إغلاق المسبح الشعبي في الرملة البيضاء، لم يعد مجرد تهديد جدي يطاول آخر متنفس بحري مجاني في المدينة، بل بات أمراً واقعاً بعدما استحصلت شركتان عقاريتان على قرار قضائي يقضي بإغلاق ثلاثة عقارات تشكل جزءاً كبيراً من المسبح. وزارة الأشغال لم تطعن في القرار، وأحالت الموضوع على بلدية بيروت وأمهلتها أسبوعين لاتخاذ إجراء يسمح للمواطنين بالاستمرار بارتياد المسبح الشعبي. اليوم تنتهي المهلة، إلا أن مصادر بلدية بيروت تؤكد أنها لم تطلع على الكتاب بعد، وأنها لم تتخذ قراراً بشأنه، فيما يقول أحد أعضاء المجلس البلدي: «تحت الدرابزين من مسؤولية وزارة الأشغال». وفي ظل تقاذف المسؤوليات، من المنتظر أن يُسلب، مرة جديدة، حق الناس في أملاكهم العامة، حقهم في المدينة
«سنداً للأحكام القانونية التي ترعى مسألة حماية الملكية الفردية والخاصة»، أصدرت قاضية الأمور المستعجلة في بيروت زلفا الحسن في 9/4/2015 قرارين يقضيان بإقفال مداخل ثلاثة عقارات في منطقة المصيطبة العقارية (واحد متعلق بإقفال مداخل العقارين 4026 و4027 وآخر متعلق بإقفال مداخل العقار 2369). تشكّل هذه العقارات جزءاً كبيراً من المسبح الشعبي المجاني للعموم على شاطئ الرملة البيضاء، وبالتالي إن إقفال هذه المداخل سيمنع الناس من الولوج الحر إلى الشاطئ، وهو حق تكرسه لهم القوانين والتشريعات.
تستند الحسن في منحها شركتي «عقارية البحر المتوسط» و»البحر العقارية الثانية» الترخيص بإقفال المداخل، إلى المادة 604 أ.م.م و»حفظاً للحقوق ومنعاً للضرر (..) لكون العقار ملكاً خاصاً للشركة المستدعية».
يوضح المحامي ماجد فياض أن هذه المادة تختص لدى قضاة العجلة بالأوامر على العرائض وتتسم بكونها قرارات مؤقتة بدون خصومه (من دون أن تكون هناك دعاوى مقدمة من قبل خصم) وهي قابلة للطعن قبل 8 أيام من تاريخ التبليغ.
بتاريخ27/4/2015، أحيل القراران القضائيان على المديرية العامة للنقل البحري التي أحالتهما بدورها على وزير الأشغال العامة والنقل غازي زعيتر. لم يطعن الأخير في القرار، تمهيداً لعدم تنفيذه، بل وجّه في 29 أيار الماضي كتاباً إلى بلدية بيروت يطلعها فيه على مضمون القرارين القضائيين، ويطلب فيه «اتخاذ الإجراءات السريعة واللازمة لتأمين مداخل المسبح وفقاً للصلاحية والأصول المرعية الإجراء، بما يمكن الإدارة من اتخاذ الإجراء المناسب بشأن القرار القضائي، وضمن مهلة معقولة لا تتجاوز الأسبوعين وأيضاً بما يتيح للمواطنين الاستمرار بارتياد المسبح الشعبي».
اليوم، تنتهي المهلة المحددة للبلدية لاتخاذ الإجراء المناسب. الأجواء التي نقلها عدد من أعضاء المجلس البلدي توحي بأن البلدية لا تعتبر نفسها معنية، فضلاً عن «أن رئيس المجلس البلدي مسافر، وقانوناً لا علاقة لنا. هي مسؤولية وزارة الأشغال». وفيما تقول مصادر الأخيرة إن «الوزارة حريصة على إبقاء مداخل المسبح مفتوحة، وهو ما يؤكده مضمون الكتاب عندما أشرنا إلى ضرورة اتخاذ إجراء يسمح للمواطنين بارتياد المسبح الشعبي»، وفي حال تخلُّف البلدية عن اتخاذ إجراء يسمح بالحفاظ على المكان عاماً ومفتوحاً؟ تلمّح المصادر هنا إلى ما يشبه «كسر» القرار القضائي، لافتةً إلى أنه «مهما كان قرار البلدية، فهي لن تسمح بإغلاقه في وجه العموم»، يؤكد فياض أنه «وجب الطعن منعاً لجعله مبرماً».
