فراس الشوفي
قدّم الرئيس نبيه برّي أمس، رواية شبه كاملة عن مسألة وزارة المالية في اتفاق الطائف وتجربته مع الرئيس الراحل رفيق الحريري في عام 1992. رئيس المجلس لن يتنازل عن وزارة المالية، وهو يضع نصب عينيه «تكتلاً نيابياً وطنياً عريضاً يحمي التوازن في البلاد»
«أوعا الصّبي»، «أوعا الصّبي»، يصرخ الرئيس نبيه برّي من على شرفة بيته في مصيلح، وهو يستعد لإلقاء كلمته أمام جموع المهنّئين بالفوز، الذين ضاقت بهم باحة البيت الفسيحة. كيف وصل الصبي إلى المنبر وعلى رأسه طاقيّة حركة أمل الخضراء، لا يهمّ، المهمّ أن رئيس المجلس النيابي «السابق»… والمقبل، عينه على الصغير، خشية تدافع عشرات الرجال حوله.
هو استفتاء يوازي الاستفتاء الذي نالته لوائح حركة أمل وحزب الله في الجنوب. هذا الجنوب قال كلمته وانتقى المقاومة خياراً بكل ألوانها، وأهله يجدّدون العهد ويأتون أفواجاً إلى مصيلح حاملين صور شهدائهم منذ صباح يوم الاثنين.
الوصول إلى مضافة الرئيس يكاد يكون مهمةً مستحيلة، الناس المتجمهرون من المدخل يجتاحون البوابات، ورجال الأمن حائرون. وهناك في الداخل، السعادة تمسح التعب المتراكم عن وجه الرئيس، الواقف منذ ثلاثة أيّام يسلّم على زوّاره باليد، وينحني لكي تقبّل الجنوبيات كتفه، وهو يطبع القبل على جبين صغارهم.
وكما في السيّاسة، كذلك على المائدة، يتابع نبيه برّي أدقّ التفاصيل، وببساطة جنوبية، يسأل عمّن لم يذق بعد كمّونة البندورة والبرغل وكبّة البطاطا، ويضيف أصابع «المسخّن» الصغيرة إلى صحون ضيوفه. على المقلب الآخر من الطاولة، تجلس زوجته رندة برّي. ومثل لاعِبَي «بينغ بونغ» يتبادلان المواقف والتعليقات والنّكات. حتى إن النّقاش في القانون الانتخابي الجديد وسيئاته، كاد أن يسبّب انقساماً داخل العائلة. انقسامٌ انتهى بنكتة، بعد أن أضاف برّي سيئة جديدة إلى القانون بأنه «بيعملّي مشكل مع رندة».
رئيس المجلس النيابي استبشر خيراً بخطاب رئيس الجمهورية ميشال عون. كلام عون مطمئن بالنسبة إليه، لكنّه يترك أيضاً خيارات أخرى، إن لم ينعكس الخطاب على سلوك التيار الوطني الحرّ والرئيس سعد الحريري في المرحلة المقبلة. عدّته بين يديه: كتلة كبيرة متنوّعة، وحلفاء موثوقون في كلّ المناطق ومن كل الطوائف، ومشروع لتشكيل «تكتل وطني» كبير يفوق الخمسين نائباً، «يشكّل ضمانة لكي يبقى البلد متوازناً». والتكتّل جاهز وأسماء أعضائه مدوّنة على ورقة بيضاء مطويّة، يلوّح بها رئيس المجلس ثمّ يضعها في جيبه رافضاً كشف تفاصيلها.
الأسئلة كثيرة، والضيوف تتفوّق عليهم حشرية الصحافيين، بينما ينتقي الرئيس كلماته وأجوبته بعناية.
