IMLebanon

خيوط اللعبة | الأوروبيون يباشرون تعـديل سياستهم حيال الأسد

بعد التخلي الأميركي عن فكرة تنحي الرئيس السوري بشار الاسد وتعزيز التنسيق الأمني مع الجيش السوري ضد «داعش»، يبدو أن الأوروبيين بدأوا منذ فترة سلسلة اجتماعات لتغيير سياستهم السورية. ووفق معلومات خاصة لـ»الأخبار»، لم يتردد بعض كبار المسؤولين الاوروبيين في القول في الاجتماع الاخير لمجلس وزراء خارجية الاتحاد «إن هذه السياسة كانت خاطئة». لا بد إذاً من تغييرها، ولتكن مبادرة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا هي الواجهة. فهل سنشهد قريباً إشارات إيجابية حيال النظام السوري ومزيداً من التجاهل للمعارضة الخارجية؟

سامي كليب

جنيف | روى مسؤول أوروبي لـ»الأخبار» وقائع اللقاء المهم الذي جمع، في 11 الجاري، المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا ووزراء خارجية الاتحاد الاوروبي، وأكد أن ثمة بداية لتعديل الموقف حيال سورية. وأوضح أن الاجتماع كان مغلقاً على غرار كل الاجتماعات التي ينوي فيها الاوروبيون بحث قضية حساسة. وقد بدأ المبعوث الدولي بشرح الوضع السوري والاطار الاقليمي والدولي المحيط بخطته التي يفترض أن تنفذ خلال 3 أشهر «وإلا فإنها تفقد قدرتها على التنفيذ».

وهذا اختصار ما قاله دي ميستورا ومواقف الاوروبيين حياله:

■ إن خطة تجميد القتال في حلب هي الوحيدة المتاحة حالياً، ولا يوجد أي أمل في غيرها، ولذلك لا بد للاتحاد الاوروبي من أن يدعمها عملياً وليس لفظياً. وهي وحدها القادرة على تجميد القتال وتأمين احتياجات الناس وإعادة النازحين الذين يثقلون كاهل المناطق والدول المجاورة، وهي تسمح لاحقاً بالمباشرة في إعادة الاعمار.

■ ان الرئيس الاسد الذي يبدي كل الاستعداد لإنجاح الخطة الدولية في حلب، هو الذي أقنع الرئيس فلاديمير بوتين بهذه الخطة، وهو أيضاً من ساهم الى حد كبير في إقناع حلفائه الايرانيين بها. هذا كان ضرورياً جداً، ذلك أن موسكو كانت متردّدة جداً لاعتقادها بأنه لا يمكن الثقة بأي مسعى أميركي ــ أطلسي حالياً، ويمكن أن تنزلق الخطة، بالتالي، الى ما لا تحمد عقباه بالنسبة اليها وإلى حلفائها.

■ رغم أن الاميركيين تحفظوا على الخطة وشككوا فيها بداية، باتوا الآن أكثر مرونة، وربطوا موافقتهم عليها بقبولٍ من قبل بعض حلفائهم الاقليميين، وهم يعنون طبعاً، وبالدرجة الاولى، السعودية. وأنا في جميع الاحوال ذاهب الى الرياض لإقناع المسؤولين السعوديين بجدوى الخطة. وفي حال الحصول على موافقة مبدئية منهم فسأستكمل الجهود في دمشق لاحقاً لكي نباشر في أسرع وقت ممكن، لأن الزمن يضيق بنا.

من الناحية النظرية، يدعم الاوروبيون كل ما قاله دي ميستورا. هم يرون أنه منذ استقالة الاخضر الابراهيمي كان لا بد من الحفاظ على مساع سياسية بين النظام والمعارضة، أولاً لكي لا يتفرّد النظام بالحسم متذرعاً بأن لا مساعي سياسية حالياً. وثانياً لإعطاء الانطباع للمعارضة التي تزداد تفككاً وتبادُلَ اتهامات بأن الغرب الاطلسي لا يزال يدعمها. وثالثاً لأن لا مجال لأي تفكير آخر حالياً في غير دي ميستورا بسبب التأزم الكبير في العلاقات الاميركية ــ الروسية على ضوء أوكرانيا. وهذا التأزم يدفع الاوروبيين الى الاعتقاد بأن موسكو باتت أكثر صلابة في دعم الاسد، وبالتالي لا يوجد باب أمل بالضغط على النظام السوري إلا من خلال حليفه الايراني. وهذا أيضاً تطور مهم في بروكسيل.

