في الأدبيات السياسية لدولة الاحتلال، يطلق الإسرائيليون على إسحاق رابين لقب «السيد أمن»، في دلالة على البعد الأمني الطاغي في سيرته العامة. كذلك يطلقون على أرييل شارون لقب «السيد استيطان» لأسباب شبيهة واضحة. بنيامين نتنياهو لم يحصل على لقبه بعد، برغم أنه بذل جهوداً استثنائية ليستحق لقب «السيد إيران». ربما كانت مشكلته تكمن في أن جهوده لم تتعدّ حدود الكلام، كما سيفعل اليوم أمام الكونغرس
محمد بدير
قبيل مغادرته إلى الولايات المتحدة، وصف رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، خطابه المزمع بأنه «مهمة مصيرية بل تاريخية». قبل ذلك بأيام، كشف عن تصوره لأهمية الخطاب، قائلاً إنه يرى في الكونغرس «الحصن الأخير لمنع توقيع اتفاق سيئ مع إيران حول برنامجها النووي». يصرّ الزعيم الإسرائيلي على «اقتحام» هذا الحصن برغم الثمن السياسي الفادح الذي يتضح يوماً بعد آخر أن المهمة محفوفة به.
في الداخل الإسرائيلي يعارض كل رؤساء الأحزاب تقريباً الخطاب الذي يقول نتنياهو إنه يمثل فيه كل إسرائيل والشعب اليهودي. كذلك يعارضه 180 مسؤولاً أمنياً إسرائيلياً سابقاً رأوا في إعلان أول من أمس أنه يدمر الردع الإسرائيلي والحلف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. الرئيس الأميركي، باراك أوباما، عبّر بقدر استثنائي من الصراحة عن اعتراضه على الخطاب الذي رأت فيه أوساط البيت الأبيض تدخلاً سافراً ووقحاً في السياسة الأميركية الداخلية. مستشارة الأمن القومي الأميركي قالت إن الخطاب سيكون له أثر مدمر على العلاقات بين واشنطن وتل أبيب.
يوجد نتنياهو انقساماً
في الساحة السياسية الأميركية يُحرج
اليهود الأميركيين
نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي يشغل بحكم موقعه منصب رئيس مجلس الشيوخ، «اخترع» سفراً إلى خارج البلاد كي يتغيب عن الخطاب، فيما أعلن عشرات الأعضاء الديموقراطيين في مجلسي الكونغرس مقاطعتهم للحدث الذي تبين أنه دُبر بليل بين السفير الإسرائيلي في واشنطن، رون ديرمر، ورئيس مجلس النواب الجمهوري، جون باينر، الذي اعترف لاحقاً بأنه وجه الدعوة إلى نتنياهو من دون التشاور مع المكون الديموقراطي داخل الكونغرس.
باختصار، خطاب نتنياهو اليوم يعتبر تحطيماً لقواعد اللعبة المتبعة بين واشنطن وتل أبيب: هو ينتهك بروتوكولات مرعية الإجراء بين الجانبين، يدفع إلى التصادم مع البيت الأبيض ويسبب أزمة خطيرة معه. يوجد انقساماً في الساحة السياسية الأميركية الداخلية ويضع اليهود الأميركيين ومنظماتهم في وضعية حرجة، وكل ذلك لا يشكل سبباً كافياً بالنسبة إلى نتنياهو للتراجع عنه. لماذا؟ لأن نتنياهو تعهد للإسرائيليين أن «من واجبي كرئيس للوزراء أن أفعل كل شيء كي أمنع الاتفاق الخطير الذي سيتيح لإيران في غضون بضع سنوات قدرة إنتاج عشرات القنابل النووية». و«كل شيء»، بحسب نتنياهو، تشمل تحمل الأضرار والأثمان المترتبة على الخطاب أمام الكونغرس مع الوعي بها مسبقاً. لكن ماذا عن الجدوى المفترضة لهذه «التضحية» الاستثنائية؟
وفقاً لما يعلنه، يرمي نتنياهو إلى تحويل الأغلبية المطلقة في الكونغرس، المعارضة للاتفاق مع إيران، إلى أغلبية ثلثين، بحيث تصبح قادرة على إجهاض الفيتو الرئاسي الذي يحول دون تشريع فرض مزيد من العقوبات على طهران بما يدفع الأخيرة إلى تفجير المفاوضات القائمة. إلا أن تقديرات المراقبين تجمع على أن احتمال أن يؤثر خطاب نتنياهو في هذا الاتجاه هو احتمال صفري. فما سيقوله نتنياهو معروف مسبقاً، ولن ينطوي على أي جديد. حتى التفاصيل التي لمّح مقربوه إلى أنه سيشكف عنها حول الاتفاق المتبلور مع الجمهورية الإسلامية باتت معروفة للقاصي والداني. خطاب نتنياهو إذاً لن يكون من وزن خطاب «لدي حلم» لمارتن لوثر كينغ، ولا خطاب «غيتسبرغ» لأبراهام لينكولن، أو خطاب «الحريات الأربع» لفرانكلين روزفلت. على الأرجح، سيكون الكونغرس اليوم مع موعد لمجرد خطاب إضافي آخر عن إيران. وإذا كان من حدث في الخطاب، فهو أنه محاولة بالغة الوقاحة لفرض سياسة محددة على الرئيس الأميركي، الأمر الذي يتوقع مراقبون أن يكون له مفعول عكسي، لجهة مضاءلة فرص الحصول على الأغلبية المطلوبة في الكونغرس، لأن تأييد خطاب كهذا سيمثل فعلاً استفزازياً مهيناً ليس فقط للرئيس، بل للبيت الأبيض كمؤسسة.
