حسناً فعل وزير الصحّة وائل أبو فاعور بدعوته الناس الى انتظار نتائج حملته قبل التهليل لها أو انتقادها. الرسالة التي أراد توجيهها بعد أسبوع من الحملة على الفساد الغذائي أن ما ظهر حتى الآن أكبر من المقدّر وأقل ممّا هو في الواقع. والأمر لا يقتصر على مطاعم وملاحم، بل يتعداها إلى شركات مياه ومراكز تجميل وأطباء وتجار دواء ومؤسسات صحية وموظفين عامين ومواقع نفوذ… الحقيقة التي تتشكّل حالياً بوثائق رسمية أن هذا البلد برمّته فاسد، أكثر بكثير مما يمكن لأرباب هذا النظام الفاسد أن يتحمّلوه
إيفا الشوفي
هي «حالة طوارئ صحية». هكذا أعلنها وزير الصحة وائل أبو فاعور الذي يستمر في فتح ملفات بقيت سنوات طويلة مرمية في أدراج وزارة الصحة ووزارات أخرى. فساد الأغذية سلّط الضوء على فسادٍ آخر ينخر في الوزارات منذ زمن بعيد، إذ كشف أبو فاعور أن 95 % من المطاعم التي زارتها الوزارة لا تملك شهادة صحية أو ترخيصاً من البلدية، و95% من العمال في المطاعم لا يملكون إفادات صحية. كذلك فإن جميع شركات المياه ومراكز التجميل التي أعلن أبو فاعور أنها غير مطابقة لا تملك رخصاً، ما يفتح المجال أمام أسئلة مشروعة: أين كان موظفو الوزارات قبل أبو فاعور؟ لماذا تُركت هذه الشركات والمؤسسات تعمل لسنوات طويلة من دون أن يسألها أحد عن ترخيص؟ من أهمل صحة المواطن؟ ومن يتحمل المسؤولية؟
أول من أمس عرض علينا أبو فاعور صوراً أقل ما يقال فيها إنها مقززة. لحوم مرمية على الأرض يبيعوننا إياها، دجاج وُضع بجانب النفايات نأكله لاحقاً، مسالخ من دون برادات لحفظ اللحوم… هذا في شق الغذاء، أمّا المياه التي نحصل عليها، فيختلط بها الصرف الصحي لتصبح صحة المواطن مهدّدة بشكل جدي، حيث تبيّن أن 800 شركة مياه تعمل من دون ترخيص أو مواصفات أو معايير، والفحوصات أظهرت أن 90% منها يحتوي على مياه صرف صحي. تداعيات هذا الأمر كشفت عن 946 حالة تسمم (التي تم الإبلاغ عنها فقط) منذ بداية العام، إضافة إلى ارتفاع عدد المصابين بالسرطان من 9000 شخص يُعالجون على حساب وزارة الصحة في عام 2007 إلى 30694 مصاباً عام 2013، وهؤلاء فقط الذين تتحمل الوزارة نفقات معالجتهم! من أصل كل 1000 نسمة في لبنان هناك 204 مصابين بالسرطان. هذه الأرقام المخيفة تستدعي بحوثاً جديّة من قبل متخصصين لمعرفة الأسباب الكامنة وراءها، والتي قد يكون التلوث الغذائي أحد أبرز أسبابها. ملف مراكز التجميل لم يكن أقل سوءاً، بل على العكس هو كارثة بعينها، حيث تحصل عمليات تشويه مخيفة تبدأ بحروق كبيرة لتصل إلى حد حقن الشفاه بزيت السمك! كل هذا كان المواطن اللبناني جزءاً منه. فقد لعب دور الضحية بامتياز، فيما تابعت مافيات الطعام والمياه والتجميل جني الأموال عبر بث السموم في الأجساد. الناس في الشارع تتفاعل مع الموضوع بشكلٍ عادي، هو حديث الساعة لكنهم إلى اليوم لم يغضبوا. الصور التي مرّت أمامهم أثارت اشمئزازهم فقط لكنها لم تحرّكهم، لم تدفعهم إلى محاسبة من سمّمهم طوال هذه السنوات. أبو فاعور يعلم أيضاً هذه الحقيقة، فهو قال إن «الناس مخدّرة»، لكنه قرر اتباع أسلوب المواجهة المباشرة، لأنّ «الإصلاح في هذه الدولة لا يؤخذ سوى بالصوت العالي».