هنا، التذكير ضروري بأن الابراهيمي كان قد قال مرة للأوروبيين ما ردده في أكثر من مكان ومناسبة بأن استقالته «ستريح شخصين: الأسد ووزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل»، إذ إن علاقته الشخصية بكل منهما كانت أكثر من سيئة. وكان غالباً ما يتحدث عن «حقد شخصي من الامير سعود الفيصل على الاسد يعرقل الحل». ومعروف كذلك أن الاسد كان، منذ اللقاء الاول بالابراهيمي، قد شكك في نياته، خصوصاً حين طرح المبعوث الدولي الجزائري الجنسية فكرة التنحّي، وكان ينوي لقاء نائب الرئيس فاروق الشرع قبل أن يمنعه الأسد، معتبراً أنه لا يجوز ذلك في زيارة رسمية. اكتفى الابراهيمي، آنذاك، باتصال هاتفي. بعد فترة، تم إبعاد الشرع عن السلطة.

■ تبقى تركيا، بالنسبة إلى الأوروبيين، مشكلة فعلية. يتحدث بعض المسؤولين عن عدم القدرة على توقع ما يمكن أن تقوم به أنقرة من مغامرات. ويرى آخرون أن تركيا لا تزال شبه الوحيدة حالياً التي تسهل تمرير مقاتلين أجانب الى سورية، وأنها لم تحسم أمرها فعلياً حيال محاربة «داعش»، وتعمل على ابتزاز الأسرة الدولية في موقفها. هنا طرح الاوروبيون احتمالين، فإما الضغط على تركيا الذي قد يصل الى مرحلة التحذير، وهذا في رأي بعضهم لا ينفع لأنه قد يزيد الرئيس رجب طيب أردوغان تصلباً وارتماءً في أحضان روسيا وإيران، أو محاولة استيعاب تركيا والاقتراب أكثر منها ودفعها إلى الالتزام أكثر بالقرار الدولي في محاربة «داعش» ووقف تدفّق المقاتلين الاجانب. ولكن، في الحالتين، يبقى الموقف التركي مقلقاً لأوروبا.

■ إن إيران باتت دولة محورية في الازمتين السورية والعراقية. لا بد من التعامل مع هذا الواقع مهما كانت تحفظات البعض. ولا مانع من الانخراط معها في كلام جدي حول سورية، حتى قبل توقيع الاتفاق النووي. هذا يفيد أولاً في الحصول على تنازلات سياسية من النظام السوري، ولكنه في خلفية التفكير الاوروبي يعزّز حضور الشركات الاوروبية على الاراضي الايرانية. لعل هذا بات حاجة ملحّة للاوروبيين، رغم التحفظات الفرنسية التي يمكن فهمها من خلال علاقة باريس بالرياض، وحرص فرنسا على عدم إغضاب اسرائيل.

■ لا يمكن التفكير في حل جدي أو في حلول مؤقتة في سورية من دون السعودية التي لها علاقات واسعة مع عدد من أطراف الصراع المناهضة للأسد. من المهم طمأنة الرياض الى أن مساعي أوروبا لا تهدف الى إعادة تعويم النظام. وقد شرح دي ميستورا أن أجواء السعودية مرحّبة ضمنياً بمبادرته، بينما كان وزير خارجية إسبانيا أكثر وضوحاً بالقول إن الرياض موافقة فعلاً على الخطة، وإن من مصلحة فرنسا أن تخفف من اندفاعها في انتقاد الخطة لأنها ستبدو أكثر تطرفاً من السعودية، وهذا غير مفهوم. لا بل إن الوزير الاسباني ذهب أبعد من ذلك الى حدّ اقتراح مؤتمر دولي لسورية في بلاده، نظراً إلى أنها قد تكون مقبولة من الجميع.

■ إن روسيا تبقى العقبة الاساس أمام أي حل لا يرضيها ويرضي النظام. وبما أن العلاقة الاميركية والاوروبية سيئة معها حالياً بسبب أوكرانيا، فمن المهم البحث عن مخارج لفصل الحديث بشأن سورية عن الموقف حيالها بسبب أوكرانيا. بعض المسؤولين الاوروبيين يعتزمون إعادة تعزيز الحوار مع موسكو لأنه «لا يجوز العودة الى منطق الحرب الباردة»، ربما ستكون زيارة للممثلة العليا للسياسة الخارجية الاوروبية السيدة فيديريكا موغريني قريباً. ثم إن موسكو ناشطة وجادة في الحل السياسي، وربما بقاء الاوروبيين بعيدين عنها يعني إقصاءهم أميركياً وروسياً.

الأوروبيون مع الأسد وضده

بعدما ناقش دي ميستورا مع الوزراء الاوروبيين هذه النقاط وتحدث عن اتصالاته الاخيرة وعن الأمل الذي تحييه مبادرته في قلوب أبناء الشعب السوري، ظهرت مواقف متناقضة، ولكن مهمة، بين الاوروبيين حيال مستقبل العلاقة مع الاسد، يمكن تلخيصها على النحو الآتي:

أولاً: الجميع موافقون على خطة دي مستورا… ولكن.

