نسفت مقابلة الرئيس سعد الحريري أمس، محاولات التعمية على إقامته الجبرية في السعودية واحتجاز حريّته. إلّا أن مواقف الحريري أتت في سقف أدنى بكثير من ذلك الذي ظهر في بيان استقالته، ممّا يشير إلى توجه سعودي بالتزام التسوية بعد تعديل شروطها، بعدما فشلت المرحلة الاولى من الانقلاب السعودي في تحقيق غايتها
لم ينجح معدّو مقابلة الرئيس سعد الحريري على شاشة تلفزيون المستقبل، أمس، في تبديد انطباعات اللبنانيين التي تكوّنت منذ تقديم استقالته، عن كون رئيس حكومتهم مسلوب الإرادة في إقامته في المملكة العربية السعودية. لا شكلاً ولا مضموناً، تمكّن الحريري ومن يقف خلف المقابلة في إزالة هذا اللّبس، أو التخفيف من وطأته، بل على العكس، رسّخ التعب والقلق، اللذين ظهرا على وجهه وصوته، نظريّة إقامته الجبرية في مملكة القهر السعودية.
وعدا عن ترتيبات المقابلة المفاجئة والسريّة التي أحيطت بها بدايةً، وعدم معرفة المحاوِرة الزميلة بولا يعقوبيان، بموعد المقابلة الدقيق حتى وصولها إلى الرّياض، وعدم معرفتها إن كانت المقابلة ستبثّ مباشرةً على الهواء أو سيتمّ عرضها لاحقاً بعد تسجيلها، كان كافياً أن يظهر رجلٌ في خلفيّة «الكادر» يرفع ورقةً للحريري، فيشيح رئيس الحكومة بنظره عن الشاشة، حتّى تزيد شكوك المتابعين بأن إحاطة الأمن السعودي للحريري في خطواته أكثر من حقيقة.
ويمكن القول من خلاصة المقابلة إن من خطّط لهذه الاستقالة، منتظراً مفاعيل مختلفة عن تلك التي ظهرت على الساحة اللبنانية، اضطّر تحت وطأة الفشل إلى أن يخفض من سقف مواقفه، وهو ما ظهر على لسان الحريري أمس.
أوّلاً، لم ينجح مهندسو الاستقالة في إحداث شرخ سريع على الساحة اللبنانية، إن على المستوى السياسي بين القوى أو على مستوى الشارع، على عكس التوقّعات بحدوث صدامات وهبّة مؤيدة للسعودية في بيئة تيّار المستقبل.
ثانياً، نجح مثلّث عون ــ الرئيس نبيه بري ــ قيادات المستقبل البارزة وعائلة الحريري في التماسك الكلّي، ونقل المعركة إلى المحافل الدوليّة والدبلوماسية، ما سبب حرجاً كبيراً للسعوديين.
ثالثاً، لم ينجرّ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله إلى خطاب التصعيد السعودي، بل ظهر في إطلالتين متتاليتين بكثيرٍ من الهدوء والتروّي والاحتضان لعائلة الحريري وتيار المستقبل، رامياً الكرة في ملعب التصعيديين.
رابعاً، ظهر لمعدّي استقالة الحريري ضعف الفريق المحسوب بالكامل عليهم وعجزه عن تحريك الشارع اللبناني، إن كان في الشمال، حيث يلعب اللواء المتقاعد أشرف ريفي، أو في الساحة المسيحية حيث نفوذ حزب القوات اللبنانية، الذي ظهر عاجزاً أمام تمسّك هذا الشارع شبه الكامل بخيارات رئيس الجمهورية وإجماع القيادات الرسمية خلف توجّهات عون وقيادته للمواجهة الدبلوماسية والشعبية.
وحتى مساء أمس، كان رئيس الجمهورية لا يزال متمسّكاً بموقفه، ومعه برّي ومعظم القيادات السياسيّة، في اعتبار ما يصدر عن الحريري من مقرّ إقامته الجبرية، «موضع شكّ والتباس ولا يمكن الركون إليه أو اعتباره مواقف صادرة بملء إرادة رئيس الحكومة». وظهر هذا الموقف المشترك بين عون وبرّي، بإعلان قناة «أن بي أن» عدم نقلها مقابلة الحريري، بناءً على ما عبّر عنه رئيس الجمهورية. وعكست شاشات التلفزة اللبنانية موقفاً متماسكاً انسجاماً مع موقف عون وبري، حيث امتنعت كل الشاشات الأرضية عن نقل المقابلة، باستثناء قناتي المستقبل و«أم تي في»، الأولى لأنها ملك تيار المستقبل و«رهينة» مثل الحريري لدى السعودية، والثانية لأنها «مرتهنة»، وتبغي تحقيق الرضى السعودي (وما ينجم عنه من أموال) مقابل هذه المواقف، خلافاً لشبه الإجماع اللبناني الرسمي والشعبي.