وجب على وزارة الأشغال الطعن في القرار لمنع جعله مبرماً
يرى الناشط البيئي رجا نجيم، أنه كان على الوزارة أن تطعن في القرار فور الاطلاع عليه، «إلا أن الوزارة لا تتصرّف على أنها معنية في هذا الملف، وقد سبق للوزير زعيتر أن صرّح بأن لا علاقة له بملف شاطئ الرملة البيضاء، وهنا تكمن المشكلة». يرى نجيم أن الكتاب الذي أُرسل إلى بلدية بيروت يمثل «إحالة المسؤولية على البلدية».
استملاك العقارات
ضمن الاقتراحات المطروحة لإنقاذ المتنفس البحري المجاني الوحيد في المدينة، يبرز خيار استملاك بلدية بيروت للعقارات المذكورة، وهو الخيار الذي أعلنه رئيس بلدية بيروت بلال حمد، في آخر أربعاء من شهر نيسان، وبمناسبة «أربعة أيوب»، حين صرّح من على الشاطئ بنية البلدية الاستملاك، مصوراً ذلك بمثابة الإنجاز الذي يقتضي الاحتفال لأنه «سيحفظ لأهل المدينة حقهم في البحر». حينها، تحدّث حمد بما يشبه الحسم، وكأنه الخيار «المحتوم»، إلا أن قرار الاستملاك ليس منوطاً بالبلدية حصراً، فهو يحتاج إلى قرار محافظ البلدية أيضاً. تشير مصادر المحافظة إلى أن المحافظ القاضي زياد شبيب، طلب من المجلس البلدي الإفادة عن مشروع استملاك العقارات الثلاثة، وأنه كلّف مصلحة الهندسة في بلدية بيروت اتخاذ ما يلزم في كل معاملة ترد بشأن العقارات المذكورة لضمان وصول المواطنين إلى شاطئ البحر لتمكينه من استعماله «لأن استعمال الأملاك العمومية، ومن بينها شاطئ البحر، يجب أن يكون متاحاً لجميع المواطنين وفقاً للغاية المعدة لها بحسب طبيعتها».
في الكتاب الموجه من شبيب إلى مصلحة الهندسة في بلدية بيروت بتاريخ 8/6/2015، يشير شبيب إلى المادة الأولى من القرار التشريعي رقم 144/س تاريخ 10/6/1925 التي تحدد الأملاك العامة بأنها «جميع الأشياء المعدة بسبب طبيعتها لاستعمال الجميع أو باستعمال مصلحة عمومية، وهي لا تباع ولا تكتسب ملكيتها بمرور الزمن»، ويضيف الكتاب: «تشتمل الأملاك العمومية على الأخص بحسب المادة 2 من القانون المذكور على شاطئ البحر حتى أبعد مسافة يصل إليها الموج في الشتاء وشطوط الرمل والحصى». ما يعني أن المحافظ، باستناده إلى المادة الثانية من القانون (الأملاك العمومية لا تباع ولا تُكتسب ملكيتها بفعل الزمن) يرفض مبدأ الاستملاك، وهو ما يؤكده التساؤل الذي طرحه شبيب منذ أقل من أسبوعين حول كيفية تحويل بعض أملاك الشاطئ الرملي إلى أملاك خاصة؟
يلفت نجيم في هذا الصدد إلى وجود الخرائط التي تعود إلى الخمسينيات التي تثبت أن العقارات مستجدة ومستحدثة بعد تشييد الكورنيش البحري، متسائلاً: «كيف يمكن شاطئ الرمل أن يباع؟».
