حتى القمامة تعمل ضد تيار المستقبل هذه الأيام، كأن معاناته سياسياً ومالياً لا تكفي وحدها. مع ذلك لا تهتز أحاديته في تمثيل الطائفة السنية، لأن من يفترض بهم مزاحمته يبذلون جهدهم لاسترضائه. بدل أن يحمّل هؤلاء التيار الأزرق مسؤولية تحويل مناطق نفوذه إلى مطامر كرمى لـ»سوكلين» وتصويب الاحتجاجات الشعبية باتجاهه وتقديم مشروع سياسي ــــ اقتصادي بديل، يكتفون بالمزايدة عليه… في الخطاب المتطرف
في برجا، ثم وسط بيروت، فعكار يتكرر الأمر نفسه. تتخيّل أن الشاب الذي يبدع الهتافات في مقدمة التظاهرة هو الرئيس نجيب ميقاتي، يحيط به الوزيران السابقان محمد الصفدي وأحمد كرامي، وخلفهم النائب السابق مصباح الأحدب، فيما الوزير السابق فيصل كرامي والأستاذ خلدون الشريف يحملان لافتة تندد بممارسات تيار المستقبل. لكن هؤلاء لا يكبّدون أنفسهم حتى عناء التغريد تضامناً مع انتفاضة مناطقهم ضد تحويلها إلى مكبات نفايات.
لا تعنيهم النقمة الشعبية من درة تيار المستقبل ودجاجته التي تبيض ذهباً، كما لا يعنيهم الإهمال الإنمائي الذي ألحقه تيار المستقبل بمناطق نفوذه، ولا يتكبدون عناء طرق أبواب الموظفين المستقبليين المعتكفين منذ سنوات في منازلهم لاستيعابهم في ماكيناتهم. مساءلة تيار المستقبل، اقتصادياً وإنمائياً وخدماتياً، لا تغري هؤلاء، كما لا تجذبهم مساءلة المستقبل سياسياً في شأن تحالفاته الإقليمية ورهاناته الخاطئة.
بداية، كانوا يعارضون فضح فساد المستقبل، لأن مهاجمته من قبل التيار الوطني الحر تشد عصبه وتكسبه تعاطفاً. لاحقاً، قدموا أمثلة حيّة عن مفهومهم لمقارعة الحريري حين حمت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي كل مصالح قوى 14 آذار انتهاءً باستقالة ميقاتي نفسه كرمى للوزير أشرف ريفي. أما اليوم، فقد بلغوا مرحلة جديدة: مقارعة المستقبل عبر الوقوف الى يمين الرئيس سعد الحريري (أو خالد الضاهر) والمزايدة عليه في المذهبية والتحريض!
يحافظ المستقبل على أحاديته مستفيداً من افتقاد خصومه شجاعة مواجهته
عملياً يبدو المشهد كالآتي: 1) رهان تيار المستقبل على تعثر المفاوضات الأميركية – الإيرانية سقط؛ 2) رهانه على سقوط الرئيس بشار الأسد سقط؛ 3) رهانه على ترهيب حزب الله عبر سيارات الاستخبارات السعودية سقط؛ 4) سقطت شعبة المعلومات من قائمة الغرف الأمنية المتقدمة في المنطقة؛ 5) سقطت صورة الحريري كزعيم مبدئي للمرة الثالثة ــــ بعد الاتفاق الرباعي وذهابه إلى دمشق ــــ عند تشكيل الحكومة الحالية وشروعه في محاورة حزب الله من دون شروط؛ 6) سقطت مكرمات الرئيس رفيق الحريري، وتحوّل التهليل الشعبي لـ»سوكلين»، بوصفها هدية الرئيس الشهيد للبنانيين من أجل تخليصهم من النفايات، إلى شماتة وشتم لهذه السرقة الفاجرة؛ 7) سقط نفوذ الحريري في السعودية التي تستقبل رئيس حزب القوات سمير جعجع كأنه رجلها اللبنانيّ الأول، فيما ينتظر الحريري المناسبات الرسمية للقاء ملكها مع وفود المهنئين، بعدما كان والده يستقبل المهنئين إلى جانب الملك؛ 8) تفاقمت أزمة التيار المالية، وهو تيار غير عقائدي لا يقوم على أساس العمل التطوعي أو الخيري؛ 9) عجز الحزب عن الإقلاع تنظيمياً في ظل تبلور مجموعة مراكز قوى داخلية متنافرة. 10) والأسوأ من ذلك كله، هو الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمناطق التي يمثلها تيار المستقبل حيث يتفاقم في عكار والمنية والضنية وطرابلس وغالبية أحياء بيروت الحرمان الإنمائي الكامل من جهة وكثافة النزوح السوري من جهة أخرى.
