اجتمع أعضاء نادي مرشحي رئاسة الجمهورية في دائرة الشمال الثالثة، ليكون التنافس بينهم في الانتخابات النيابية تمهيداً للرئاسة في الـ2022. القوى متشابكة، والتحالفات لم تتضح بعد. التيار العوني يخوض المعركة ليحصد، لأول مرّة، مقعداً (على الأقل) في هذه الأقضية الأربعة. القوات اللبنانية تريد تأكيد «هوية» الدائرة. فيما تيار المردة وبطرس حرب والكتائب والحزب القومي… يخوضون معركة وجودية
ليا القزي
الانتخابات في دائرة الشمال الثالثة (البترون، الكورة، بشرّي، زغرتا) أكبر من معركة نيابيّة. يصحّ وصفها بأهمّ معارك 6 أيار 2018. يُنظر إليها بأنها تمهيدية للانتخابات الرئاسيّة في 2022. فإنّ من يرى صورة عريضة تضمّ النائب سليمان فرنجيّة والوزير جبران باسيل والنائب بطرس حرب والنائبة ستريدا جعجع، لا يُمكن إلا أن يتخيّل المنازلة الكبرى بينهم، تحت عنوان «موجودون وعصيّون على الإلغاء». هذا السبب الأول.
أما الدافع الثاني لاعتبارها أهمّ المعارك، فيكمن في حجم التناقضات والتعقيدات بين القوى الموجودة: التيار الوطني الحرّ، القوات اللبنانية، تيار المردة، حزب الكتائب، الحزب السوري القومي الاجتماعي، الشخصيات المستقلّة التي كانت تدور في فلك 14 و8 آذار، القوى الوطنيّة والمدنيّة… أحزاب لا يجمع بينها سوى مصالح انتخابية، باستثناء المردة و«القومي» لانتمائهما إلى المحور السياسي نفسه. لكن أول دليل على أنّ كلّ فريق من القوى يخوض معركته الشخصية بمعزلٍ عن حلفه السياسي، «ابتزاز» القوات لـ«حليفه» التيار في البترون مع إعلان ترشيح فادي سعد (من منطقة الوسط)، بعد أن كان التيار العوني قد أكّد في عشاءٍ له في تنورين أنّ منطقة الجرد سيكون لها مُرشح (باسيل من الساحل). لا يزال صدى هذه الخطوة يتردّد في الجلسات مع المسؤولين العونيين في البترون. حتّى إنّ قيادة القوات تركت، من باب المناورة، احتمال التحالف مع بطرس حرب وارداً. إضافةً إلى التناقضات الجمّة بين الأحزاب المذكورة، لا يُمكن إغفال أهميّة الصوت السنّي (يبلغ عدد الناخبين السنّة المُسجَّلين في أقضية الدائرة الأربعة أكثر من 22 ألف صوت)، وكان ينقسم سابقاً بين تيار المستقبل (نحو 70 في المئة)، و8 آذار (21% في الكورة، 28% في البترون، و30% في زغرتا). أهمّ مُمثل لتيار المستقبل في هذه الدائرة هو نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري. لا يزال حتى أول من أمس يؤكد أنه غير مُرشح إلى الانتخابات ولم يحسم موقعه السياسي بعد. فهو حليف لرئيس القوات سمير جعجع، وصديق للنائب القومي السابق سليم سعادة (من المتوقع أن يكون هو مُرشح حزبه)، وعلاقته تحسنّت أخيراً مع فرنجية. لكن الأكيد أنّ دعمه أي لائحة، سيُحدث فرقاً في المشهد الانتخابي.
