يتآكل وجود الدولة في الشمال. بعد «صحوة» المسلحين في طرابلس وعودتهم إلى إظهار نفوذهم، ها هم «ينتشرون» في عكار. يغتالون جنوداً، ويفرضون الخوف على المدنيين والعسكريين من أبناء المنطقة. معظم هؤلاء مرتبطون بتنظيم «القاعدة» ومتفرعاته، أو يتأثرون بها. وفي ظل ضعف الدولة، يريدون ان يقولوا: «في الشمال… الأمر لنا»
السلطة وأجهزتها، كما بعض الاعلام و»الرأي العام»، يتعاملون بخفة لا متناهية مع ما يجري في الشمال. يوم امس، قتل إرهابيون الجندي جمال الهاشم، ليعطوا دليلاً إضافياً على كونهم قد أخرجوا عكار، بعد طرابلس، من كنف الدولة. الأمر شبيه بما جرى في طرابلس بعيد توقيف الامن العام للمشتبه فيه بالانتماء إلى تنظيم «القاعدة»، شادي المولوي في أيار 2012.
حينذاك، انفجر تمرّد مسلّح في عاصمة الشمال وجّه رسالة إلى الدولة اللبنانية تفيد بأن الأمر في طرابلس هو لمسلحي الشوارع. خروج الدولة التدريجي وفّر تحويل عاصمة الشمال إلى حاضنة آمنة لمسلحي المعارضة السورية، وعلى رأسهم مقاتلو «جبهة النصرة» وحلفاؤهم. في نيسان الماضي، عادت الدولة إلى طرابلس، على جناح «حكومة الوحدة الوطنية» لتعتقل «قادة المحاور»، وكل الزعماء الذين يوصفون بـ»المعتدلين» لمسلحي المدينة. هدأت الاشتباكات بين التبانة وجبل محسن، لكن جمر «النصرة» و»المتشددين» بقي تحت الرماد. احتلال «داعش» للموصل واجزاء واسعة من غرب العراق وشرق سوريا، ثم معركة عرسال (2 آب 2014) وخطف العسكريين وما تلى ذلك من جولات قتال في القلمون، عادت لترفع معنويات «المتطرفين». تزامن كل ذلك مع توافر معلومات لدى الجيش اللبناني، ولدى اجهزة استخبارات اوروبية عن مخطط لتنظيم «داعش» يرمي إلى السيطرة على الشمال اللبناني لتأمين منفذ على البحر المتوسط. قائد الجيش العماد جان قهوجي تحدّث عن هذه المعلومات. سبقه في ذلك رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون. أحد الأقطاب السياسيين الشماليين يحذّر من سيناريو كهذا منذ ما قبل معركة عرسال. بث مخاوفه في مكتب قهوجي الذي طمأنه إلى «متانة الوضع العسكري في الشمال».
تطوّرت الامور نحو الأسوأ خلال الأسابيع الماضية. صار جنود الجيش ومواقعه اهدافاً لمطلقي الرصاص ورماة القنابل في طرابلس، والبداوي، والريحانية (عكار)، وصولاً إلى يوم امس في البيرة العكارية.
اغتيال الجنود ومهاجمة مواقع الجيش واكبهما الهجوم السياسي المستمر من بعض مسؤولي تيار المستقبل، وحفلات التكفير والتحريض على الفرار من الجيش. ثمة غطاء يوفره بعض تيار المستقبل لما يجري، مباشرة، او على نحو غير مباشر، من خلال تجنب تسمية الامور بأسمائها، وتضييع المسؤولية.
كلام الحريري شبيه بالحجج التي ساقها الجندي الفار لتبرير التحاقه بالإرهابيينعلى المستوى الامني، ثمة إجماع على خطورة ما يجري. المسلحون كانوا أمس يجوبون شوارع طرابلس والبداوي وبعض مناطق عكار. لا يخفون أسلحتهم. يهددون جنود الجيش الذين صار بعضهم يتحاشى ارتداء بزته العسكرية خلال التنقل بين قراه ومراكز خدمته.
الوضع، بحسب مسؤولين امنيين، ينذر بانفلات خطير. سلطة الدولة تتآكل. في المقابل، ينفذ الجيش عمليات دهم واسعة في عكار وطرابلس، كما في المناطق الأخرى. وتؤكد مصادر عسكرية ان ما تقوم به المؤسسة العسكرية «ككرة ثلج ستكبر يوماً بعد آخر. ولن تثنينا الاعتداءات والجرائم عما نقوم به. على العكس. سنكثف عملنا ونوسعه». بعض المصادر الامنية ترى ان ما يجري لا يزال قاصراً عن إزالة الخطر على نحو جذري. تلفت إلى عجز الدولة عن وضع حد للمسلحين الذين يهددون العسكريين والمدنيين في الشمال. وفي الأصل، لم تعترف السلطة بعد بخطورة ما يجري. الحكومة لم تر سبباً يدفعها إلى عقد اجتماع طارئ لبحث تمدد الجماعات المسلحة في لبنان الشمالي وسبل مواجهتها. قائد الجيش لم يقطع إجازته ليعود إلى لبنان. رئيس الأركان يستكمل استقبالاته العادية. تيار المستقبل يكتفي بالبيانات. يستنكر اليوم، ليعود غداً إلى تبني خطاب القتلة. لم يجف بعد حبر بيان رئيسه عقب انفجار عبوة ناسفة بدورية لجيش الاحتلال الإسرائيلي في مزارع شبعا، الذي انتقد فيه «استدراج الجيش والقوى العسكرية الرسمية الى مهمات قتالية وأمنية، تحددها غرف العمليات التابعة لحزب الله»، كلام لا يختلف كثيراً عن الحجج التي ساقها الجندي الفار من الجيش عبد الله شحادة، لتبرير التحاقه بالارهابيين في جرود عرسال.