وسام متى
«لحظة تاريخية» جمعت بين دونالد ترامب وكيم جونغ أون في سنغافورة. الرجلان اللذان وقفا وجهاً لوجه، للمرة الأولى في تاريخ العلاقات الأميركية – الكورية الشمالية، تصافحا وتبادلا الابتسامات العريضة، قبل أن ينزويا في محادثات مغلقة أفضت إلى التوقيع على «وثيقة شاملة»، تهدف إلى فتح «صفحة جديدة»، لا تزال تداعياتها الجيوسياسية مرتبطة بالكثير من المفاصل المعقدة على مسار «السلام النووي» في شبه الجزيرة الكورية، والمعبّد بالكثير من الألغام.
بدا المشهد استثنائياً أمس، حتى إنّ أحداً لم يكن ليتخيّله قبل أشهر خلت. الصحافيون المحتشدون أمام فندق «كابيلا» السنغافوري، والملايين الذين تسمّروا أمام شاشات التلفزة حول العالم، بذلوا كل ما في وسعهم حتى لا يفوتهم أيّ تفصيل. هو اللقاء الأول الذي يجمع رئيساً للولايات المتحدة بزعيم كوري شمالي، في مسعى لحل ما يمكن وصفه بالتركة الأخيرة في «الحرب الباردة» بنسختها الأميركية – السوفياتية.
هذا الشغف في تتبع مجريات المشهد السنغافوري لم تقتصر أسبابه عند كثيرين على الحدث السياسي، فنجما اللقاء رجلان استثنائيان، تجمعهما أشياءٌ كثيرة، بدءاً بنزعة «الجنون»، مروراً بعشق الرفاهية، وصولاً إلى التشابه في «خط اليد»؛ بقدر ما تفرّقهما أشياء أكثر، ابتداءً بتركة الحرب الكورية التي لا تزال رسمياً تعيش في حال «الهدنة» الثابتة والهشة معاً، وانتهاءً بتلك الريبة المتبادلة، التي دفعت بالزعيم الكوري وشقيقته النافذة للذهاب إلى سنغافورة بطائرتين مختلفتين تحسباً لأي «كارثة»، والتي تجعل اليوم أيّ حديث عن «صفحة جديدة» بين واشنطن وبيونغ يانغ مليئاً بالشكوك، في ظل تجارب طويلة ومريرة، تجاوز ميدانها شرق آسيا، وإدراك واضح لقواعد اللعبة الجيوسياسية في العالم، بكل تعقيداتها ومصالحها المتناقضة والمتقاطعة في آنٍ واحد.
الكلمة المفتاح في الوثيقة هي «الضمانات» الأمنية التي تعهد بها الرئيس الأميركي
على هذا الأساس، لا يمكن التسليم بأنّ المصافحات المتكررة بين دونالد ترامب وكيم جونغ أون، والابتسامات العريضة التي ارتسمت على وجهيهما، أو حتى «الوثيقة الشاملة» التي يمكن تلخيصها بعبارة «التفكيك النووي مقابل الضمانات الأمنية»، مؤشر على انقلاب جيوسياسي في العلاقة بين الشرق الآسيوي والغرب الأميركي. فالألغام العابرة للحدود لا تزال كثيرة، ومنسوب «عدم الثقة» بدونالد ترامب في تزايد مطّرد، والشواهد كثيرة على ذلك، بدءاً من إيران، مروراً بفلسطين، وصولاً إلى «قمة السبعة» قبل أيام.
مع ذلك، فإنّ ثمة كوّة فتحت أمس في الجدار، بعدما مهّدت لها سلسلة تحرّكات أميركية ــ كورية شمالية، في خضم التوتر الذي أرخى بظلاله على خط واشنطن – بيونغ يانغ منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، والذي بلغ ذروته حين فرّغ الرئيس الأميركي وغريمه الكوري الشمالي شحناتهما ذات التوتر العالي، تفاوتت أشكالها بين التهديد بالقصف المتبادل، والتباهي بحجم «الزر النووي» الأحمر الذي يمتلكه كل منهما.