رمزية الدائرة الشمالية أنها تحوّلت إلى بلاد كسروان الجديدة، مُنتزعةً منها معركة «تحديد الزعامة المارونية». ليس السبب فقط أنّ الشمال الثالثة أكبر دائرة مسيحية في لبنان (تضم 10 مقاعد، يليها المتن وبيروت الأولى بـ8 مقاعد لكل منهما)، فأيضاً هناك وجود لثلاث كتل سياسية مسيحية أساسية، انكسار أيٍّ منها في الدائرة الشمالية يعني انتكاسة على مستوى لبنان. الانتخابات مُعقَّدة وصعبة في الشمال الثالثة. ومصالح القوى، حتّى المتخاصمة، يتقاطع بعضها مع بعض. تلتقي القوات مع تيار المردة على فكرة عدم السماح لباسيل بتقوية نفوذه في الدائرة التي بقيت عصيّة عليه، ومحاولة قطع طريق بعبدا عليه باكراً. ومن مصلحة تيار المردة وباسيل، منع جعجع من تكريس نفسه «رجل المصالحات والمبادرات الإنقاذية»، وضربه في عقر داره الشمالي، بعد أن رُفعت الحيطان بوجهه في جبل لبنان. أما التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، فأحد أبرز أهداف تحالفهما احتكار «ساحتهما» الطائفية. الثلاثة ينمو في داخلهم حلم الرئاسة اللبنانية، حتى قبل انقضاء السنة الأولى من عهد الرئيس ميشال عون. ويريدون منذ الآن تحديد الأحجام، كما لو أنّ المجلس الذي سيُنتخب، سيختار رئيس الجمهورية المقبل. كلّ الأوراق، التي تُقرّب كلّ طرف إلى هدفه، تُرمى على طاولة اللاعبين. فقد علمت «الأخبار»، من مصادر قواتية بارزة، وجود تواصل مُستجدّ بين القوات والمردة، «يُشبه الحوار بيننا قبل الانتخابات الرئاسية»، مع ما يُحكى عن إعادة تفعيل عمل اللجنة المشتركة.
على أرض الشمال الثالثة، الوضع أعقد من وضع تصور أولي للنتائج، مع بدء عصر النسبيّة، واللوائح المقفلة التي تمنع التشطيب. ولكن، هناك سيناريوهات عديدة للخيارات المتاحة أمام الأحزاب على صعيد التحالفات. لكلّ احتمال حسناته ونقاط ضعفه، ويخضع لعامل إن كانت التحالفات ستُعقَد على مستوى وطني، أو أنّ القوى ستتعامل مع الانتخابات بالمفرّق، وفق خصوصية كلّ قضاء. فعلى سبيل المثال، هل سيتحالف الحزب القومي مع تيار المردة في الشمال الثالثة، ومع التيار الوطني الحر في المتن؟ أم ستكون تحالفاته واحدة على مستوى لبنان؟
القوات والتيار: تحالف… مش تحالف
في دائرة الشمال الثالثة تتقاسم المقاعد حالياً القوات (مقعدان في بشرّي، مقعد في الكورة، مقعد في البترون) مع تيار المردة (3 مقاعد في زغرتا)، وتيار المستقبل (مقعدان في الكورة)، ومقعد لبطرس حرب في البترون. تُقارن الأحزاب، لمعرفة قوتها، بين أرقام عام 2009، والانتخابات الفرعية في الكورة عام 2012، والانتخابات البلدية العام الماضي. ولدى معظمها، «نفخٌ» للقوة التجييرية. مثلاً، يقول مصدر قواتي من البترون إنّ القوات والتيار العوني ينطلقان من «60 ألف صوت في الأقضية الأربعة، مقابل 40 ألفاً لكل القوى الأخرى». قبل أن يؤكد بثقةٍ «الدائرة قواتية بامتياز». تردّ مصادر تيار المردة بأنّ هذه الأرقام «حسابات دعائية للإيحاء بأنهم أقوياء». ترفض الدخول في لعبة الأرقام، «ولكن الأكيد أن يتقدّم الفريق الآخر في بشرّي، في مقابل تقدّم كبير للمردة وحلفائه في زغرتا، أما الكورة والبترون فالنتائج ستكون متقاربة».
تبقى الأرقام عرضةً للتبدل باختلاف التحالفات، غير المحسومة. السؤال الأبرز، هل يقبل باسيل أن يكون جزءاً من لائحة ترأسها ستريدا جعجع، أو العكس؟ «هذا تفصيل تقني، ولكن رئيس أكبر حزب مسيحي لن يقبل أن يكون في لائحة يرأسها غيره»، بحسب المصدر العوني. وفيما يعتبر المعارضون لهما، أنّه «لا حلّ أمام باسيل إلا في التحالف مع القوات وميشال معوض»، «تشترط» مصادر القوات على «التيار ألا يكون له مرشحون في بشرّي وزغرتا، إن كان متحالفاً معنا». الأمر الذي لا يوافق عليه المصدر العوني: «سيكون لنا مُرشح حزبي أو صديق في كلّ دائرة فيها هيئة حزبية. القانون النسبي يدفعنا إلى دراسة إن كان من مصلحتنا التحالف مع القوات». الخيار أمام التيار حينها يكون تشكيل لائحة منفرداً، «فيما الأرجح أن تكون القوات متحالفة مع معوض. علماً بأنّ لدينا معلومات عن أنّ فرنجية قدّم عرضاً انتخابياً لمعوض». هذه المعلومة تنفيها مصادر المردة، مؤكدة انقطاع التنسيق مع معوض.