في اتصال مع «الأخبار»، يقول صاحب شركة البحر العقارية، ومالك العقارات الثلاثة، وسام عاشور، إن من يشكك في ملكية العقارات «عليه أن يراجع الدوائر العقارية ويطلع على السجلات ليعرف إذا ما كانت ملكية هذه العقارات عامة أو خاصة»، لافتاً إلى أن القرار القضائي لا «يُكسر»، وبالتالي يجب تنفيذه، مضيفاً: «الاستملاك يحتاج إلى قرار مجلس وزراء». فيما يقول محامي شركة البحر العقارية بهيج مهيدج، إن «الشركة لا تريد الاستملاك، تريد الاستثمار وبناء منتجع سياحي يليق بأهل المدينة، ويكون حلاً وسطاً بين الشاطئ الفوضوي والمنتجعات الباهظة الثمن».
البحث في أصل الملكية
يعلّق المحامي وصاحب كتاب «الأملاك العامة البحرية، بين الواقع والاجتهاد»، إيلي خطار، على القرار القضائي بالقول: «لا يستطيع قاضي العجلة التغاضي عن سندات الملكية الخاصة التي يرفعها المدعي، ذلك أنه لا يبحث في أصل القضية».
هناك خرائط تعود
إلى الخمسينيات تثبت أن العقارات مستجدة ومستحدثة بعد تشييد الكورنيش البحري
من هنا يشير خطار إلى وجوب التحقيق في سندات الملكية وفي طرح نقاش «من أعطى المالكين هذه السندات؟». كلام يؤكده فياض الذي يرى أن «العبرة الرئيسية تكمن في معرفة كيف تملكت الشركات العقارية هذه العقارات ومتى تملكتها وبموجب أي قيود؟». يضيف فياض التساؤلات: «ما هي الأسباب التي دفعت وزارة الأشغال في ما مضى إلى أن تجعل من هذه المنطقة مسبحاً شعبياً عاماً؟ أهي كانت تمارس اعتداءً على ملك خاص؟ أم أنه تم عقد بيع؟». كذلك إذا كانت شركة عقارية هي التي اشترتها، فمن المفروض معرفة بعض الأمور، لكونها شخصية معنوية: إبراز الصحيفة العينية العقارية وعقد البيع الذي بموجبه نُقلت الملكية. ينطلق فياض من هذه التساؤلات لضرورة فهم الواقع القانوني لملكية هذه العقارات ولتوضيح تاريخ نشأة هذه الملكيات، «في الماضي كانت الأمواج تصل إلى أبعد مما تصل إليه الآن، والشاطئ كان أوسع قبل تضييقه بفعل الردميات وإنشاء المنتجعات الاستثمارية». ويختم فياض بالقول: «علينا التحقق من شرعية هذه الملكية ومحاسبة من يظهر بموقع المدان».
لا بناء ولا استثمار
إلا أن الأمر لا يقتصر على البحث في «أصل» الملكية، فالقوانين واضحة، تلك التي حددت أن الشواطئ الرملية هي من الأملاك العمومية، يرفض نجيم تسمية «الاستملاك»، لأنها تعني الإقرار بأن هذه العقارات ليست أملاكاً عامة، وبالتالي الاعتراف الضمني بأنها ملك خاص. من جهته يقول المدير التنفيذي لجمعية «نحن» والمسؤول عن حملة «بيضا رملتنا» محمد أيوب، إن الاستملاك مرفوض، فالقانون واضح «ممنوع الاستثمار والبناء وممنوع حجبه عن العموم»، وبالتالي من اشترى هذه العقارات فعليه أن يتحمّل مسؤوليته، لأنه كان يدرك أن القانون يمنعه من استثمار الشاطئ وإقفاله. الجدير ذكره أن جمعية «نحن» وعدداً من الجمعيات الأخرى كانت قد طالبت بالاستملاك مع عامل استثمار 0%، إلا «أننا غيّرنا رأينا بعد اطلاعنا على الكثير من الدراسات القانونية التي تبين أنه يمكن الإبقاء على الواقع الحالي وفق القوانين التي ترعى الأملاك العامة البحرية»، يوضح أيوب.
