حكمت المحكمة… فنطقت تحطيماً لأبسط قواعد العدالة. الحكم الصادر امس عن المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بحق قناة «الجديد» ونائبة رئيس مجلس إدارتها كرمى الخياط، يمثّل خير تمثيل طريقة عمل هذه المحكمة، والأساليب التي تعتمدها لـ»تحقيق العدالة». منذ إنشائها، روّج القيّمون على المحكمة بأن عملها يستند إلى «اعلى معايير العدالة»، وأن أحكامها ستكون مبنية على «أدلة تتخطى أي شك معقول»، لكنّ واقع الحال، كذّب هذا الترويج الوارد في نصوص إنشاء المحكمة وفي قواعد عملها. فأول حكم أصدرته، كان ضد صحافية، لا ضد متهمين بارتكاب جريمة اغتيال. وتهمة الصحافية أنها مسؤولة عن نشر تحقيقات أقرّت المحكمة في حكمها امس بأنها لم تؤثر في «حسن سير العدالة»، ولم تؤدّ عملياً ومعنوياً إلى إرهاب الشهود او تخويفهم، وانها لم تدخل في خانة «تحقير المحكمة» (أي عدم الانصياع لأوامرها). علامَ إدانة كرمى الخياط إذاً؟ هي لم تُزل عن الموقع الالكتروني لقناة «الجديد» فيديوهات التحقيقات المشكو منها. واستند القاضي إلى «الدليل» الآتي: أرسلت إدارة المحكمة بريداً إلكترونياً للخياط، تطلب فيه إزالة الفيديوهات.
أثبتت الخياط أمام القاضي الذي أصدر الحكم، نيكولا ليتييري، أنها لم تتلق البريد. وشهد مُرسل الرسالة الإلكترونية ــ امام القاضي أيضاً ــ انه لم يتصل بالخياط ليتأكد من أنها تلقت رسالته. برُغم ذلك، رأى ليتييري أن هذا «الدليل» يتخطى أي شك منطقي، وأن اعتماده يندرج في إطار اعلى معايير العدالة الدولية. وبناءً على ذلك، أصدر حكمه بإدانة الخياط امس، على أن يعلن العقوبة في الثامن والعشرين من الشهر الجاري. ثمة بُعد آخر لحكم ليتييري. فهذا «الدليل»، أي اعتبار الخياط قد تبلّغت «أمراً» من المحكمة عبر البريد الالكتروني، يستبطن رغبة من المحكمة بالقول إن الأصول التي اختارتها هي لتبليغ المتهمين، تسمو على أصول التبليغ التّي ينص عليها القانون اللبناني. ويتيح هذا الحكم للمحكمة مستقبلاً، إصدار اوامر لوسائل الإعلام في لبنان، وتبليغها إياها بواسطة البريد الالكتروني، او الرسائل النصية عبر الهاتف، او أي طريقة اخرى تراها مناسبة، ثم معاقبة من لا يلتزم الاوامر، بصرف النظر عن كونه قد تبلّغ فعلاً او لم يتبلغ.
الحكم الليتييري، مارس نوعاً من «التمويه». فإلى جانب الإدانة، برّأ الخياط من التهم الاخرى (عرقلة سير العدالة، تحقير المحكمة…). وبرّأ شركة «الجديد» من كل التهم الموجهة إليها، منسجماً مع قراره الأولي (الذي أسقطته غرفة الاستئناف الخاصة بجرائم تحقير المحكمة في ما بعد) بعدم اختصاصه للنظر في قضايا يُحاكَم فيها أشخاص معنويون (شركات، مؤسسات، جمعيات، احزاب…). وتُعد محاكمة «الجديد»، كشخص معنوي، سابقة في تاريخ القضاء الدولي، منذ محاكمات نورمبرغ التي تلت الحرب العالمية الثانية.
استندت المحكمة
إلى «دليل» نفته الخياط ويخالف قواعد القانون اللبناني
وأعلن ليتييري في الجلسة العامة التي عُقدت أمس ان المدعي (صديق المحكمة) «لم يُثبت ان «الجديد» ارتكبت فعلا جرميا…
غير ان الخياط نفسها اغفلت عمدا قرار المحكمة بإزالة الحلقات من موقع القناة الالكتروني ويوتيوب وحسابات التواصل الاجتماعي للقناة».
وقالت الخياط أمس إن «تبرئتنا من قضية تحقير المحكمة تعني انكم (المحكمة) اضعتم وقتنا وعطلتم مسار عملنا لسنتين، ليتبين اننا نحن على حق». أما في ما يتعلق بادانتها في قضية عرقلة سير العدالة، فرأت أنه «لا يمكن اعتبار مجرد بريد الكتروني دليلا ضدي. قرار المحكمة ليس سوى لحفظ ماء الوجه»، مضيفة أن «المرحلة لم تنته بعد نحن في حالة ترقب. المحكمة ستحدد العقوبة بعد 15 يوما وقد يكون هناك استئناف من قِبلنا او من قبل الادعاء. نحن ندرس كافة الخيارات اليوم مع المحامين».
يُذكر أن العقوبة التي تواجهها خياط قد تصل الى السجن سبع سنوات كحد اقصى و/ أو دفع غرامة مئة الف يورو.
وقال وكيل الدفاع عن «الجديد» والخياط المحامي كريم خان إن الخياط ستطعن في ادانتها في الاتهام الأقل، مضيفا أن تبرئة ساحة تلفزيون الجديد تماما بمثابة اثبات.
وفي ظل صمت رسمي لبناني حيال الحكم، باستثناء تأييد حكومي له عبّر عنه وزير الإعلام رمزي جريج على قاعدة ان «لبنان ملزم تنفيذ ما يصدر عن المحكمة»، رأت مؤسسة «مهارات» في بيان لها أن «قرار المحكمة باعتبار خياط مذنبة لعدم حجبها تقارير صحافية إستقصائية أصبحت في متناول الجمهور، يمثل انتهاكا لحرية الاعلام وتداول المعلومات، وتقييدا لحرية سامية مكرسة، ومنصوص عنها في أهم وثيقة عالمية لحقوق الانسان».
(الأخبار)