إقفال أكثر من 36 شركة مياه و96 مركزاً تجميلياً غير مرخص
9 أيام مرّت على حملة وزير الصحة. اللائحة التي بدأت بـ38 مؤسسة (أو فرعاً) غير مطابقة للشروط الصحية، أصبحت اليوم طويلة جداً، وتركها أبو فاعور مفتوحة ليُضيف إليها المزيد. «كرة الثلج تكبر» كما أرادها أبو فاعور، وهي حرّكت القضاء والوزارات والنقابات والنواب، الذين انتقلوا من حالة الركود الى حالة ردود الفعل إلى حالة استيعاب الفضيحة وادعاء النية باتخاذ الإجراءات… ولكن هل غادروا حالة التواطؤ والرضوخ لأصحاب المصالح الدنيئة فعلياً؟ حتّى وزارة الصحة أعادت صياغة منهجية عملها محددةً أنها ستركّز حالياً على مصادر الغذاء من لحوم ودجاج، ثم تنتقل إلى المحال الكبيرة والصغيرة. فأبو فاعور لم يكن يعلم فعلياً حجم الفضائح التي تنتظره عندما بدأ حملته، ليتبيّن لاحقاً أن الموضوع لا يمكن أن يستمرّ بعشوائية، بل يجب تنظيمه ووضعه في إطاره المؤسساتي كي تستمر المراقبة من قبل وزارة الصحة حتّى مع غياب الوزير الذي أعلن أن الكشف سيصبح عملاً روتينياً دائماً في وزارة الصحة.
نتائج الحملة أصبح من الممكن لمسها من إقفالٍ لثلاثة مسالخ في الجنوب إضافةً إلى مسلخ بيروت، إذ أعلن محافظ بيروت زياد شبيب، أول من أمس، وقف العمل فيه من أجل إعادة تأهيله، ليتحرّك محافظ الشمال بدوره معلناً إغلاق مسلخ طرابلس اليوم. لكن الأمور لا تنتهي هنا، فقد أعلن أبو فاعور أن هناك عدداً كبيراً من المسالخ التي لا تدري بها الوزارة، ما يجعل صحة اللبنانيين على المحك، وبالتالي يجب ملاحقة جميع مصادر اللحوم. وسيوجه كذلك إلى وزير الداخلية لإقفال مركز عيتول لبيع الدجاج في صيدا، لمدة أسبوعين، الى حين تسوية وضعه، إذ إن المكان غير مؤهل، وقد وُجد فيه دجاج مجمد من بلد المنشأ أوكرانيا، مُنع المراقبون من تصويره أو فحصه. أمّا في ما يخصّ شركات المياه، فقد أعلن أبو فاعور إقفال 36 شركة مياه غير مرخصة، إضافة إلى 96 مركزاً تجميلياً غير مرخص، من ضمنها أسماء مراكز مهمة مثل Beauty lounge، Jane nassar، Silkor، Seif Beauty Clinic. كذلك فإن لوائح المؤسسات الغذائية التي تحتوي أصنافاً غير مطابقة تجاوز عددها 90 مؤسسة وفرعاً، وقد تمّ إحالة أكثر من 50 مؤسسة غذائية على القضاء، كما صرّح المدعي العام التمييزي القاضي سمير حمود لـ»الأخبار». وأحال أبو فاعور أيضاً على المدعي العام التمييزي التقرير الذي وضعه أحد المراقبين الصحيين لـ»مطعم شاي وعسل» في طرابلس، والذي أشار فيه إلى أن «المطعم عمد إلى إحراق كمية من اللحم المثلج الفاسد المنتهي الصلاحية». يؤكّد القاضي حمود أنه يتابع التحقيقات بشكل سريع، معلناً أنه تبلّغ لائحة واحدة من أبو