■ للاطلاع على كتاب وزارة الاشغال المحال الى بلدية بيروت اضغط هنا
انتقال الملكية من الحريري إلى عاشور
العقارات الثلاثة على شاطئ الرمل كانت مملوكة من رفيق الحريري وانتقلت إلى ورثته، أي بهاء وسعد وهند ونازك وفهد وأيمن، ويشاركهم في هذه «الملكية» محمد الحريري وفؤاد السنيورة بالإضافة إلى أسهم قليلة بأسماء بعض الموظفين والمحامين الذين كانوا يعملون لمصلحة رفيق الحريري قبل اغتياله بغرض تسميتهم أعضاءً في مجالس الإدارة للشركات «الصورية».
تم تملّك هذه العقارات الثلاثة عبر شركتين: «عقارية البحر المتوسط» و«البحر العقارية الثانية». وتشير السجلات التجارية الحديثة لهاتين الشركتين إلى أن تاجر العقارات وسام عاشور أصبح يملك 99.9% من شركة «البحر العقارية الثانية»، فيما حصة 0.1% لا يزال يملكها ورثة الحريري والسنيورة وسواهم من خلال ملكيتهم لشركة إيراد للاستثمار التي يرأس مجلس إدارتها فهد الحريري. أما شركة «عقارية البحر المتوسط»، فقد أصبحت مملوكة من عاشور بنسبة 80% و4% لشركة إيراد للاستثمار.
الشركة الأولى تملك عقارين رقمهما 4027 و4026. الأول مساحته 5152 وهو متصل بالبحر، إذ إن الإفادة العقارية الصادرة عن الشؤون العقارية تشير إلى أنه «قطعة أرض رملية طغى عليها البحر»، ولا حقوق بناء مسموحة على هذا العقار ولا تأجير ولا أي نوع من الأشغال «لأي غاية كانت ومهما كان نوع الأشغال». أما العقار الثاني المملوك أيضاً لشركة «عقارية البحر المتوسط»، فمساحته 4635 متراً مربعاً، وهو أيضاً قطعة أرض رملية متصلة بالبحر ولا حقوق بناء أو تأجير أو أشغال مسموحة له.
الشركة الثانية، أي شركة «البحر العقارية الثانية»، فهي تملك العقار 2369 ومساحته 18040 متراً مربعاً، وهو يقع ضمن «القسم الخامس، ويُحظَّر إقامة أي بناء من أي شكلٍ كان كما يحظر تغيير أو تعديل الوجه الطبيعي للأرض» كما ورد على الإفادة العقارية. وهذا العقار مرهون لبنك البحر المتوسط بمبلغ 19 مليون دولار.
الرملة البيضاء ملك عام
تبرز في هذا الصدد دراسة قانونية قامت بها جمعية «نحن» حول الكثير من المواد قانونية التي صرّحت بأن شاطئ الرملة البيضاء هو من الأملاك العامة البحرية، أبرز هذه المواد:
– قرار بلدية بيروت 70/1954 المتعلّق بالتصميم التوجيهي لمدينة بيروت: المادة الثانية المتعلقة بالمنطقة العاشرة: «هذا الموقع بصفته كشاطئ رملي ضمن الأملاك العمومية في المنطقة العاشرة، غير صالح للبناء، (..) ويحذّر من إقامة أي بناء يغير الوجه الطبيعي لهذا الموقع».
– الخطة الشاملة لترتيب الأراضي 2005: «تصنيف الرملة البيضاء كأحد المواقع الطبيعية، الفائقة الأهمية واعتبارها محمية من الصخر إلى الصخر. (..) منع البناء عليها أو تغيير موقعها الطبيعي والحفاظ عليها وإعادة تأهيلها كإرث طبيعي لمدينة بيروت وثروة إيكولوجية».
– قانون البيئة 144/2004/ الباب الخامس/ الفصل الثاني/ المادة 29/ البند الأول والثاني: «حماية البيئة البحرية بجميع صورها وأشكالها وحماية المشهد البصري والطبيعي من دون شبك أو أسلاك وإفساح الوصول إلى الشواطئ بشكل مناسب ودون أي عوائق».
المادة 33: منع الأشغال الذي يعرقل الولوج الحر إلى الشواطئ الرملية.
– قانون البلديات المرسوم 118/1977 المادة 74: نظراً إلى أن الموقع يعتبر من الأملاك العمومية، على وزارة البيئة بالتنسيق مع وزارة النقل حمايته (..).
من هم مالكو عقارات الرملة البيضاء؟