كيف تنعكس أجواء الأيام الأخيرة عن تعثر الحوار بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، وهل ما يحصل مراجعة حسابات في انتظار الفصل الأخير من الحوار؟
هيام القصيفي
تبلغ نسبة المسيحيين المؤيدين للتفاهم والحوار وطيّ صفحة الخلافات بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر 90 في المئة، بحسب الاستطلاعات التي تحدث عنها رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، في مقابلته الأخيرة مع «الأخبار». هذا يعني أن هؤلاء الـ 90 في المئة سيصابون بالإحباط قريباً، في ظل أجواء تعكسها بعض الأوساط عن فشل الحوار الجاري منذ أكثر من مئة يوم بين الطرفين.
ولعل الإحباط، هذه المرة، سيكون أكبر بكثير من الإحباطات السابقة، لأنه يأتي بحجم التمنيات والتطلعات الكبيرة التي علّقها المسيحيون على الحوار، بعدما أشاع رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون ورئيس حزب القوات اللبنانية أجواءً إيجابية عن قرب التوصل إلى تفاهم بينهما. وسيكون من حق عارفي الرجلين، عن قرب، كسب الرهان الذي وضعوه منذ اليوم الأول بأنه لن يكتب لهذا الحوار أن يعيش طويلاً.
معادلة إحباط الـ 90 في المئة من المسيحيين برسم الطرفين المتحاورين اللذين أبديا مرونة وعكسا أجواءً مريحة بعد وقف الحملات الإعلامية وسحب أكثر من مئة وثلاثين دعوى قضائية بينهما، الأمر الذي أدى منذ أكثر من شهر إلى ارتفاع نسبة الحديث عن إيجابيات متقدمة في الحوار، وصولاً إلى ورقة إعلان النيات وقرب صدورها، من دون أن تتضمن موضوع رئاسة الجمهورية بحسب مصادر الطرفين.
الإحباط المسيحي هذه المرة سيكون أكبر بكثير من الإحباطات السابقة
لكن، بدا فجأة أن ثمة شكوكاً حول العلاقة المستجدة. وأُشيعت، قبل أيام، في أوساط الفريقين، أجواء غير مطمئنة عن الحوار المتعثر بحسب بعض المراقبين له عن كثب، مقرونة بأخبار عن تشنّجات تبعد قليلاً عن السياسة والرئاسة، وشروط وشروط مضادة، لا علاقة لها بالمبادئ الأساسية التي وضعت في اللحظة الأولى لانطلاق المبادرة الحوارية التي قيل حينها إنها ستشمل «كل المواضيع المسيحية». بدا جعجع في كلامه الأخير، حتى لسياسيين من قوى 14 آذار، وكأنه غير مستعجل في الحوار. وبدا عون، بحسب الحلقة الأقرب منه، مستاءً من تفاصيل صغيرة وكبيرة على السواء تتعلق برئاسة الجمهورية وغيرها من بنود سياسية وغير سياسية.
فهل ما يحصل هو الفصل الأخير من حكاية حوار عمره مئة يوم، أم أنها استراحة ظرفية فحسب؟ وما هو انعكاس فشل المفاوضات بين الطرفين على الواقع المسيحي؟ وهل يعلن عون وجعجع صراحة فشل الحوار وأسبابه الحقيقية، أم يكذّبان المشككين بلقاء مفاجئ بينهما؟
يتطلع المسيحيون إلى طيٍّ نهائي للخلافات المسيحية الداخلية، وتوصل الطرفين إلى تفاهم حول رئاسة الجمهورية بصرف النظر عن اسم الرئيس. لكن على أهمية الشق الثاني وضرورته، يبقى الأساس إغلاق إحدى أكثر الصفحات دموية وقساوة في تاريخ العلاقات الداخلية، مع كل ما رافقها وأعقبها من خلافات شخصية وعائلية وسياسية وأمنية وإعلامية طاولت مئات العائلات في لبنان والمهجر، وأسهمت جذرياً في إحداث شرخ كبير في المجتمع المسيحي لأكثر من خمسة وعشرين عاماً.