الحديث عن نتائج الانتخابات، يفتح الباب على مصير عددٍ من النّواب، من النائب مصطفى الحسيني الذي فاز في جبيل، إلى نائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي، إلى النائب مصطفى حسين في عكّار. الحسيني صديق قديم لبرّي، أقله منذ عام 1992، وسرعان ما زاره بعد صدور نتائج الانتخابات، زيارة نائب صديق هذه المرّة. لم يحسم الحسيني خياراته بعد، وعندما سأل برّي عن رأيه، توافقا على أن ينسّق الحسيني مع حليفه النائب فريد هيكل الخازن، وإذا أرادا الانضمام إليه، ينضمّان إلى «التكتل»، لا إلى «كتلة التنمية والتحرير». يقول رئيس المجلس: أصعب أمرٍ عليّ أن يخون إنسان حليفه، أنا لا أقبل ولا مصطفى، شاركا معاً ويقرّران معاً خياراتهما وقدرتهما على الالتزام (مع التكتل)». أمّا الفرزلي، ومع أنه ترشّح عن التيار الوطني الحرّ في البقاع الغربي، فهو صديق «لدود» لبري، ورافقه في نيابة رئاسة المجلس، وهم يتقنان باحتراف صياغة «المؤامرات». لا يعرف برّي بعد من سيكون نائباً لرئيس مجلس النواب، لكنّه سمع أن «التيار» يريد النائب إلياس بو صعب، وهو يفضّل أن ينتظر ليعرف من أصحاب الشأن.
هل يشبه هذا التكتل تكتّل «لقاء عين التينة» الذي تشكّل قبيل صدور القرار 1559 والتحوّلات التي حصلت في تلك المرحلة؟ لا، يجيب برّي «الأخبار» بثقة، ويقول إن الظروف مختلفة والأمور أكثر تعقيداً، ومهمتنا في لبنان أن «ندير بالنا على البلد ونحفظ وحدتنا وتماسكنا الوطني، لا أن نفرق بين بعضنا وبعض».
أكثر الذين فرح برّي بفوزهم، كان النائب إبراهيم سمير عازار في جزّين لأن «المعركة كانت حامية». كان سعيداً طبعاً بفوز النائب ميشال المرّ في المتن، لكنه لم يُفاجأ.
ومن قانون الانتخابات، إلى أسئلة الحكومة. لم يحدّد رئيس المجلس إطاراً زمنيّاً لمهلة تشكيل الحكومة، لكنّها مهمّة لن تكون سهلة في اعتقاده و«ستأخذ وقتاً، للأسف»، لكنّه يفضّل لو أنّها تتشكّل سريعاً، لأن الأمور في المنطقة تتطوّر.
الحكومة تعني الأحجام، والخلافات حول الوزارات السيادية والخدماتية وسائر التعقيدات. لكنّ المعضلة الأبرز، هي وزارة الماليّة. الرئيس سعد الحريري لم يوافق برّي حول بقاء وزارة الماليّة مع «الشيعة»، ولمّح إلى المداورة، ولو أنه لم يقلها صراحةً.
قبل أن يعطي الرئيس جواباً حاسماً حول موقفه، يعود بالذاكرة إلى اتفاق الطائف. يومها لم يكن يشارك هو ووليد جنبلاط في المفاوضات. مثّلهُمَا هناك، النائب السابق زاهر الخطيب. كان الخطيب يبلغه عبر الهاتف مجريات المفاوضات، وما حصل من اتفاق لتحويل وزارة المالية إلى عرف من حصّة الطائفة الشيعية. وكذلك الأمر، يؤكّد برّي أن رئيس المجلس النيابي السابق الرئيس حسين الحسيني عاد وأكّد له هذا الأمر، وأن العرف مذكور في محاضر الاتفاق. وتابع برّي حول تجربته مع الرئيس الراحل رفيق الحريري، وكيف حصل الانقلاب على هذا العرف. بعد اتفاق الطائف، تولّى الوزير الراحل علي الخليل وزارة المال في حكومة الرئيس سليم الحصّ، أُولى حكومات عهد الرئيس الياس الهراوي، ثمّ عاد الخليل وتولّى حقيبة المال في حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي، ثمّ تولّى الوزير أسعد دياب الحقيبة نفسها في حكومة الرئيس الراحل رشيد الصلح، التي تولّت إجراء الانتخابات النيابية (1992). وحين كُلِّف الرئيس رفيق الحريري، التقى الحريري برّي وسأله عمّن يريد وزيراً للمال، فسمّى برّي الوزير الراحل رضا وحيد، الذي كان في السابق مديراً عاماً لصندوق الضمّان الاجتماعي وأحد مؤسسي الصندوق في عهد فؤاد شهاب، «لم انتقِ حزبيّاً، بل مهنيّاً محترفاً»، يقول برّي. لم يشمل الاتفاق فقط اسم وزير المال، بل أيضاً طلب الحريري من برّي أن يُمنح صلاحيات استثنائية لحكومته، وقَبِل رئيس أمل بذلك.
