لا يتغيّر سلوك المستعمر رغم مرور مئة عام. صحيح أن قدرة المقاومة تغيّرت، لكن المعركة بالنسبة إلى العدو، ومن ورائه بريطانيا سابقاً والولايات المتحدة حالياً، لا تزال مستمرة، بالقدر نفسه التي ترى المقاومة أنها مستمرة. قرار دونالد ترامب أمس جاء تظهيراً لمسار تسووي يُنهي القضية الفلسطينية تعاون على بلورته مع «أشقاء عرب». هؤلاء يستعجلون «صفقة القرن». باتت فلسطين قِبلتهم لكن من الزاوية الإسرائيلية. «مَنح» القدس في «هبة» أو «هدية» من القوة العظمى عالمياً لدولة الاحتلال لن يغيّر من حقيقة الأشياء أو الأسماء: القدس لأهلها والمقاومة لم تمت
من كان مفاجأً بالقرار الأميركي، المعلن «حرفياً» أمس والمتخذ فعلياً منذ مدة، يحاول أن يرى المشهد بعين واحدة. فسياق الأحداث الأخيرة، بما فيها الدور العربي التمهيدي (خليجياً ومصرياً وأردنياً)، كله يقود إلى نتائج أكبر من إعلان الولايات المتحدة القدس «عاصمة لإسرائيل» ونقل سفارتها إلى المدينة المحتلة، والحديث هنا عن «صفقة القرن»… بأي صيغة كانت.
لكن وللدقة: إنها أول مرة تُرسم فيها حدود الحل عملياً قبل طرحه نظرياً والدخول في متاهة المسوّدات والشروط المتغيرة وتأجيل المفاوضات… لتبدأ طريقة دونالد ترامب «التجارية والرخيصة» في الحل: هذا ما لدي، خذوه أو لا تأخذوه!
كان ترامب صادقاً للحظة في خطابه المدروس جيداً أمس، أولاً عندما قال إن هذا القرار ليس إلا تعبيراً عن «حقيقة واضحة منذ سنوات: القدس مركز للديانة اليهودية والمدينة مقر الحكومة الإسرائيلية»، وثانياً بأن إعلان القدس «عاصمة لإسرائيل» ليس قراره، بل قرار بلاده منذ عشرين عاماً، وأقره الرؤساء الذين قبله، لكنهم كانوا يؤجلون تنفيذه.
وقبل عشرين سنة نتحدث في المسار السياسي الزمني عن «أوسلو» الذي كان اتفاق «سلام» مؤقتاً لخمس سنوات، أنذرت مع انتهائها بأن ما حصل عليه الفلسطينيون آنذاك ــ تقلّص بنسبة 70% على المستويات كافة ــ هو ما أعطي لهم للمرة الأولى والأخيرة، وأن ما بعدها هي سنوات الاستنزاف الإسرائيلية برعاية أميركية ودولية، في حين أن كل ما حدث أمس هو إقفال لهذه المسيرة، كي ترتسم الصورة الجديدة لمرحلة الحكم الذاتي الفلسطيني المقلص جداً من دون هوية أو حتى رمزية.
بل إن الحديث المسرّب أميركياً، قبل يوم من إعلان ترامب، عن عرض سعودي «كريم» تعهده ولي العهد، محمد بن سلمان، بجعل منطقة أبو ديس، التي قطّعها جدار الفصل الإسرائيلي، عاصمةً للسلطة، ليس في أحسن أحواله إلا «نكتة سياسية سمجة»، إذ كان من الأوْلى بما أن التنازل حصل، أن تعلن رام الله عاصمة لـ«الأراضي الفلسطينية»، لو كان لدى ابن سلمان «قليل من الحياء»، كما تقول مصادر فتحاوية هذه المرة لا «حمساوية»!
لكن، بدلاً من أن تعلن السلطة، ومعها «منظمة التحرير»، أنه انتهى دورها وفي النتيجة وجودها، بعدما ضاعت رمزية القدس ــ حتى شرقيّها ــ كعاصمة للدولة «الحلم» بيد «راعي السلام»، لم يحدث سوى الدعوة لاجتماعات لبحث التداعيات، كأن رئيس السلطة، محمود عباس، شخصياً لم يكن أول من أُبلغ بقرار ترامب مفصلاً قبل إعلانه. وما بقاء السلطة والتنسيق الأمني وملحقاتها سوى إقرار بالجو السائد حول أن ما يحدث أقرب إلى مسرحية بإخراج أميركي وإضاءة عربية.
بجانب ذلك كله، من المهم تتبع مسار الأحداث الأخيرة جيداً، فليست الرياض هي وحدها مخترع فكرة ابتزاز حلفائها وإذلالهم، ثمة واشنطن التي أعادت «موظفي المفاوضات والتنسيق الأمني» خائبين من زيارتهم قبل ثلاثة أيام إليها، واليوم تُسمع منهم تصريحات «صدمة وحزن». أولاً، ولإنهاء آخر صورة لعلاقة السلطة بشعبها وبقضيتها، بدأ الضغط الأميركي بالصوت العالي كي تتوقف رام الله عن دفع مخصصات أهالي الشهداء والأسرى. بعد ذلك، جاء قرار ليّ الذراع: سنغلق مكتب «منظمة التحرير» في واشنطن إذا لم تنصاعوا، وقبله يُسمع السعوديون عباس أحلامهم في طريقة رسم المنطقة وخريطة القوة فيها: اقبل ما سيقوله ترامب، أو استقِل!
أكثر من ذلك، قرّر الأميركيون أمس تخفيف (أو قطع) المساعدات المالية عن السلطة. وقبل هذا وذاك، لم تكن الزيارات التي أجرتها الوفود الأميركية لمقر المقاطعة في رام الله «لطيفة» البتة، إذ كان المسؤولون الفلسطينيون كلهم يقرون بأن نذر الشؤم مقبلة.