هم يريدون دعمها على أساس أنها الوحيدة المتاحة حالياً في انتظار ما ستستفر عنه تحركات موسكو حيال جمع المعارضة ووفد الدولة السورية على أراضيها. لكن فرنسا ذات العلاقات التجارية القوية حالياً مع السعودية، وبريطانيا المتقدمة على غيرها من الاوروبيين في التواصل مع إيران، شدّدتا على ضرورة ألا تكون الخطة داعمة للجيش السوري وضد المعارضة المعتدلة في حلب، بمعنى أنه لا يجوز أن يصل الامر الى تصوير الامر وكأنه وقوف الى جانب الجيش ضد «داعش»، ذلك أن في حلب ومحيطها مسلحين تابعين للمعارضة المعتدلة ولا بد من أخذهم في الاعتبار ودعمهم، «لكي لا نظهر وكأننا نوازي بين طرفي النظام والمعارضة وأننا على مسافة واحدة منهما».

وكان وزير الخارجية الفرنسي الأكثر تشدداً، رغم أن أصواتاً في الادارة الفرنسية الحالية تشير الى ضرورة انتهاج خط جديد حيال سورية، خصوصاً بعد أن صار الارهاب يضرب الاراضي الفرنسية. قال لوران فابيوس «لا نريد أن يحصل في حلب ما حصل في حمص سابقاً» حيث كان وقف القتال هناك لمصلحة النظام فقط ولم يكن متوازناً، فالمسلحون خرجوا بعد أن سلموا أسلحتهم للدولة وتم نقلهم بباصات حكومية الى مناطق سكنهم.

وهنا يروي مسؤول أوروبي له صلات مع المعارضة السورية أن «خروج المسلحين آنذاك كان مهزلة لهم. تخيّلوا مثلاً أن مفتي الجمهورية الشيخ أحمد بدر الدين حسون، الموالي للنظام، جاء الى باصات نقل المسلحين يمازحهم ويسألهم أليس من الافضل لهم أن يتزوجوا وهم في عزّ شبابهم بدلاً من أن يقتلوا على جبهات القتال؟ وتم إعطاؤهم هواتف نقالة للتخاطب مع عائلاتهم وتثبيط عزائمهم، فكانت النتيجة أن الصورة الاعلامية والواقع على الارض صبَّا في مصلحة النظام».

بدا الوزير الفرنسي صارماً في تشديده على أنه «يجب ألا يستفيد النظام من هذه الخطة، بمعنى أن نريحه من جبهة حلب فيتوجه الى جبهات أخرى في مناطق ثانية». كان فابيوس يقول ذلك، فيما وصلت معلومات الى الاتحاد الاوروبي تشير الى احتمال شن الجيشين السوري والعراقي عملية عسكرية واسعة ومشتركة في دير الزور.

ثانياً: العلاقة الاوروبية مع الاسد ممكنة… ولكن.

يتضح من خلال نقاشات وزراء الخارجية والمفوضين في الاتحاد الاوروبي أن ثمة ضياعاً فعلياً حيال كيفية التعامل مع سورية. يقول مثلاً مسؤول أوروبي في جنيف إن عدداً من نظرائه الاوروبيين بدأوا بالفعل يتحدثون عن فشل السياسة التي اتُّبعت حتى الآن وعن «الخطأ غير المحسوب» في طرح مسألة تنحّي الرئيس بشار الأسد باكراً.

يكيل بعض الاوروبيين اللوم على خطأ تقديراتهم، وبعضهم الآخر يرى أن الوثوق بالاميركيين منذ الأساس كان خطأً، ذلك أن واشنطن، وعلى جري عادتها، تقدم مصالحها على كل تحالفاتها، وغالباً ما تضع الاوروبيين في نوع كهذا من الاحراج. بينما يرى البعض الثالث أن سوء تقدير قدرات الجيش السوري وحلفائه كان المصيبة الأكبر.

انطلاقاً من ذلك، يبحث مسؤولو الاتحاد الاوروبي حالياً عن كيفية «تعديل» السقف السياسي المعمول به منذ أكثر من 3 سنوات في سورية. من مؤشرات هذا التعديل التخلي عن نغمة «تنحي الاسد»، وإيجاد عبارات أكثر واقعية، منها مثلاً ما صار يتردد بين فينة وأخرى من «أن الأسد ليس حلاً نهائياً للأزمة» أو «أن الأسد لن يبقى في نهاية الحل السياسي» أو «أن من الطبيعي أن يؤدي الحل السياسي في نهاية الامر الى نقل صلاحيات من الرئاسة، وليس كل الصلاحيات» وفق جنيف 1. ومن مؤشراته أيضاً التخلي عن عبارة «المباشرة بعملية انتقالية الآن» واستبدالها بعبارة مقبولة من الجميع مفادها «الدعوة الى البدء بعملية انتقالية».