في اليوم التالي، هرع سكرتير برّي (سيف) من الطابق الثاني إلى الثالث من مبنى مكتبه في بربور، ليبلغه بأن الحريري والهراوي شكّلا الحكومة، وعيّنا رضا وحيد وزير دولة لشؤون المغتربين وأن الحريري صار وزيراً للمال والسنيورة وزير دولة للشؤون المالية! زعل رئيس المجلس، وقرّر الاعتراض على طريقته، حتى لو كانا قد اتفقا مع السوريين، أي اللواء الراحل حكمت الشهابي ونائب الرئيس عبد الحليم خدّام. كان برّي متسلّحاً بعلاقته بالرئيس حافظ الأسد. ثم انتقل من بيروت إلى مصيلح، رافضاً أن يشارك في التقاط الصورة التذكارية.
بعد ساعات، تلقّى بري اتصالاً من الحريري يدعوه فيه إلى الصورة التذكارية، أجابه على عجل، لن أشارك بالصورة، «قولوا إني مريض»، سأله الحريري: لماذا؟ فقال له: «أنت خنتني أوّلاً، ولأنكما تخطيتما العرف ولم تطلعاني على التشكيلة الحكومية قبل إعلانها كما تقضي الأصول الدستورية». بعد الحريري، حاول الهراوي مرّة أخرى، متذرّعاً بأنه لم يكن يعلم بالاتفاق بينهما. لم يصدّق برّي، لكنّه ثبت على موقفه الرافض. لم يهدأ الحريري، واستعان بالشهابي وخدّام. في مساء اليوم ذاته، دعا خدّام برّي إلى زيارة دمشق في اليوم التالي. وفي دمشق، لم يكن يعلم أن الحريري قد سبقه إلى هناك، فدخل إلى مكتب الشهابي ليجد خدام والحريري هناك. بدأ الشهابي كلامه بالتأكيد أن بري «عروبي ولا طائفي»، قاطعه بري: «عروبي نعم، لكن طائفي»، قال الشهابي: «بلا مزح»، ردّ برّي: «تعلمنا الطائفية»! ثمّ روى ما حصل بينه وبين الحريري، مؤكّداً أنه لن يتراجع عن إسناد المالية إلى وزير شيعي، مكرراً أن الحريري خان الاتفاق و«لازم ما تزعل، وحدة بوحدة». فما كان من الحريري إلّا أن لمّح إلى إمكانية استقالته من التكليف، فقال له بري: استقل. شعر السوريون عندها بأنه صار ضرورياً أن يتدخل الرئيس حافظ الأسد. ذهب الشهابي جانباً وخابر الأسد، وبعد وقت، قال لبرّي إن الرئيس يريد أن يكلّمه على الهاتف. شرح برّي للأسد تفاصيل ما جرى، وطلب منه الرئيس أن يسهّل للحريري تحمّل مسؤولية وزارة المال، وبعد أخذ وردّ، ونتيجة المعطيات الاقتصادية والمالية، قال الأسد لبري: «الحريري يقول إنه يستطيع أن يضبط الدولار». وافق بري، وتبلغ المجتمعون بذلك، فما كان من الحريري إلا أن قال لبري: «وماذا عن اتفاقنا على منح الحكومة صلاحيات استثنائية»، فأجابه بأن أقصى ما يمكن أن يقدمه إليه هو التنازل عن وزارة المال، رغم اقتناعه بأنه بذلك يخالف روحية اتفاق الطائف».