قرار «متأخر كثيراً»
بالعودة إلى قرار «أحمق بيت الأبيض»، كما وصفه الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في وقت سابق، رأى ترامب أن الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل «تأخر كثيراً»، وحان الوقت لاتخاذ هذه الخطوة، مبرراً ذلك بالقول إن «إسرائيل دولة ذات سيادة، مثل أي دولة أخرى لها الحق في تحديد عاصمتها والاعتراف بأن هذا أمر واقع هو شرط ضروري لتحقيق السلام». وفي الوقت نفسه، أعلن التزام بلاده «حلَّ الدولتين إذا رغب فيه الفلسطينيون والإسرائيليون… سأبذل قصارى جهدي للتوصل إلى حل الدولتين»، مشيراً إلى أن نائبه مايك بنس سيتجه إلى المنطقة في غضون أيام للتأكيد لجميع الأطراف «التزامنا تحقيق السلام».
ورغم أن عباس كان متأهباً لإلقاء كلمته فور انتهاء ترامب من خطابه، خاصة أنه يعرف فحوى ما سيقوله الأخير، فإنه أجّلها لنحو نصف ساعة بعدما أجرى اتصالين: الأول بالرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، والثاني بأمير قطر، تميم بن حمد. بعد ذلك، أعلن عباس بلغة أقل حدة من المتوقع استنكاره ورفضه إعلان الرئيس الأميركي، مبيّناً أنه «إعلان انسحاب أميركي من رعاية عملية السلام». وأضاف: «الإدارة الأميركية بهذا الإعلان اختارت أن تخالف جميع القرارات والاتفاقات الدولية والثنائية، وفضّلت أن تتجاهل وأن تناقض الإجماع الدولي… حول القدس». ورأى أن ذلك «يُمثل مكافأة لإسرائيل على تنكّرها للاتفاقات وتحديها الشرعية الدولية وتشجيعاً لها على مواصلة سياسة الاحتلال والاستيطان والابرتهايد والتطهير العرقي».
لكن لم يفت «أبو مازن» أن يربط الإعلان الأميركي أمس بأنه يخدم «الجماعات المتطرفة التي تحاول تحويل الصراع في منطقتنا إلى حرب دينية تجرّ المنطقة التي تعيش أوضاعاً حرجة في أتون صراعات دولية وحروب لا تنتهي». مع ذلك، رأى أن «هذه اللحظة التاريخية ينبغي أن تشكل حافزاً إضافياً لنا جميعاً لتسريع وتكثيف الجهود لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية… ستشهد الأيام القادمة دعوة الهيئات والأطر القيادية المختلفة إلى اجتماعات طارئة لمتابعة التطورات، ووضع كل الخيارات»، خاتماً بقوله: «عاشت فلسطين».
أما كبير المفاوضين الفلسطينيين، صائب عريقات، فقال إن ترامب «عزل الولايات المتحدة عن أي دور ممكن في عملية السلام مستقبلاً»، مضيفاً أن الرئيس الأميركي «استخف بشكل غير مسبوق بالأصوات العربية الحكيمة، وبزعماء العالم التي حاولت ثنيه عن خطوته هذه».
في المحصلة، كرّر رئيس الولايات المتحدة ما فعله وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور عام ١٩١٧، بطريقة أو أخرى، عندما «قدّم» فلسطين لزعماء الحركة الصهيونية. قريباً من الذكرى المئوية للوعد المشؤوم، أعلن ترامب أن القدس «عاصمة لإسرائيل»، وأنه أعطى أوامره لوزارة الخارجية لبدء نقل سفارة بلاده من تل أبيب (التي لم تعترف بها أميركا عاصمة لإسرائيل) إلى القدس. أثبتت خطوة ترامب أنها طعنة في الصدر، لا الظهر، لخيار السلطة في الاعتماد على الطرف الأميركي وسيطاً في مفاوضاتها مع العدو، وهو ما أكده عباس بنفسه في كلمة متلفزة تلت كلمة ترامب، وجاء فيها أن القرار يمثل «إعلاناً بانسحاب الولايات المتحدة من ممارسة الدور الذي كانت تلعبه خلال العقود الماضية في رعاية عملية السلام»، وهو ما أعاد «كبير المفاوضين» صائب عريقات تأكيده بقوله إن «الرئيس الأميركي يتصرف بطريقة أكثر إسرائيلية من الإسرائيليين».
رغم خطورة القرار الأميركي تجاه مدينة القدس، لم يتخذ عباس أي قرار فعلي مضاد لجهة إعلان وقف التنسيق الأمني، القائم فوق الطاولة وتحتها مع العدو، أو وقف الاتصالات مع واشنطن، أو حتى التهديد بتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني لجهة اعتراف «منظمة التحرير» بإسرائيل.
وعلى الأرض، فإن ما عاشه الفلسطينيون أمس، شبيه بما عاشه أجدادهم بعد إعلان وعد بلفور، إذ إن إطفاء شجرة الميلاد في بيت لحم شبيه بما فعله أجدادهم لجهة رفع الأعلام السوداء وإغلاق محلاتهم رفضاً لوعد بلفور. لكننا اليوم في ٢٠١٧، وإسرائيل والحركة الصهيونية لم تعودا كما كانتا قبل مئة عام. اليوم يوجد في فلسطين مقاومة قادرة متمكنة تمتلك آلاف الصواريخ التي يمكنها ضربها تل أبيب، وأصبح الفلسطيني مقاوماً يخطط ويضرب العدو في عقر داره، ولم يعد ذلك المزارع الذي يهاب عصابات «الهاغاناه» و«شتيرن» و«البلماخ».