تحالف مكاري مع القوات سيكون مرتبطاً بقرار «المستقبل». والأخير بات متفاهماً مع الجميع: القوات، والتيار الوطني الحر، والمردة. وكل منهم ينتظر منه أصواته. ولتفادي «الإحراج» في إرضاء حلفائه، لدى «المستقبل» خيار تأليف لائحة مستقلة عنهم. فبحسب أحد الخبراء الانتخابيين «أحد الخيارات أمام المستقبل سيكون تشكيل لائحة، ليس بالضرورة أن تكون مكتملة، يرأسها مكاري (أو من يرشّحه إذا بقي مصرّاً على عدم الترشح) من الكورة، وتضم مرشحاً في كل قضاء، كجورج بكاسيني من البترون. وإذا بلغت نسبة الاقتراع لدى السنّة 60%، وحصل المستقبل على 50% فقط من أصواتهم، فلن يكون بحاجة إلى أكثر من 6000 صوت مسيحي لضمان مقعد».
المردة: طوني هو المرشح
على الضفة الأخرى، القوة الأساسية هي تيار المردة، التي حسمت القرار بأنّ «طوني فرنجية هو المرشح». تعتبر مصادر المردة أنّ «الحزب القومي حليفنا. ومن المفترض أن تتطور العلاقة الشخصية مع بطرس حرب إلى تحالف انتخابي»، الأمر الذي يؤكده الأخير أيضاً. الأرجح أن يكون هذا هو الحلف القائم، يُضاف إليه النائب السابق جبران طوق «الصديق» في بشرّي. يُصرّ طوق «على صداقتنا مع سليمان بيك». في ظلّ ما يُحكى عن تحالف بين التيار والقوات «أكيد أنني سأكون حينئذ في اللائحة الأخرى (المردة والقومي)، عبر ترشيح ويليام طوق» (ابنه). ولكنه يُعول على انفضاض العقد بين الحليفين الجديدين «ونحاول إعادة إحياء حلفٍ بيننا وبين المردة والعونيين». تحالف التيار العوني أو المردة مع طوق، لا يتعلّق بأصواته في بشري حصراً، ولا بـ«الصداقة». هو خيار يمتدّ من الشمال إلى زحلة، ويؤدي إلى تحالف العونيين، أو المردة، مع رئيسة الكتلة الشعبية ميريام سكاف، وضمان التحالف مع نائبين محتملين في عاصمة البقاع.
أمام تحالف المردة ــ حرب ــ القومي ــ طوق، فرصة لكسب أصوات الكتائبيين في هذه الدائرة. لكن موقف الكتائب «الإيديولوجي» من القوميين قد يحول دون ذلك. «لم ندرس مصلحتنا بعد»، يقول النائب سامر سعادة، الذي سيترشح في البترون، بدلاً من طرابلس التي فاز نائباً عنها عام 2009 بأصوات تيار المستقبل. لحرب رأي بأنه كما تجاوز فرنجية مشكلته مع القوات، «مُمكن في ظرف سياسي مُعين تجاوز مشكلة القومي والكتائب». مع التذكير بأنّ سعادة، البتروني، هو ابن جورج سعادة، الرئيس الأسبق للكتائب الذي ترشّح للانتخابات عام 1996 على لائحة تحالف الرئيس الراحل عمر كرامي وفرنجية، وكانت تضم مرشحاً قومياً. ولكن بحسب مصادر مركزية في الكتائب «الأكيد أننا لن نكون في لائحة تضم القومي. يجري البحث في أن تتشكل لائحة المستقلين والمجتمع المدني والكتائب». أدوات هذه اللائحة جاهزة من قوى يسارية في البترون والكورة، و«المجتمع المدني» في كل من زغرتا وبشري. قبل الانتخابات البلدية، كان يُمكن الاستخفاف بـ«المجتمع المدني»، ولكنه اليوم، إذا قرّر توحيد «قواه»، بات بإمكانه أن يُشكل خطراً حقيقياً لقوى السلطة، وأن يحجز مقعداً له في الدائرة.
