نجحت الضغوط العونية غير المباشرة على معراب في عدم إنهاء الحوار بينهما، فعادت ورقة النيّات المشتركة أخيراً إلى الرابية. الآن ستدرس ملاحظات القوات الجديدة تمهيداً لتوقيع المستند المهم من دون طنة ورنة، وانتقال الفريقين إلى المرحلة الثانية التي تتمحور حول ترجمة النيّات إلى أعمال وأسماء، في ما يتعلق بقانون الانتخابات و»الرئيس القوي في بيئته القادر على طمأنة المكونات الأخرى»
غسان سعود
في طريقه إلى الشياح، لم يحسب رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون أرباحه وخسائره من ملاقاته الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في كنيسة مار مخايل. غالباً ما وتّرته الأسئلة، داخل البيت العوني وخارجه، عمّا جناه شخصياً من هذا التفاهم قبل أن تحوّله حرب تموز من «تحالف عقلي» يحشد أنصاره الحجج لإقناع الرأي العام بأهميته، إلى «تحالف عاطفيّ – شعبيّ»، فـ»تحالف وجوديّ».
اليوم، يتكرر الأمر نفسه: لا يحسب عون أرباحه وخسائره من المحادثات المستمرة منذ ثلاثة أشهر بين الرابية ومعراب. خلافاً لكل ما يشاع، لا تدور كل التطلعات العونية من هذا الحوار في فلك الرئاسة الأولى، وإن كانت الانتخابات الرئاسية الامتحان الأكثر جدية لمستقبل المسيحيين عموماً وعلاقة هذين الفريقين خصوصاً. خلاصة التجربة العونية، في السنوات القليلة الماضية، أنّ تموضع المسيحيين، كلٌّ في محور، حقق مكاسب في مجلسي النواب والوزراء، لكنه لا يكفي وحده لاستعادة الحقوق التمثيلية الأساسية. لذا، لا بدّ من اتفاق جديّ ونهائي على مجموعة ثوابت يلتزم جميع الأفرقاء احترامَها. ويشير أحد النواب العونيين، هنا، إلى أن ورقة النيّات المشتركة بين الطرفين راعت بقاء كل منهما في موقعه السياسي المختلف عن الآخر، مع إيجاد مجموعة قواسم مشتركة ومطالب حيوية يفترض أن يسعيا إلى تحقيقها. وعلمت «الأخبار» أن الفريقين وجدا أكثر من عشرة عناوين مشتركة، أهمها: تصحيح الخلل في تطبيق اتفاق الطائف، المطالبة بتطبيق اللامركزية الإدارية، الإصلاح الإداري، الإصلاح المالي، معالجة أزمة النازحين السوريين، تصحيح التمثيل الرئاسي والنيابي، تصحيح علاقة لبنان بمحيطه العربي والإقليمي، ودعم الجيش.
من منظار الرابية، يبدو استمرار الأوضاع على ما هي عليه، سواء في رئاسة الجمهورية أو قانون الانتخابات أو في أعداد اللاجئين السوريين أو في نسبة الهجرة السنوية، أخطر بكثير من مكسب سياسي صغير هنا وخسارة هناك. وهناك ما هو أهم من ego ميشال عون وego سمير جعجع ومشاعر جمهورهما، خصوصاً أن المكاسب العونية، مثلاً، سواء من انقلاب القوات على القانون الأرثوذكسي أو من «فليحكم الإخوان»، لم «تُقرش» بسبب إسهام الحلفاء في تطيير الانتخابات. وتكرر الرابية، هنا، ما تقوله معراب عن وجوب بحث المسيحيين عن خيار آخر لتحقيق تقدم في الملفات العالقة، بعدما فقد خيار التصادم جدواه. فيرى العونيون أن النظرة السطحية للتفاهم مع القوات، من «جهتنا وجهتهم»، تتوقف عند مكاسب كل منا وخسائره، أما المقاربة الجدية فتأخذ في الاعتبار عجز التيار الوطني الحر والقوات والكتائب والمردة، ومعهم البطريركية المارونية، عن تعيين أستاذ جامعي في إحدى الكليات ما لم توافق عليه عدة مرجعيات أخرى. وهنا المشكلة الحقيقية. المشكلة في رفض مختلف الأفرقاء السياسيين مبادرة عون حصر السباق الرئاسي به وبجعجع. لذلك، عشية التقاسم المذهبي للنفوذ في المنطقة، لا بدّ من الاتفاق على حد أدنى من الرؤية المسيحية المشتركة. ويبدو واضحاً في هذا السياق أنّ ثمة سؤالاً جدياً يهيمن على المتحاورين اليوم، يتعلق بما ستكون عليه أوضاع المسيحيين بعد عشر سنوات، في ظل عجزهم اليوم ــــ رغم زعامة عون العملاقة وكل تكتله النيابي ــــ عن فرض آلية تضمن انتخاب رئيس قوي للجمهورية، أو إقرار قانون انتخابات يضمن صحة التمثيل، أو تعيين مدير عام. العجز عن الاتفاق اليوم، سيسرّ بعض نواب الطرفين الذين سيتبارون على شاشات التلفزيونات بتبادل الاتهامات بالمسؤولية فرط الحوار.