نعم. المؤكد أن نتنياهو يرى في خطابه رافعة انتخابية على مسافة أسبوعين من الانتخابات العامة في إسرائيل، وأنه يسعى إلى توظيفه في هذا السياق، حيث يهمه تقديم نفسه بوصفه القيادي الإسرائيلي الذي تحدى العالم، وعلى رأسه الحليف الاستراتيجي الأهم لإسرائيل، من أجل التحذير من المخاطر الوجودية التي ينطوي عليها الاتفاق الغربي الإيراني على الأمن الإسرائيلي.
لكن الأهم من ذلك، هو أن خطاب نتنياهو ليس أكثر من محاولة مفضوحة للتعمية على فشله في إنجاز المهمة التي وصفها ذات مرة بأنها «مهمة حياته»، وهي منع طهران من الحصول على قدرات نووية. وراء خطابه التحذيري اليائس، يحاول نتنياهو إخفاء حقيقة أنه خسر اللعبة في مواجهة طهران، ولذلك يعمد إلى ذرّ الرماد في أعين الرأي العام لإشغاله عن مساءلته حول هذه الخسارة. هو لوّح على مدى أعوام بالخيار العسكري في مواجهة المشروع النووي الإيراني، وأنفق مليارات الدولارات في الإعداد لهذا الخيار على حساب التقديمات الاجتماعية في بنود الموازنة الإسرائيلية. حبس أنفاس العالم غير مرة، وكان لأدائه هذا دور حاسم في دفع الغرب إلى انتهاج سياسة حازمة ضد طهران بين عامي 2010 و2013. لكن في اختبار النتائج، الحقيقة التي لا لبس فيها هي أن نتنياهو تسلم الحكم في إسرائيل عام 2009 وإيران بعيدة خمس سنوات عن القنبلة النووية، كما كانت تقول تقارير الاستخبارات الإسرائيلية، وها هو اليوم، بعد ست سنوات في الموقع الأول لصناعة القرار الإسرائيلي، يسافر إلى واشنطن فيما الجمهورية الإسلامية «دولة حافة نووية» وتمتلك التقنية الكاملة لتصنيع القنبلة لو قررت ذلك، كما لمّح إلى ذلك تقرير لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي قبل أيام. حصل ذلك في نوبة حراسة نتنياهو الذي تقزمت خياراته لوقف المشروع النووي الإيراني من التلويح بقرع طبول الحرب إلى توسل خطاب يائس أمام المشرعين الأميركيين بغية إقناعهم بالاعتراض على اتفاقٍ غاية الأمر أنه يعترف بالأمر الواقع النووي الإيراني لا أكثر. وفي السياق، «نجح» نتنياهو في تحويل القضية النووية الإيرانية من مشكلة غربية-إيرانية، وبشكل أخص أميركية-إيرانية، ليس إلى مشكلة إسرائيلية-إيرانية فحسب، بل إلى مشكلة إسرائيلية-أميركية.
وفي محاولته توسل واشنطن لإجهاض الاتفاق مع طهران، يبدو نتنياهو كمن يهم بعبور الجسر الذي سبق أن أحرقه عن سابق إصرار وتصميم. فهو رفض الدخول في مفاوضات جدية مع الفلسطينيين، حتى بعنوان المقايضة الضمنية التي عرضت عليه في ولايته الأولى بين موديعين (اسم مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية) والـ«غرعين» (المرادفة العبرية لكلمة نووي) في دلالة على استعداد واشنطن لإعطائه ما يطلب في النووي الإيراني مقابل الحصول منه على تنازلات تسوّي القضية الفلسطينية. تحت أعين المجتمع الدولي، واصل نتنياهو بناء المستوطنات، شنّ حربين على قطاع غزة، هزأ بالأوروبيين، تحدى الأميركيين، وها هو الآن يذهب إلى واشنطن ليشكو تجاهل العالم للأخطار الأمنية التي تتهدد إسرائيل. العالم اليوم سيكون، على الأرجح، أمام مرافعة أخيرة يقوم بها محامٍ فاشل أمام المحكمة قبل صدور الحكم النهائي بإدانة موكله (الإسرائيلي)، أو بتبرئة خصمه (الإيراني).