فرنجية ـ باسيل: مَن الأقوى؟
يُقدّم كلّ فريق من القوى السياسية توقعات عديدة لتشكيل اللوائح. موازين القوى متقاربة لدرجة أنّ أي مُرشح لديه 1000 صوت قد يُفيد لائحته في كسب مقعدٍ. يصحّ وصف المعركة في الشمال الثالثة بأنها من الأكثر صعوبة، والأهم سياسياً. رغم أنّه حتى الخبراء الانتخابيون لا يستطيعون توقع النتائج. قد يكون الأكثر وضوحاً أنّ سليمان فرنجية، رغم كتلته الشعبية الكبيرة، سيخسر مقعداً في زغرتا لمصلحة ميشال معوض. والتيار الوطني الحر، الذي لم يسبق أن فاز بمقعدٍ في أقضية الدائرة، سيحصل على مقعد على الأقل. والأكيد أنّ القوات لن تتمكن بعد اليوم من الحصول على المقاعد الأربعة، من دون التحالف مع قوى أخرى.
دائرة الشمال هي الأكبر من حيث عدد الناخبين الموارنة (162 ألف ناخب مُسجل، وتليها دائرة كسروان ــ جبيل بـ132 ألف ناخب). من هنا يُفهم سعي الكتل الثلاث الأساسية (التيار، القوات، المردة) إلى ضمان زعامتها. ستلعب الدائرة دوراً في الانتخابات الرئاسية المقبلة (ولو معنوياً، لكون ظروف إقليمية ومحلية عدّة تتحكم في هوية الرئيس)، في حال تمكُّن أحد الثلاثة من الحصول على أكثرية المقاعد. مثلاً، فرنجية بتحالفه مع القومي وبطرس حرب، وويليام جبران طوق يحصل على مقعدين في زغرتا، واحد في البترون، واحد في الكورة، واحد في بشرّي (هناك احتمال كبير لأن تخسره القوات اللبنانية، وهي التي طالبت بعدم حصر الصوت التفضيلي في القضاء حتى تحاول ضمان مقعدَي القضاء). هذا التحالف يكون مدعوماً من «كتلة سنية» تتعاطف مع حفيد الرئيس فرنجية، بصرف النظر عن موقف تيار المستقبل (حصل فرنجية على 34% من المقترعين السنّة، في الـ2009، رغم وجود معركة سياسية حادة). فوز التحالف بـ5 مقاعد، يعني أن فرنجية الذي ترأس اللائحة التي نالت أكبر عدد من المقاعد في الدائرة المسيحية الأكبر، لديه دفع معنوي كبير للمرحلة المقبلة. وإذا كانت النتيجة مُخيبة لآماله، وفاز بمقعدين في زغرتا فقط، سيتعامل خصومه معه، وفق منطق «حدودك زغرتا ــ الزاوية». السيناريو نفسه ينطبق على باسيل. لديه فرصة ليحصل على عدد كافٍ من المقاعد، خاصة إذا كانت هناك لائحة خاصة بالتيار العوني، فيقول: «أنا الأقوى». في حين أنّ فوزه فقط بمقعد البترون، مُجدداً في أكبر دائرة مسيحية، سيُسهل الهجوم السياسي عليه.
«الصوت الشيعي»
أمام حزب الله، في الأشهر المقبلة، مهمة إعادة وصل ما انقطع بين التيار الوطني الحر وتيار المردة. وفي حال فشل مساعيه، وهو المُرجح، لن يكون موقفه في الشمال الثالثة أقلّ إحراجاً من موقف تيار المستقبل.
تُسقط القوى السياسية أهمية الصوت الشيعي في هذه الدائرة من حساباتها. كان ذلك يصح أيام الاقتراع الأكثري. ولكن مع النسبية، وتبدل التحالفات، والتناقضات في المنطقة، تكتسب الأصوات الشيعية أهمية كبيرة، لسببين:
1ــ الكتلة الشيعية متراصة للغاية
2ــ بلغت نسبة الاقتراع الشيعية في البترون، عام 2009، 73.9%، وفي الكورة بلغت 68%. حالياً يبلغ عدد الناخبين الشيعة في الكورة 1202، و1034 في البترون. إذا كانوا «بلوكاً» واحداً، كما يريد سليمان فرنجية وجبران باسيل، فسيُساهمون في تأمين مقعد لإحدى اللوائح.
لا يلغي ذلك أنّ الإحراج الذي يتعرض له حزب الله، بوجود حليفين رئيسيين له، هو أكبر من إحراج تيار المستقبل مع حلفائه. لم تقم قيادة حارة حريك بعد بحساباتها الانتخابية، وقد يكون توزيع الأصوات بين التيار والمردة، واحداً من الخيارات أمامها.