يهيمن على المتحاورين ما ستكون عليه أوضاع المسيحيين بعد عشر سنوات
إلا أن النتيجة النهائية ستكون أكثر سلبية على الطرفين بكثير من «المرجلات» الفارغة. وبناءً على ما سبق، يقول أحد نواب بعبدا العونيين إن التحالف مع القوات ليس «تحالف الضرورة» بالنسبة إلى الانتخابات الرئاسية فحسب، بل للحضور المسيحيّ في البلد. ويشير إلى أن المقاربة غير الانفعالية ستكشف أن تحالف العونيين مع القوات، في هذه المرحلة، «وجوديّ» هو الآخر. يكفي أن يتخيّل الطرفان ماذا سيبقى من مجتمعهما بعد عشر سنوات في حال بقائهما عاجزين عن إيصال رئيس جمهورية قوي وإقرار قانون انتخابات عادل وتسمية قائد جيش وتعيين موظف في الدولة.
عملياً، تريد الرابية لحوارها مع القوات أن يتقدم. تتحدث أوساطها عن «يومين أو ثلاثة» لدراسة الملاحظات القواتية «غير الجوهرية» على النسخة شبه النهائية لـ»النيّات المشتركة». فرغم الأسابيع الستة التي استغرقتها القوات في تنقيح النسخة الأخيرة، لم تتجاوز التعديلات التي أدخلتها معراب حدود استبدال تسع أو عشر كلمات بمرادفات أخرى. ولا يوحي ردّ الفعل الإيجابي العوني على التعديلات الجديدة بوجود أزمة في الأفق. لكن لا شيء يوحي بوجود نية لعقد لقاء قريب بين عون وجعجع، أو إذاعة «النيّات المشتركة» في لقاء صحافيّ مشترك. تكرر ورقة النيّات كلام العونيين، لكن بلغة أكثر ديبلوماسية، بشأن الإصلاح المالي والإداري، وتتبنى الحماسة القواتية لتطبيق الطائف واللامركزية الإدارية ودعم الجيش واحترام السيادة اللبنانية، فيما ينص بندها الأهم على أن «أبرز الوسائل لتصويب المسار والعودة إلى الطائف واحترام الدستور وأحكام المناصفة هي إقرار قانون انتخابات عادل يحقق صحة التمثيل، وانتخاب رئيس قوي في بيئته قادر على طمأنة المكونات الطائفية الأخرى». وبناءً عليه، قبيل انتهاء المرحلة الأولى، يقول أحد المعنيين بالحوار: «بدأنا إعداد جدول أعمال المرحلة الثانية التي سنترجم خلالها النيّات المشتركة في خطوات عملية». النيّات المشتركة ليست الإنجاز إذاً، بل خريطة الطريق لتحقيق مجموعة إنجازات، خصوصاً في ملفي رئاسة الجمهورية والانتخابات النيابية. وعلمت «الأخبار» أن اجتماعين مهمين يلوحان في الأفق: الأول لمجموعة سياسيين وإعلاميين ورجال أعمال وكنسيين يرون في التقارب العوني ــــ القواتي فرصة مسيحية نادرة تستحق دعمهم. والثاني لنواب القوات والتيار الوطني الحر من أجل تفعيل «تشريع الضرورة» لإقرار قانون انتخابات جديد وإقرار قانون منح الجنسية للمنحدرين من أصل لبناني، في ظل تأكيد العونيين أن ما يصلهم من معراب يتجاوز بكثير إيجابية ردّ القوات في بيان رسمي على نائب رئيس الحزب النائب جورج عدوان ومستشار رئيس الحزب وهبي قاطيشا في ما يتعلق بحظوظ عون الرئاسية.
قبل تسع سنوات، تبادل عون وجعجع الرسائل عبر أحد الضباط المتقاعدين، قبل أن يقول جعجع للموفد العونيّ إلى الأرز قبيل حرب تموز ببضعة أسابيع إن عليهما توحيد موقفهما لحماية رأس المسيحيين من «العاصفة التي ستقتلع النظام السوريّ وحلفاءه في المنطقة». فما كان من عون إلا أن أعاد رسوله إلى معراب، ناصحاً ببقاء كل منهما في جهة، ليتمكن أحدهما من إنقاذ الآخر في حال سير الأمور خلافاً لرؤية جعجع. أما اليوم، وقد ثبتت استحالة اقتلاع أحد الحليفين، فيقول عون لجعجع هذه المرة إن عليهما توحيد موقفهما لحماية رأس المسيحيين من العاصفة التي تصر على اقتلاعهم، بعدما عجزت عن اقتلاع الآخرين.