ويبدو أن السيدة موغريني قد نجحت، الى حدّ ما، في تمرير وجهة نظر تقول «نحن متفقون على النتيجة النهائية، ولكن الواقعية السياسية وتطورات الاوضاع تفرض علينا أن نعدّل مسارنا وأن نستخدم عبارات جديدة». بمعنى آخر، حتى ولو أن الجميع في أوروبا كانوا يريدون تنحّي الرئيس الاسد، إلا أن الواقعية تفترض الآن التفكير في أن هذا غير ممكن الآن، وأن تشجيع الحل السياسي قد يؤدي اليه لاحقاً، أي إن هذا الامر ما عاد أولوية أوروبية.

مجلس الأمن في حلب؟

على ضوء هذه النقاشات المهمة المتجهة صوب «تعديل» الموقف الاوروبي حيال النظام السوري، يبقى السؤال الأهم في الاتحاد عن كيفية إنجاح خطة حلب، وكيف يمكن الخروج من هذا الامر من دون إبراز الاسد كمنتصر، خصوصاً أن الجيش السوري تقدم على نحو لافت في حلب مؤخراً؟

الاتجاه الطاغي هو نحو إيجاد آلية مراقبة من قبل مجلس الامن. يدرك الاوروبيون أن هذا مستحيل نظراً إلى الفيتو المزدوج الروسي الصيني الجاهز دائماً لحماية سورية. لذلك، وخلافاً لموقفي فرنسا وبريطانيا اللتين تشددان على قوة دولية من مجلس الامن، فإن الاتحاد بات أكثر ميلاً الى إيجاد صيغة دبلوماسية تقول «إن آلية المراقبة مرتبطة بمجلس الامن».

كل هذا سيصدر قريباً في ما يسمى حالياً «استراتيجية الاتحاد الاوروبي حول سورية والعراق ومكافحة داعش».

أما بالنسبة الى المعارضة السورية، وتحديداً «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية» الذي احتكر طويلاً تمثيل المعارضة بدعم دولي، فيبدو أن اليأس منه دبّ أيضاً بين دول الاتحاد الاوروبي بعد أميركا، وصار الاوروبيون أكثر ميلاً، هم أيضاً، الى توسيع دائرة المعارضة لتشمل من لم يكونوا مقبولين سابقاً والتخفيف من وطأة الإخوان المسلمين.

اللافت، مثلاً، أنه حين كان رئيس الائتلاف هادي البحرة يزور الاتحاد الاوروبي في بروكسل قبل أيام، كان ممثلون من الائتلاف يتصلون بالاوروبيين للقول إن البحرة ما عاد يمثلهم. ويقول مسؤول أوروبي ممازحاً: «كلما بدأنا نقاشاً مع مسؤول من الائتلاف نكتشف أن هذا الائتلاف أجرى انتخابات جديدة وغيَّر المسؤول، فنعود لنبدأ من نقطة الصفر، وكلما اجتمعنا مع مسؤول منهم يكرر علينا السؤال نفسه: كيف ستمنعون استفادة النظام من الخطة التي تطرحونها؟ بينما نلاحظ منذ فترة أن أطرافاً في الائتلاف صارت قابلة بمحاورة النظام والاتفاق السياسي معه حتى ولو كان هدفها هي الأخرى تنحّي الأسد في نهاية المطاف، وهذا شأن السيد معاذ الخطيب وفريقه مثلاً، ومشكلة الائتلاف أنه لا يعرف معنى الواقعية السياسية ويستمر في انشقاقاته وتتقاذفه تحالفات خارجية متصادمة».

على ضوء كل ما تقدم، هل بدأ الاتحاد الأوروبي يغيّر موقفه حيال الأسد؟ ربما كل من فيه لا يزال يؤيد رحيل الرئيس السوري. لكن الواقعية تفرض تغيير السلوك والنهج وعدم التمسك بهذا الرحيل كأولوية. وهذا ما سيظهر أكثر في المرحلة المقبلة، بعدما تعددت الاعتداءات الارهابية على الاراضي الاوروبية، ولم يعد من وسيلة سوى التعاون مع الامن والجيش السوريين ومع إيران في سياق محاربة الارهاب.

أما بالنسبة إلى خطة دي ميستورا في حلب، فهي حالياً في سباق محموم بين الحسم العسكري وترتيبات أمنية لا يمكن أن تتم من دون موافقة النظام، وربما لمصلحته.

مرة جديدة يكرر التاريخ المقولة نفسها: «المصالح الدولية أهم من المبادئ ومآسي الشعوب».