خلف هذا «الجنون»، الذي جعل العالم، أو على الأقل جزءاً واسعاً منه، يحبس أنفاسه، وهو يترقب جنوح الهستيريا الترامبية – الكيمّية نحو «أبوكاليبس» القرن الحادي والعشرين، كانت ثمة «طبخة» تحضّر خلف الكواليس، وعلى الخشبة، تبدّت ملامح قرب «استوائها» خلال الألعاب الأولمبية الشتوية التي استضافتها كوريا الجنوبية في السابع من شباط الماضي، والتي شهدت مشاركة نادرة لشقيقة الزعيم الكوري كيم يو جنغ التي كانت أمس شاهدة، إلى جانب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو على مجريات توقيع «الوثيقة الشاملة»، ومن ثم في الزيارة التاريخية التي قام بها الزعيم الكوري الشاب للشطر الجنوبي من شبه الجزيرة في نيسان الماضي، والتي جاءت في خضم اتصالات ماراثونية ظلت تجرى طوال أسابيع على خط واشنطن – بيونغ يانغ.
كل ما سبق مهّد لـ«اللحظة التاريخية» يوم أمس. نحّى ترامب وكيم الخطاب الهستيري جانباً، وتصرّفا، كما لو أنهما شخصان آخران، أو كأنهما وضعا على وجهيهما قناع الدبلوماسية. «رجل الصاروخ الصغير» الثلاثيني توجه إلى «الرجل المصاب بالخرف» السبعيني بفيض من الاحترام قائلاً: «سعيد بلقائكم سيدي الرئيس. الطريق للوصول إلى هنا لم يكن سهلاً. الأحكام المسبقة القديمة والعادات العتيقة شكّلت عقبات كثيرة، لكننا تجاوزناها كلها من أجل أن نلتقي اليوم»، فردّ الأخير بمزيد من الإطراء والتفاؤل قائلاً: «ينتابني شعور عظيم حقاً. سنجري نقاشاً رائعاً، وسنحقق نجاحاً كبيراً. هذا شرف لي وسنقيم صداقة رائعة، ليس لديّ شك في هذا».
يبدو ذلك كافياً للقول إن اجتماع الدقائق الثماني والأربعين قد تجاوز الحاجز النفسي أمام انطلاق عملية سياسية معقّدة، وضعها ترامب قبل أيام في إطار «الفرصة لمرّة واحدة»، والتي أثمرت تفاهماً مكتوباً، سيشكّل الأساس للتفاوض المستقبلي، الذي سيكون مسكوناً بشيطان التفاصيل.
وفي العموم، فإنّ بنود الوثيقة لا تختلف في جوهرها، وحتى في بعض عباراتها، عن تلك التي توصل إليها الطرفان في عام 1993، لجهة التعهد العام من قبل كوريا الشمالية بـ«العمل نحو نزع السلاح النووي بالكامل من شبه الجزيرة الكورية»، و«توحيد الجهود من أجل إقامة نظام دائم ومستقر للسلام في شبه الجزيرة الكورية».
ومع ذلك، فإنّ الكلمة المفتاح في الوثيقة الموقعة هي «الضمانات» الأمنية التي تعهد بها الرئيس الأميركي لكي تقدم بيونغ يانغ على نزع سلاحها النووي، والتي وصفها بومبيو، عشية القمة، بأنها ستكون «فريدة ومختلفة».
وإذا كانت تلك «الضمانات»، التي يريدها النظام الكوري الشمالي بديلاً من «النووي» لحماية نفسه، عنصراً جديداً في المفاوضات، على النحو الذي يبشّر بعدم تكرار التجربتين الفاشلتين في عامي 1994 و2004، فإنّ قلّة تعتقد بأن عملية التفاوض ستكون سهلة، أو أنها ستفضي إلى تحقيق النتائج المأمولة، والتي من شأنها أن تغيّر من الأفق الأمني في شمال شرق آسيا بشكل مماثل لما جرى في أوروبا بعد انهيار جدار برلين في عام 1989.
حتى التجارب التاريخية والمعاصرة تجعل الحذر سيّد الموقف. فمنذ تسعينيات القرن المنصرم، كان النكث بالتعهدات هو النهج الذي سارت عليه الولايات المتحدة في مقاربتها للملف الكوري الشمالي. أضف إلى ذلك، أن استحضار «النموذج الليبي» من قبل جون بولتون، على سبيل المثال، يثير ما يكفي من الهواجس لإغضاب الكوريين الشماليين، وعدم توقيع «شيك على بياض» للأميركيين مذيلاً بعبارة «نزع أسلحة نووية كامل ويمكن التحقق منه ولا عودة عنه»، وهي صيغة ظل يطالب بها الأميركيون كمظلة للقيام بعمليات تفتيش.