وبدا لافتاً في اليومين الماضيين موقفان، الأول صدر عن المتحدثة باسم البيت الأبيض هيذير نويرت، التي ارتبكت أثناء إجابتها عن أسئلة الصحافيين إن كان الحريري محتجزاً في السعودية، والثاني صدر عن الخارجية البريطانية، وأمل أن «يعود الحريري إلى بيروت من أجل الاستقرار السياسي ولا ينبغي استخدام لبنان كأداة للصراعات بالوكالة». أما نويرت، في ردّها على سؤال، فقد رفضت أن تشير إلى مكان وجوده أو إلى مكان لقائه القائم بالأعمال الأميركي في السعودية، كما أنها لم تجب إن كان باستطاعة الحريري العودة إلى بيروت أو لا. إلا أن موقف البيت الأبيض، كرّر ما قاله وزير الخارجية الأميركي تيلرسون قبل أيام، خلافاً لما يحكى عن اختلاف في وجهات النظر بين الخارجية وإدارة دونالد ترامب، مؤكّداً أن «الحريري شريك موثوق ونرفض تهديد سيادة لبنان».
الحريري
وكان لافتا أن مضمون المقابلة ومواقف الحريري الهادئة، لا تقارن بتلك التي صدرت في بيان استقالته، من حيث تحميل مسؤولية عدم استقرار المنطقة لإيران وحزب الله، وتهديد حزب الله وإيران بالويل والثبور، بل ظهر الحريري كمن لعب ورقةً خطرة، بهدف تحسين شروط التسوية لا أكثر، من خلال فتحه باب الحلّ في أكثر من ثغرة خلال المقابلة، وتأكيده تعليق التسوية الرئاسيّة إلى حين عودة الطرف الآخر عن خروجه عنها، بما سماه العلاقة مع النّظام السوري. كذلك الأمر، بالنسبة إلى استقالته، إذ اعترف بأن الاستقالة ناقصة دستوريّاً، وأنه مطالب بلقاء رئيس الجمهورية ميشال عون لتقديمها رسميّاً، ووضع الرئيس في ظروفها.
وبدأ الحريري مقابلته بالتأكيد على أن ما يهمّه هو «مصلحة لبنان» وأن استقالته لمصلحة لبنان «بعدما رأى ما يحصل في المنطقة».
وركّز الحريري على ما سمّاه تدخّل حزب الله في اليمن، مصوّراً الأمر على أنه السبب الذي دفع السعودية إلى التصعيد ودفعه إلى تقديم استقالته. وردّاً على سؤال حول ما إذا كان محتجزاً أو في الإقامة الجبرية، تحدّث الحريري عن الملك السعودي وعن وليّ العهد محمد بن سلمان بودّ، مشيراً إلى أن وضعه الأمني مهدّد، وهناك «معطيات اكتشفتها هنا، ومنها أننا ذاهبون الى مكان وعلينا إنقاذ البلد. أنا لا يهمني إذا متّ، ولكن يهمني البلد، مهمتي الأساسية الحفاظ على البلد»، لكنّه أشار إلى سوريا لناحية تهديده الأمن، محيّداً حزب الله، قائلاً «ما زلت مهدداً من النظام السوري، وهناك خروقات حولي في مجال الأمن. وعندما أعود سأعمل على دراسة تأمين أمني بالتنسيق مع الجيش وقوى الأمن».
وقال إنه فخور بالعلاقة مع عون، و«عندما أعود الى لبنان سأتحاور معه في كل الأمور، وعلينا تصويب الأمور سوياً مع فخامة الرئيس في ما يتعلق بالنأي بالنفس». وأعلن الحريري أكثر من مرّة أنه سيعود الى لبنان قريباً، خلال يومين أو ثلاثة، ليؤكد على استقالته، إلّا أنه أكّد «الدخول بالحوار مع كل الأطراف على أساس النأي بالنفس، وعلى أساس الحوار الإيجابي والعلاقات الإيجابية مع كل العرب»، مشيراً إلى أن «المطلوب حوار حوله (سلاح حزب الله)، ويجب أن يكون حول جوانب إقليمية، ولكنني أقول إن حزب الله ليس شأناً لبنانياً فقط، وإنما إقليمي، لذلك أنا أشدد على مسألة الحوار». ورفض الحريري الكشف عن بعض «الأسرار» إلى حين عودته إلى لبنان والتحدث بها مع عون