فاعور، أمّا لوائح المؤسسات الغذائية الأخرى وشركات المياه والمراكز التجميلية فلم يُحَل أيّ منها بعد». وزير الاقتصاد آلان حكيم الذي رأى سابقاً أن خطوة أبو فاعور تشكّل «ضرباً للاقتصاد»، قرر أيضاً التحرك إيجابياً، كذلك فإن نقابة المطاعم امتصّت الصدمة التي أحدثها وزير الصحة في المؤتمر الأول وبادرت إلى طرح مقترحات ودليل عن المبادئ التوجيهية ومعايير سلامة الغذاء ناقشتها مع كل من وزراء السياحة والصحة والاقتصاد. بدوره، أكّد نقيب الأطباء أنطوان البستاني لـ»الأخبار» أنّ طلب إغلاق مراكز التجميل غير القانونية قدّمته النقابة منذ شهرين إلى وزارة الصحة، واقترحت بالتوازي مشروع قانون من أجل قوننة مراكز التجميل، وقد اطّلعت عليه لجنة الصحة وتمّ تحويله إلى لجنة الإدارة والعدل التي ناقشته منذ أسبوعين وستكمل دراسته الأسبوع القادم. مشروع القانون يلزم أن يكون من يفتح مركزاً تجميلياً إمّا طبيب جلد أو طبيب تجميل، وما عدا ذلك يعد مخالفاً. صراع المصالح بين الأطباء ومراكز التجميل أتى هذه المرة لمصلحة المواطن، إلا أن هذا لا يلغي أنه سيتم استبدال مافيا مراكز التجميل بمافيات أخرى ما لم تكن وزارة الصحة قد أقلعت نهائياً عن سياسة الرضوخ لأصحاب المصالح الخاصة. على الصعيد التشريعي، استفاق النواب على قانون سلامة الغذاء، إذ دعا رئيس لجنة الصحة النائب عاطف مجدلاني إلى إقرار القانون، على أن تُنشأ لجنة طوارئ مختصة تضم عدداً من الخبراء من مختلف الوزارات، ليستكملوا العمل الذي تقوم به وزارة الصحة بانتظار إقرار قانون سلامة الغذاء. أمّا النائبان نجيب ميقاتي وأحمد كرامي فقد تقدّما باقتراح قانون يهدف إلى تحديد القواعد التي ترمي إلى تأمين سلامة الغذاء وتحديد الأجهزة المكلفة بتطبيق أحكامه على الغذاء المعدّ للبيع أو العرض في الأسواق.
ويتألف هذا الاقتراح من عدة أبواب، أبرزها القواعد التي ترعى سلامة الغذاء، سلسلة السلامة الغذائية، دور الدولة في تأمين سلامة الغذاء، عمليات المراقبة وإدارة الأزمات ونظام الإنذار السريع والحالات الطارئة وإنشاء الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء. وسيحدّد رئيس مجلس النواب نبيه بري اليوم موعداً لعقد جلسة للجان النيابية المشتركة للبحث في قانون سلامة الغذاء، وفق كلام أبو فاعور. وسيُعقد اليوم اجتماع برئاسة رئيس الحكومة تمام سلام بين وزارات الصحة، الزراعة، السياحة والاقتصاد، مع احتمال حضور وزراء الداخلية والبلديات، والطاقة والمياه والصناعة، لوضع خطط عملية واقتراحات لمواجهة هذه الأزمة.
وسيتقدّم وزيرا الصحة والزراعة باقتراحات مشتركة من أجل الإسراع في إقرار القانون وإنشاء مؤسسة عامة لسلامة الغذاء.