ولكن مع هذا كله، يحافظ تيار المستقبل على أحاديته التمثيلية مستفيداً، أساساً، من أن خصومه المفترضين يفتقدون شجاعة مواجهته. بدل أن ينظّم هؤلاء اعتصاماً كل صباح وندوة ظهراً وتظاهرة مساءً، في الضنية والمنية وعكار وطرابلس وصيدا والإقليم ومختلف أحياء بيروت، احتجاجاً على غياب النواب إنمائياً وبؤس الأوضاع الاقتصادية والتربوية والاستشفائية والسياحية وغيره؛ يلوذون في منازلهم مكتفين بتصريح إذاعي هنا ومقابلة تلفزيونية هناك. لا مشروع اقتصادياًً أو سياسياً بديلاً يعبّرون عنه. بات همّهم الرئيسي القول إنه لا فرق بينهم وبين تيار المستقبل، بدل أن يسلّطوا الضوء على خطايا المستقبل ويعدوا الرأي العام بأداء مختلف.
قبل ستة أسابيع، ظهرت «المبادرة الوطنية السنية» كتجمع لقوى وشخصيات سنية مناوئة للمستقبل، من الرئيس ميقاتي إلى الوزير عبد الرحيم مراد مروراً بجمعيات دينية وأهلية ومناطقية، على أمل انضمام الجماعة الاسلامية والوزير كرامي وغيرهما لاحقاً. أوحت «المبادرة»، أخيراً، بجهد إيجابي لكسر الأحادية المستقبلية، رغم نقطتي ضعفها المتمثلتين بتقدم النائب السابق مصباح الأحدب صفوفها الأمامية، وعدم تقديمها أي مبادرة. لكن سرعان ما تبين أن المجتمعين لا يسعون إلى إعداد خطط مشتركة لعمل اقتصادي أو إنمائي تعوض غياب المستقبل، ولا يعنيهم إجراء تقويم لنتائج تموضع الحريري في الحلف الوهابي أو إقناع جمهورهم بخطورة ما أوصلهم التحريض الحريريّ إليه. بل على العكس تماماً، يجتمع هؤلاء للبصم على صوابية كل ما فعله الحريري، والتحذير من تقديم أي تنازل، والقول لرعاة المستقبل الإقليميين إنهم أحرص من آل الحريري وأقدر على تحقيق مصالحهم. فالتدقيق في الجزء الأول من «المبادرة»، المتعلق بالخيارات الوطنية، يبين أن من وضعوا بنودها أرادوا إيصال فكرة واحدة: «رفض البحث في أي تعديلات على اتفاق الطائف». أما الإنماء المتوازن فله فقرة حشو كاملة، من دون الاشارة الى مسؤولية نواب المستقبل ووزرائه عن «الإنماء غير المتوازن». تبنّت «المبادرة» موقف النائب خالد ضاهر كاملاً في ما خص «وجوب الكف عن الكيل بمكاييل متعددة مع مناطق محددة ومجموعات بعينها»، وتبنت موقف الوزير نهاد المشنوق لناحية معارضتها «مشاريع التقسيم والهيمنة والاستلاب والتعبئة المذهبية والاختراق السياسي والأمني للدول العربية». أما الأسوأ، فهو اعتبار هؤلاء أن انتماءهم المذهبي ومصلحة طائفتهم يتقدمان كل اختلافاتهم. لا شيء جديداً أو جديّاً بالتالي في المبادرة. لا يشعر هؤلاء بأن عليهم ملاقاة التحولات الدولية وتراجع تيار المستقبل في منتصف الطريق. خطة عملهم واضحة: إذا خلع الرئيس سعد الحريري الجاكيت وربطة العنق مجدداً، سيخلع الأحدب الجاكيت وربطة العنق والقميص وفانيل «حنين». في حال ذهاب الحريري أبعد في انعطافته السياسية في اتجاه حزب الله سيكتبون 20 «ستايتوس» يومياً بدل عشرة لتذكير رأيهم العام بمواقفه السابقة، آخذين عليه تراجعه عن ثوابته.
عملياً، خسر تيار المستقبل الكثير في العامين الماضيين. لكن الحريري أشبه بمن يسابق نفسه فيسرع تارة ويبطئ طوراً، متأكداً من عدم وجود أي منافس على المدى البعيد. لا أحد يحلم بالحلول محل تيار المستقبل. كل ما يريده خصومه المفترضون لفت الانتباه، بين وقت وآخر، وكأن النائب خالد ضاهر بات مثالهم الأعلى، متناسين أن الخصوم الحقيقيين للمستقبل سيفضّلون التفاهم معه بوصفه حزباً يملك مشروعاً سياسياً ــــ اقتصادياً (سيئاً) ومصالح اقتصادية يخشى عليها، على التفاهم مع أشخاص لا يملكون أي مشروع وليس لديهم ما يخشون عليه.