محمد زبيب
نجحت الحكومة اللبنانية، حتى الآن، في تسويق الأهداف «النبيلة» وراء انعقاد مؤتمر باريس 4 (سيدر). فلا أحد يمكنه أن ينكر حاجة لبنان الملحّة لبرنامج استثمار واسع في البنية التحتية، يساهم في النهوض الاقتصادي والتنمية وخلق فرص العمل والدخل للمقيمين، لبنانيين كانوا أو لاجئين. ولكن هل هذا ما تسعى الحكومة خلفه حقاً؟ الجواب باختصار هو: كلا، أو على الأقل هذا هو الجواب الذي يمكن الوصول إليه من مراجعة الوثائق المقدّمة إلى المؤتمر، ولا سيما الوثيقة التي تحمل عنوان «رؤية الحكومة اللبنانية للاستقرار والنمو وفرص العمل».
في الواقع، تذهب الحكومة إلى مؤتمر «باريس 4»، كما تشرح الوثيقة المذكورة، للمتاجرة بقضية اللاجئين السوريين، فهي تسعى بوضوح لقبض «ثمن» إبعاد اللاجئين عن أوروبا، عبر منح نموذجها الاقتصادي، المرهون بالكامل للتدفقات النقدية الخارجية، فرصة البقاء فترة أطول. كيف؟ تطلب الحكومة من مؤسسات الاتحاد الأوروبي ودوله والمؤسسات المالية الدولية مساعدتها على جذب المزيد من العملات الصعبة إلى لبنان، عبر ضخ المزيد من القروض الخارجية والرساميل الأجنبية. في المقابل، تقدّم الحكومة التزامات وتعهدات بالغة الخطورة، يمكن إيجازها على النحو الآتي:
ـــ ضمانات غير مسبوقة للدائنين بأنهم يحظون بالأولوية حتى ولو جاع كل اللبنانيين. ففي فقرة وردت ضمن الوثيقة المذكورة، وهي بمثابة رسالة نيّات إلى الممولين والمقرضين، تقول الحكومة إن «الدائنين الرسميين الحاضرين في المؤتمر قد ينظرون إلى المستوى الحالي لديون السوق في لبنان، بوصفه سبباً للقلق، وهو ما تشاطرهم إياه الحكومة اللبنانية أيضاً. إلا أن سجل الحكومة في ما يتعلق بالوفاء بالتزامات ديونها لا يشوبه شائبة. لقد تم الوفاء بها دائماً حتى في أحلك أيام الحرب والأزمات. لم يطلب لبنان مرة إعفاءات من الديون المترتبة عليه. ولم يعمد إلى إعادة جدولة ديونه الرسمية، ولم يلجأ إلى «نادي باريس»، كذلك لم يلجأ إلى إعادة جدولة ديونه غير الرسمية، ولم يتعرض الدائنون لآليات قص الشعر. وبالتالي لا يمكن لبنانَ أن يسمح بإضعاف هذا الأداء». بمعنى أوضح، تقدّم الحكومة ضمانات إلى الدائنين بأنها لن تلجأ إلى أيٍّ من هذه الخيارات التي لجأت إليها دول كثيرة عانت من معدّلات مديونية مرتفعة، وهذا ليس مجرد كلام، بل له تبعات كثيرة وخطيرة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
ــ ضمانات إلى المستثمرين المحليين والأجانب بتحقيق عوائد مرتفعة جداً على استثماراتهم في البنية التحتية، وهي تعرض خصخصة كل المعامل الجديدة لإنتاج الكهرباء (ما عدا معملاً واحداً في دير عمار)، وتتعهد بشراء الطاقة مباشرة لضمان السعر الذي يطالبون به. كذلك تعرض خصخصة إدارة قطاع المياه، وإدارة النفايات المنزلية، والصرف الصحي، وتعرض مشاريع ضخمة في قطاع الطرقات والنقل عبر طريقة دفع كلفة العبور وتكبيد المقيمين أكلافاً إضافية باهظة بذريعة حل مشكلة الزحمة المرورية.
ــ ضمانات غير مسبوقة أيضاً بتجاوز الآليات «الديمقراطية»، التي يفرضها الدستور، والتي توجب على البرلمان مراقبة الحكومة ومساءلتها، إذ تقول الوثيقة إن الحكومة ستتجنب «ضرورة تقديم كل مشروع وقرض إلى البرلمان قبل البدء في تنفيذه، وهي تعتزم طلب تفويضها بالدخول في اتفاقيات مع المقرضين». كذلك تقول الوثيقة نفسها إنه «ليس مطلوباً موافقة البرلمان على استثمارات القطاع الخاص في البنية التحتية في إطار قانون الشراكة مع القطاع الخاص المعتمد أخيراً». وتتعهد باستمرار تعطيل عمل الوزارات والهيئات العامّة، التي تخضع لرقابة مسبقة من ديوان المحاسبة وسائر أجهزة الرقابة، إذ «سيكون مجلس الإنماء والإعمار مسؤولاً عن تنفيذ العدد الكبير من المشاريع، كما سيكون المجلس مسؤولاً عن تنفيذ المشاريع نيابةً عن الوزارات».
ــ ضمانات بإبقاء مساحة مالية كافية لتسديد الفوائد على القروض، ورد أكلاف المستثمرين وتأمين أرباحهم، عبر خفض العجز في الموازنة بنسبة 1% من مجمل الناتج المحلي سنوياً، على مدى 5 سنوات، أي إن الحكومة ستخفض إنفاقها (وتزيد إيراداتها) بقيمة تصل إلى 3 مليارات دولار، من دون المساس بكلفة خدمة الدين العام التي تستنزف ثلث الموازنة ونصف الإيرادات الضريبية وغير الضريبية، وهذا غير ممكن إلا عبر تنفيذ وصفات المؤسسات الدولية (التي تتعهد الوثيقة بتنفيذها)، وتشمل إلغاء دعم أسعار الكهرباء وإعادة النظر بنظام التقاعد وخفض فاتورة الأجور والرواتب والحد من الإنفاق الاجتماعي.
لم تنفق الحكومة خلال ربع قرن، منذ انتهاء الحرب، سوى 14 مليار دولار على البنية التحتية من أصل 216 مليار دولار أنفقتها بين عامي 1993 و2017، أي إن الاستثمار العام شكّل أقل من 6.5% من مجمل الإنفاق، وأقل من 17.5% من مجمل الدين الحكومي (80 مليار دولار) المتراكم على مدى هذه الفترة. هذه الحقيقة الاحصائية تفسّر جانباً مهماً من الأزمات التي يعانيها المقيمون في لبنان على جميع الصعد، ولكنها تفسّر أيضاً لماذا سيزداد الوضع سوءاً في حال نجاح «باريس 4». فليس هناك دليل واحد في تجارب الدول عبر التاريخ يثبت أن المجتمعات يمكن أن تنجو بالتقشف أو بالخصخصة أو بالمزيد من المديونية… التجارب المماثلة لا تدلّ إلا على دول فاشلة ومجتمعات تدمرها الاضطرابات والنزاعات.