومة، على أن يتوسّع ليشمل تكوين مظلة لحكم جديد في لبنان، مع التذكير دوماً بأن عون نفسه سيكون رأس السلطة الجديدة كرئيس للجمهورية.
الجيش أدرك قبل غيره
أن إسرائيل لم تربح الحرب وخشية لدى عون من تبنّي أميركا تفسيرَ إسرائيل للاتفاق
لكنّ الرياح سارت في اتجاه مختلف. لم تربح إسرائيل الحرب، ولم يكن بمقدورها فرض اتفاق وفق النصوص الأولى التي حملها وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي دون دريمر إلى الولايات المتحدة، ما فرض التعامل مع الأمر بطريقة مختلفة. كما أن الجيش اللبناني لم يعد بمقدوره القيام بمهمة ترضي الأميركيين مئة في المئة، بل وجد نفسه أمام مهمة تتطلّب تعاوناً جدياً مع المقاومة، وهو ما دفع بمسؤول أمني بارز إلى القول إن «العماد عون في وضع لا يُحسد عليه، فهو وُضع أمام مهمة، كان الأميركيون يعتقدون بأن تنفيذها سهل، لأن إسرائيل كانت مكلّفة بالقضاء على حزب الله. أما وقد سارت الأمور بنحو مختلف، فإن المهمة تقتضي تعاوناً واضحاً مع حزب الله».
بعض التفاصيل التي وردت في سياق المناقشات اللاحقة من شأنها توضيح الصورة بشكل أفضل. فالجيش كان قد عرض قبل شهور عدة خطة لتوسيع نطاق انتشاره وزيادة عديده، ووافق الأميركيون على أن لا ينسحب الجيش من الداخل اللبناني، لأن الأطراف الداخلية، ولا سيما الرئيس نبيه بري والنائب السابق وليد جنبلاط إضافة إلى قيادات سنية ومسيحية، رفضت إعفاء الجيش من مهمة ضبط السلم الأهلي، وهو ما جعل قيادة الجيش تتحدّث عن حاجة إلى دعم غير عادي. وعندما توسّعت المواجهة بين المقاومة والعدو، وصار ملف الجنوب داهماً، وجد الجيش أن هناك فرصة لأن يقر الجميع، في الداخل والخارج، بما يطلبه من عناصر دعم. وربما وجد قائد الجيش، ومن حوله بعض السياسيين والإعلاميين، في الأمر فرصة لتحقيق مكاسب تتصل بالانتخابات الرئاسية، وهو ما دفع بالقائد إلى توسيع دائرة مستشاريه، وصار يستمع إلى نصائح بالتعامل مع الشيعة دون تحميلهم مسؤولية ما يقوم به حزب الله، أو بمداراة الرئيس بري لكسب موافقته على الإطاحة بالمرشح سليمان فرنجية، وبالعمل مع الكنيسة لخلق توازن مسيحي يقطع الطريق على «تحالف الأعداء» المتمثل في جبران باسيل وسمير جعجع. وطبعاً، لا يخلو مجلس القائد من تُفّه وسُذّج قالوا إنهم سيفرضون على الجمهور التعامل مع القائد على أنه هو الجيش، وأن كل نقد للقائد هو هجوم على الجيش كمؤسسة.
ما حصل مع الوقت، هو أن الجيش الذي يعطيه اتفاق وقف إطلاق النار مساحة لدور كبير على الأرض وفي السياسة، بات يحتاج إلى مساعدة مباشرة من الأميركيين. واكتشف العماد عون أن إسرائيل أُجبرت على إبرام الاتفاق، وأنها لا تريد التقيّد به، بل تريد أن تفرض ما تعتبره حقاً لها بموجب اتفاق أبرمته مع واشنطن، يمنحها حق التحرك تلقائياً لضرب أي تهديد تعتبره وشيكاً أو حقيقياً/ وهو سلوك يعني، ببساطة، أن دور الجيش سيكون مقتصراً على تسجيل الخروقات ونقلها على شكل شكاوى إلى اللجنة المشرفة على تنفيذ الاتفاق، بينما يخضع بصورة يومية لاختبار أميركي – إسرائيلي – أوروبي لقياس التزامه بتنفيذ الاتفاق عبر نزع سلاح حزب الله بالقوة!
طبعاً، لا يمكن أن يقبل جوزيف عون بالسير طوعاً أو حتى غصباً إلى التهلكة. لذلك سارع إلى مصارحة الأميركيين بأن اعتماد التفسير الإسرائيلي للاتفاق يعني توجيه ضربة قاضية إلى أي دور مطلوب من الجيش، وهو يعرف أنه لن يكون قادراً على إقناع العسكريين والضباط بأي مهمة طالما تقوم إسرائيل بممارسة الخروقات من دون ردع. وذهب أحد المقربين منه إلى القول إن إصرار الولايات المتحدة على تبني التفسير الإسرائيلي، ومحاولة فرضه على الجيش، يعني أن واشنطن تقامر بالاستقرار في لبنان، وتدفع الجيش وقائده إلى الانتحار.
خلال خمسة أيام بعد سريان وقف إطلاق النار، كان الجيش يواصل إبراز احتجاجه أمام الأميركيين بسبب ما تقوم به إسرائيل. أصلاً، لم يكن قائد الجيش مرتاحاً إلى مهلة الستين يوماً، وهو حاول تعديلها بصورة تتيح له أن ينشر، دفعة واحدة، نحو 6500 عسكري في منطقة جنوب نهر الليطاني، على أن يعمد العدو إلى الانسحاب الكامل وبصورة فورية، وأن يلتزم بوقف أي نوع من الخروقات. وكان الموقف العملياتي للجيش واضحاً بأنه من دون ذلك، لن يكون بمقدور الجيش تنفيذ التزامات لبنان تجاه الاتفاق.
