بين حافتي استقرار الأمن والاستحقاقات المتدحرجة كالدومينو، تعبر المتاعب قطعة تلو أخرى. ما يُطمئن مرجعاً أمنياً وهو يقرأ التطورات الأخيرة، في لقاء مع إعلاميين، أن لا قرار بإحداث الفوضى في لبنان. ما عداه قابل للحل الآني أو الموقت
أجرى مسؤول أمني رفيع المستوى مراجعة للوضع الداخلي، واستخلص منه حدين: أدنى استقرار أمني، وأقصى تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية في مدى قريب. بينهما قلّل من موجة التفاؤل المفرطة حيال المتوقع من مفاوضات الغرب مع إيران حول برنامجها النووي. في أحسن الأحوال يتطلب نجاح التفاوض وقتاً طويلاً للتوصل إليه ووضعه موضع التنفيذ. إلا أن لبنان قد لا يكون بالضرورة في رأس سلم أولويات التفاهم على استقرار المنطقة، نظراً إلى أهمية دول أخرى مجاورة أكثر سخونة وإلحاحاً للتوافق على مصيرها في سياق المفاوضات تلك، أو ما قد ينبثق منها من تفاهم إيراني ــ سعودي.
وإلى أوان سلسلة تفاهمات إقليمية ودولية في المنطقة، يرى المسؤول الأمني أن الأجندة اللبنانية الفعلية تتركز على ثبات الأمن الداخلي كمدخل إلى تعزيز الاستقرار من خلال ملفات، أبرزها تعقب الخلايا الإرهابية ومفتعلي الاضطرابات واستعادة العسكريين المخطوفين من تنظيم داعش وجبهة النصرة. يحدوه عاملان إلى استبعاد انتخاب وشيك للرئيس، وقد يستغرق الشغور وقتاً أطول مما يشاع: أولهما عجز لبناني واضح عن التوافق على الرئيس. وثانيهما التوافق الإقليمي المؤجل والضروري لإتمام الانتخاب، بيد أنه لا يزال غير ناضج حتى الآن.
الجيش دخل للمرة الأولى إلى باب التبانة التي ظلت لعقود طويلة عصيّة عليه
يتطرق المسؤول الأمني إلى المعطيات المتوافرة عن استمرار خطف العسكريين، بتأكيده أن لبنان وجد أن التفاوض مع الخاطفين هو أفضل الخيارات، ويتقدم ما عداه. مرّ حتى الآن في مراحل أتاحت استمرار التواصل المباشر وغير المباشر مع الخاطفين، وخصوصاً جبهة النصرة. وكشف أن المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، المفاوض اللبناني، التقى قبل شهر سراً للمرة الأولى مسؤولين في جبهة النصرة، إلا أنهم لم يزودوه شروطهم، واكتفوا بالقول إنهم ينتظرون الوسيط أحمد الخطيب.
استشم إبراهيم من الخاطفين ثقتهم بالوسيط، في معرض رفضهم التعاون المباشر مع المفاوض اللبناني، وأخطروه بأنهم يسلمون شروطهم للخطيب الذي اختارته الدوحة للتنقل بين الخاطفين والسلطات اللبنانية من دون أن يُعطى حق الاجتهاد والتأثير في الوساطة، أو أن يكون معنياً بإطار التفاوض. ليس مفاوضاً شريكاً، بل هو في نظر المفاوض اللبناني أقرب إلى صندوق بريد، يكتفي بنقل الرسائل والمطالب المتبادلة، فيما تحمّله جبهة النصرة دوراً أكبر، وتوجّه من خلاله رسائلها.
أظهر الخاطفون يومذاك عدم استعدادهم للخوض في الملف، وبدوا غير جاهزين تماماً له. لأسبوعين خليا، لم يطرأ أي تطور عليه، منذ آخر زيارة للوسيط القطري لبيروت لم يعد بعدها. منذ المراحل الأولى للاتصالات التي أعدّت للتفاوض، تمسك المفاوض اللبناني بشرط رئيسي، هو أنه لا يتلقى الطلبات والشروط عبر وسائل الإعلام، بل مكتوبة وموثقة ومختومة حتى، بغية إقفال بازار التكهنات والشائعات والأقاويل حيال التفاوض. أصرّ على وضع إطار محدد يشكل قاعدة للانطلاق منه، فيعرف كل فريق ما يريده الآخر. في وقت لاحق تسلم إبراهيم من الخاطفين عبر الوسيط لائحة خيارات ثلاثة، رد عليها لبنان بخيار رابع لا يزال ينتظر الجواب عنه. بيد أن ذلك يعني أساساً أن باب التفاوض بات مذ ذاك مفتوحاً.