وأي تفاهم بين هاتين القوتين كفيل بإعادة ترتيب البيت المسيحي بعيداً عن حملات التشكيك والتخوين التي تعصف بالمسيحيين في لبنان وبالذين هجرتهم الحروب الداخلية إلى بلاد الانتشار. لكن هل يتصور المتحاوران أي صدى سلبي سيتركه تعليق الحوار بينهما مرة نهائية، وأي مشهد إعلامي سينفتح أمام من فقدوا في الأشهر الثلاثة الماضية «لقمة عيشهم» بكتابة المقالات والتعليقات وشن حروب إعلامية باسم القوات والتيار الوطني الحر؟ وهل يتصوران كيف ستنفلت الأقلام والعقول من مكانها لتعوض الدعاوى التي توقفت والحرب الإعلامية التي أطفأتها مفاوضات الرابية ــــ معراب؟
يقول سياسي مطلع إنها ليست المرة الأولى التي تخفق القيادات المسيحية في التوصل إلى اتفاق، كما حدث في الدوحة حين فرّطوا بالاتفاق على مشروع قانون انتخاب يصبّ في مصلحة المسيحيين ومع مشروع اللقاء الأرثوذكسي. والآن يكررون مرة جديدة إطاحة أي تفاهمات، ولو بحدها الأدنى، والعودة إلى الوراء مجدداً.
بدوره، يصف أحد سياسيي 14 آذار الذي يكاد ينعى الحوار بين عون وجعجع مشكلة المسيحيين اليوم «بأنهم اعتبروا أن الحوار الجاري تعويض عن بدل ضائع، عن رديف للسلطة التي فقدوها وعن رئيس الجمهورية الذي لم ينتخب. شعر المسيحيون بأنهم سيكونون مع اتفاق عون وجعجع أقوى، وأنهم سيوازنون قوة حزب الله المستند إلى آلة عسكرية ودعم إقليمي، وسيعادلون القوة السنية وتيار المستقبل المتكئ بدوره على قوة إقليمية. لكنهم سيكتشفون، مع فشل الحوار المسيحي، انهياراً سريعاً لهذا المشهد، الذي سيزيده بشاعة حجم الأخطار الإقليمية».
يحق لعون المطالبة بتقديم انتخاب رئاسة الجمهورية على ما عداه، ويحق لجعجع تأجيل البحث في الرئاسيات. ففي اللعبة السياسية، كلا المطلبين حق مشروع. لكن الطرفين يغامران اليوم، ليس برصيدهما داخل تيارهما، بل بالآمال المسيحية المعلقة على حوارهما. وبحسب تعبير أحد المطلعين على الحوارات، يحق لكل منهما أن يتشبث بحقه في الوصول إلى بعبدا، لكن لا يحق لهما أن يطيحا الوضع المسيحي برمته، إن لم يأت أحدهما رئيساً. كذلك لا يحق لهما المغامرة بتفاصيل لا علاقة لها بالسياسة من قريب أو بعيد.
هل أخطأ عون وجعجع بالدخول في الحوار مع علمهما المسبق بالعثرات وبالنيات، وبالحلقات الضيقة لدى كل منهما التي لا تريد للحوار أن يأخذ مداه إلا تحت سقف رسمه كل منهما. أراد عون منذ اللحظة الأولى اعترافاً من جعجع برئاسته ولم يقل يوماً غير ذلك، بل كان واضحاً بتأكيده عند بداية الحوار: «أنا مرشح ولن أعطي صوتي لأحد» («الاخبار»، 18 كانون الأول 2014)، مؤكداً أن الحوار مع جعجع سيشمل كل المواضيع المسيحية. بدوره وضع جعجع الرئاسة، لا الرئيس، كأولوية، وأراد التفاهم على متطلبات الرئيس ودور سلاح حزب الله وكافة الملفات المسيحية. قد يكون عون حقق إيجابيات حتى الآن من الحوار، كما حقق منه جعجع، لمصلحة مكاسب سياسية، ولتجيير كل منهما موقعه في الحوار وإعطاء شرعية مسيحية وقيادية لموقع الآخر. لكن فشل الحوار ولو علّله كل منهما بأسباب موجبة سيرتد على الواقع المسيحي المتردي أصلاً، وهو ما بدأت بعض ملامحه تظهر منذ أيام.