وعلاوة على ما سبق، فإنّ الكل ينظر اليوم بعين القلق إلى مدى احترام الولايات المتحدة لتعهداتها، بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، وطموحات الهيمنة الاقتصادية التي باتت المحرّك الأول والأخير لكل الملفات السياسية في عهده، بما يعنيه ذلك من نزعة إلى إلغاء الآخرين، بمن فيهم الحلفاء الأوروبيون، بحسب ما تبدّى في قمة السبعة في كندا، على النحو الذي يعزز الشكوك بشأن خيارات ترامب الكورية الشمالية، وهو ما جعل شخصاً مثل السفير الأميركي السابق لدى روسيا مايكل ماكفول، يتساءل: «إذا كان ترامب عاجزاً عن التفاوض على اتفاق حول الحليب، مع أحد أكثر حلفائنا المقربين، فكيف سيمكنه التوصل إلى اتفاق حول نزاع السلاح النووي مع أحد أكبر خصومنا؟!».
بذلك، فإنّ المسار الواقعي الوحيد بالنسبة إلى الولايات المتحدة وكوريا الشمالية بقي عملية تفاوضية بإيقاع «خطوة خطوة»، ما يجعل التوقعات بشأن النجاح أو الفشل ضمن إطار حذر ومعقّد تحدّث عنه نائب وزير الخارجية الأميركي السابق ريتشارد ارميتاج أخيراً حين قال إن «المسافة بين المكان الذي نحن فيه والمكان الذي يجب أن نكون فيه تقاس بالسنوات».
وثيقة التفاهم
أجرى الرئيس ترامب والرئيس كيم جونغ أون تبادلاً معمقاً ونزيهاً للآراء حول المسائل المتعلقة بإقامة علاقات جديدة بين الولايات المتحدة وجمهورية كوريا الشعبية الديموقراطية وإقامة نظام ثابت ودائم للسلام في شبه الجزيرة الكورية.
تعهّد ترامب تقديم ضمانات إلى جمهورية كوريا الشعبية الديموقراطية، وأعاد الرئيس كيم جونغ أون تأكيد التزامه الثابت والحاسم نحو نزع السلاح النووي بالكامل من شبه الجزيرة الكورية.
إدراكاً منهما أن إقامة علاقات جديدة بين الدولتين ستساهم في إحلال السلام والازدهار في شبه الجزيرة الكورية، وإقراراً منهما بأن الثقة المتبادلة يمكن أن تعزز نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية، يعلن الرئيس ترامب والرئيس كيم جونغ أون ما يلي:
1ــ تتعهد الولايات المتحدة وجمهورية كوريا الشعبية الديموقراطية بإقامة علاقات جديدة وفقاً لرغبة شعبي البلدين في السلام والازدهار.
2ـــ الولايات المتحدة وجمهورية كوريا الشعبية الديموقراطية ستوحدان جهودهما من أجل إقامة نظام دائم ومستقر للسلام في شبه الجزيرة الكورية.
3ــ مؤكدة مجدداً على إعلان بانمونجوم في 27 نيسان 2018، تتعهد جمهورية كوريا الشعبية الديموقراطية العمل نحو نزع السلاح النووي بالكامل من شبه الجزيرة الكورية.
4ــ تتعهد الولايات المتحدة وجمهورية كوريا الشعبية الديموقراطية العثور على رفات أسرى الحرب والمفقودين والإعادة الفورية لمن يتم تحديد هوياتهم.
إقراراً منهما بأن القمّة بين الولايات المتحدة وجمهورية كوريا الشعبية الديموقراطية للمرة الأولى في التاريخ هو حدث ذو أهمية كبرى فهو يطوي صفحة عقود من التوتر والعداء بين البلدين ويبشّر بمستقبل جديد، يتعهد الرئيس ترامب والرئيس كيم جونغ أون بتطبيق مواد هذا البيان المشترك بشكل كامل.
تتعهد الولايات المتحدة وجمهورية كوريا الشعبية الديموقراطية إجراء محادثات للمتابعة في أقرب فرصة يقودها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ونظير رفيع المستوى من جمهورية كوريا الشعبية الديموقراطية لتطبيق نتائج القمة بين البلدين.
يتعهد الرئيس دونالد ترامب والرئيس كيم جونغ أون بالتعاون من أجل تطوير علاقات جديدة بين الولايات المتحدة وجمهورية كوريا الشعبية الديموقراطية وتعزيز السلام والازدهار والأمن في شبه الجزيرة الكورية والعالم.
من ملف : ماذا بعد «اللحظة التاريخية»؟