بحسب المطلعين على ملف العسكريين، يُعزى تباطؤ تفاوض الأشهر الأخيرة إلى الاعتقاد السائد في أوساط الخاطفين بأن الظروف التي يعيشونها في جرود عرسال ليست بالصعوبة والسوء الذي يجري تصويره في لبنان. يقيمون في مغاور محصنة صارت أشبه ببيوت. لديهم وسائل اتصالات وشبكة تواصل عبر الإنترنت، وفي وسعهم التحرك في نطاقهم في الجرود بسهولة. يحتفظون بكمّ كبير من المؤن والمحروقات ومقومات التدفئة والأسلحة، فضلاً عن أن سبل الوصول إليهم ليست سهلة، ما يجعلهم في واقع مريح يُسهم في إبطاء سعيهم إلى التفاوض المستعجل.
إلا أن الملف، تبعاً للمسؤول الأمني، بدأ يتحرك أخيراً. لا يزال لبنان ينتظر الوسيط القطري حاملاً أجوبة جبهة النصرة. خيار التفاوض حمل الحكومة اللبنانية على تحديد مقاربتها هذا الملف الشائك، من خلال طلب مساعدة كل مَن يسعه التدخل لإطلاق العسكريين وإعادتهم سالمين. لقطر تأثير في جبهة النصرة، بينما لتركيا تأثير في تنظيم داعش، إلا أن لا دور لأنقرة في الملف في الوقت الحاضر، وليست طرفاً في التفاوض.
في الجانب الأمني، يشير المرجع الأمني إلى أن الأحداث الأخيرة في طرابلس انتهت بتقويض مشروع تدميري كان يُعدّ للمدينة، نجح الجيش في إسقاط نواته التي توخت الانتشار في طرابلس ومن ثم التوسع إلى مناطق أخرى.
يقول: المؤشر الأكثر دلالة على ضرب النواة تلك، أن الجيش دخل للمرة الأولى إلى باب التبانة التي ظلت لعقود طويلة عصية عليه. اليوم دخلها الجيش وانتشر في أحيائها تحت غطاء أبناء المدينة ودعمهم، وكذلك قياداتها من رجال دين ودنيا، سوى أولئك تحت الشبهة أو المطلوبين. ضُربت النواة، صحيح. لكن استكمال ذلك بتوقيف أسامة منصور وشادي مولوي، لما يمثلانه من رمزية هذا المشروع وارتباطهما بجبهة النصرة والمشايخ المتطرفين والتكفيريين في القلمون السوري، يتعاونون معهم ويرتبطون بهم. طبعاً هذان الشخصان لا يعملان لحسابهما، ولا دكان مستقلاً لهما، بل هم جزء من آخرين. سيستغرق وقت طويل كي يستطيعا إعادة إحياء هذا المشروع. إلا أن وجود الجيش في باب التبانة قطع الطريق على محاولات كهذه.
أقفلت ثغرة طرابلس. بيد أن ثغرة عرسال لا تزال مفتوحة. في اعتقاد المسؤول الأمني أن الإجماع المحلي والإقليمي الذي حتّم إنهاء ما حدث في طرابلس لا يزال غير متاح للحدود الشرقية انطلاقاً من عرسال، وقد يتوخى السبب ــ في رأيه ــ استمرار استنزاف النظام السوري وحزب الله عبر ترك المنطقة عرضة للنزاعات والاشتباكات.
يضيف: الخلايا الإرهابية النائمة موجودة في أكثر من منطقة. في طرابلس وعكار والبقاع وفي عين الحلوة. نحن جزء من المنطقة، وترتدّ علينا تداعيات ما يجري فيها، خصوصاً أن التكوين الديموغرافي في لبنان مشابه للتكوين الديموغرافي في دول المنطقة، ما يجعل التأثر حتمياً، وكذلك ارتداداته.