مهمة تشكيل الحكومة لن تكون سهلة، وعلينا أن نحافظ على وحدتنا
عندها، خرج الشهابي من الغرفة، وتحدث مجدداً مع الأسد، وعاد طالباً من الرئيس نبيه بري أن يتابع الملف الحكومي مع الرئيس السوري. قال الأسد ما يعتقد أنه يبرر منح الصلاحيات الاستثنائية للحكومة. قال له الرئيس بري: أنت تعلم يا سيادة الرئيس أن هناك بعض النواب فازوا بالتزكية في دوائر مسيحية، ومع ظاهرة مقاطعة جزء كبير من المسيحيين للانتخابات الأخيرة، سيرسخ منح صلاحيات استثنائية للحكومة الانتقاص من صلاحية السلطة التشريعية المطعون في شرعيتها على خلفية موقف المسيحيين من الانتخابات، الأمر الذي قد يوحي للبعض بأن انقلاباً قد حصل، وأنّ الحريري مُنحَ كل شيء، وهذا الأمر لا يضرّ بالمجلس الجديد، بل وبسوريا الراعية للتسوية اللبنانية». صمت الأسد ثلاثين ثانية على الهاتف، ثمّ قال لبرّي: «تمسّك بموقفك حتى النهاية، لا صلاحيات استثنائية إذا أصرّ على وزارة المال». وهكذا كان، فبقي الحريري وزيراً للمالية، وبقي التجديد للسنيورة وزيراً مكلّفاً لشؤون المال، وطارت الصلاحيات الاستثنائية.
كلام رئيس المجلس مؤشّر إلى مدى تمسّكه بوزارة المال في المرحلة المقبلة. هو لن يربط تكليف الحريري برئاسة الحكومة، وسيسمّيه، لكنّه لن يساوم على وزارة المال. «إن كان لديهم مشكلة مع الوزير علي حسن خليل مثلاً أو أي وزير آخر، فليقولوا ما هي ويحضروا وثائق، وأنا أسمي غيره، لكن أن يكون الموقف اعتباطياً من الوزراء، فهذا غير مقبول». ماذا عن فصل النيابة عن الوزارة؟ يقول الرئيس إن «هذا الأمر يحتاج إلى تعديل دستوري، والرئيس عون يعرف ذلك». هل يمكن أن يصير عرفاً بلا قانون، خصوصاً أن السيد حسن نصر الله قال إن الحزب يخطّط لفصل النيابة عن الوزارة: «ممكن، ولكلّ قوّة سياسية حريّة الخيارات، لكن كيف؟ ما دام رئيس الحكومة نفسه نائباً، فلنبدأ من هناك».
بري: «الله يلعنهم… زعران»
الرئيس نبيه بري مستاءٌ جدّاً ممّا يقوم به بعض «المتفلّتين» في الشوارع بالمواكب السّيارة والدراجات النارية. بالنسبة إليه، هؤلاء يسيئون إلى كل البلد وإلى حزب الله وحركة أمل… «الله يلعنهم زعران». يقول رئيس المجلس النيابي إن الأجهزة الأمنية أوقفت حتى الآن 12 متورّطاً، وهو طلب من الأجهزة أن تتابع التحقيقات لمعرفة المتورّطين الآخرين وتوقيفهم.
كلام برّي، يصبّ في ذات الاتجاه الذي عبّر عنه بيان لحزب الله، أمس، نفى فيه الحزب أي علاقة له بهذه المواكب، «لا قراراً ولا إدارة ولا توجيهاً». وأدان «التصرفات الخاطئة والشعارات المسيئة إلى كرامات الناس بشكل قاطع»، مؤكّداً أن «الحديث عن أن هذه التحركات والمواكب الجوالة تهدف إلى فرض شروط سياسية، هو كلام سخيف وتافه ومرفوض». وختم الحزب بمطالبة «الجميع بالتوقف الكامل عن تسيير أي موكب مهما كان شكله أو المشاركة فيه، وعدم الاستجابة لأي دعوة من هذا النوع تصدر عبر مواقع التواصل الاجتماعي ونعتبرها دعوة مشبوهة ومرفوضة». كذلك دعا «القوى الأمنية والأجهزة المعنية إلى تحمّل مسؤولياتها كاملة حفاظاً على الاستقرار وكرامات الناس وحقوقهم».