ومع إمعان العدو في الخروقات، والتي تجاوزت إطلاق النار لترهيب المواطنين العائدين إلى منازلهم، إلى القتل، كان الجيش يشعر بأن الرصاص موجّه إليه وليس إلى حزب الله، لأن الأنظار توجهت إلى الجيش سائلة إياه عن دوره في منع هذه الخروقات، علماً أن الجيش تبلّغ من حزب الله، كما حصل مع الرئيسين بري وميقاتي (وآخرين)، بأن المقاومة تراقب أداء العدو، قبل أن يعود الحزب إلى إبلاغ كل هؤلاء بأن عليهم التحرك سريعاً لكبح جماح العدو، وأتبع ذلك بتحذير من أن المقاومة لن تبقى ساكتة إذا لم يتم ردع العدو.
وفيما كان بري وميقاتي يجريان اتصالات مع الأميركيين والفرنسيين ولا يحصلان سوى على كلام ووعود، كان قائد الجيش يلمس عدم جدية الأميركيين في إلزام إسرائيل بوقف الخروقات، جاء ردّ المقاومة الأولي أولَ أمس في مزارع شبعا ليمنح الجيش ورقة قوة يستخدمها في حديثه مع الأميركيين. لأن الوقائع على الأرض لا تشبه كلام السياسيين المعارضين لحزب الله. فقائد الجيش يعرف أن أميركا كانت تفاوض حزب الله، ولم تكن تفاوض على حزب الله، وأن إسرائيل وافقت على اتفاق مع حزب الله، ولم توافق على اتفاق حول حزب الله، وأن الوقائع الميدانية تؤكد أن المقاومة قادرة على العودة إلى القتال في حال كان العدو يرغب في كسر الاتفاق، أو فرض قواعد على الأرض وفق تفسيره هو للاتفاق.
كل ذلك، جعل النقاش خلال الساعات الـ 24 الماضية يأخذ شكلاً مختلفاً. حيث بات الجيش ينتظر الأميركيين والفرنسيين ليأتوه بضمانات تسمح له بالانتشار خلال أيام قليلة في كل المناطق الحدودية، مقابل انسحاب كامل لقوات الاحتلال ووقف كل أنواع الخروقات. وما لم يحصل ذلك، فليس على أحد أن يتوقع من الجيش أن يقوم بمهمة عجزت أميركا وإسرائيل عن تنفيذها.
لكن، يبدو أن الأمر لا يتعلق بتقييم قائد الجيش السياسي وحدَه، بل هو متصل بأجواء ليست مفاجئة، ولكنها جديدة، تشير إلى بروز «مزاج» لدى عدد غير قليل من الضباط الكبار في الجيش، الذين يرفضون تحويل المؤسسة العسكرية إلى أداة في مواجهة المقاومة وأبناء الجنوب. وأخذ المزاج بعداً مختلفاً بعد إشكال بين هؤلاء الضباط وقائد الجيش الذي رفض أن يشملهم قانون التمديد له لسنة جديدة، إذ بدأت الأصوات ترتفع من ضباط كبار (ليسوا من الطائفة الشيعية)، ينصحون مرجعيات سياسية بالانتباه من مخاطر دفع الجيش إلى صدام مع حزب الله، لأن ذلك سيؤدي إلى حالات تمرّد وربما إلى انشقاق كبير داخل المؤسسة العسكرية، علماً أن السبب الآخر لهذه الأصوات يتعلق بخشيتها من «نزعة انتقامية» قد تظهر في تعيينات مرتقبة داخل المؤسسة العسكرية، وأن يتم تهميشهم بحجة «نقص الولاء». وفي هذه النقطة، ثمة إشكالية كبيرة، عندما يفترض البعض أن الولاء للمؤسسة يفرض على العسكريين أن يعلنوا الولاء للقائد. وسيكون الأمر أكثر تعقيداً في حالة جوزيف عون بالتحديد، كونه يدير الجيش بطريقة غير مسبوقة، ويخوض في الوقت نفسه معركة رئاسة الجمهورية.
أما بخصوص الرئاسة، فرأس جبل الجليد، أطلّ هذه المرة، من الوسط المسيحي. فبعدما كان التيار الوطني الحر وبعض النواب المستقلين يجهرون بمعارضتهم لترشيح عون، برز موقف «القوات اللبنانية» التي اعتمدت تكتيكاً مختلفاً يقوم على قيادة معركة التمديد للقائد، مقابل رفض تقديم أي التزام مسبق من ترشيحه للرئاسة، علماً أن بين نواب القوات من قال صراحة بأنه في حالة العماد عون، يجب أن يترك المؤسسة العسكرية ويتقدم إلى الناس بوصفه مدنياً، لإجراء نقاش معه حول برنامجه الرئاسي. وهو كلام، عكس موقف «القوات» التي لا تمانع أن يحترق عون كمرشح رئاسي، ليس لدعم ترشيح قائدها سمير جعجع، بل لأن «القوات» لديها رأيها بكل قادة الجيش. وهو ما دفع بنائب تغييري إلى القول: «تريد القوات التمديد لعون كقائد للجيش، وتريد منه أن ينزع سلاح حزب الله بالقوة، وفي حالة نجاحه، تكون القوات كمن ربح ورقتي اليانصيب واللوتو في يوم واحد: التخلص من سلاح حزب الله، واحتراق جوزيف عون كمرشح للرئاسة».
وقمح!