في اليوم العاشر على عملية «طوفان الاقصى» يمكن القول ان الخيارات الديبلوماسية اقتربت من مستوى العسكرية من دون أن تلغيها. فالحراك الدولي الذي تقدمته واشنطن برأسيها الديبلوماسي والعسكري بمواكبة اكبر حاملات طائراتها استجَرّ نشاطا اوروبيا وايرانيا وخليجيا، أدى الى فرملة أي توجّه سريع نحو القيام بعملية اجتياح لقطاع غزة بانتظار بعض الأفكار التي وضعت على نار حامية. وعليه، ما هي المؤشرات التي تقود الى هذه المعادلة؟
قليلة هي المؤشرات التي تؤدي الى قراءة ديبلوماسية وعسكرية واستخبارية موحدة بشأن بعض الجوانب المحيطة بالحرب التي بدأت صباح السابع من تشرين الاول الجاري عند إطلاق عملية «طوفان الاقصى» والرد الاسرائيلي بعملية «السلاسل الحديدية». فالفرز الحاد الذي نشأ في الأيام الأولى للعمليات العسكرية بين اكثرية دولية أيّدت رد الفعل الإسرائيلي الجامح على «غزوة» حماس للكيبوتزات والمستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة وما تسبّبت به من مفاجآت صادمة في مقابل أقلية أيّدتها وتحمست لها، بدأت تتبدل ولو بنسبة ضئيلة لصالح النظرة المتوازنة والمنطقية للأحداث.
ولعل ما نشر من اكاذيب وأضاليل تحدثت عن أعمال «مشينة» ارتكبها الفلسطينيون بحق الأطفال والنساء هي التي قادت الى الادانة الدولية الشاملة، وجاءت التوضيحات اللاحقة من أكثر من طرف محلي وأممي لترتدّ تراجعاً متدرّجاً عَزّزه نفي العديد من الوقائع التي دفعت ببعض من أطلقها وفي مقدمهم الرئيس الاميركي جو بايدن الذي سحب البيت الأبيض تصريحات له، في خطوة وُصِفت بالاعتذار ممّن أُسيء اليهم. أضف الى ذلك، إنّ ما استخدمه الجيش الاسرائيلي من قوة تدميرية بحق المدنيين المحاصرين والمنشآت الطبية والانسانية والأممية في غزة زاد من حراجة مؤيديه، عدا عن مقتل عدد من الاسرى الاسرائيليين.
وما زاد في الطين بلة، بالنسبة الى الجانب الاسرائيلي، انه لجأ الى ما لم يكن منتظرا ان يواجهه من عمليات في ارضه وثكناته لسحب المسلحين الذين سيطروا عليها لساعات تزامناً مع لجوئه الى الغارات المكثفة التي استهدفت الأبراج السكنية والمدنيين بدلاً من المراكز العسكرية ومنصات اطلاق الصواريخ، مصحوبة بوقف إمداد القطاع بالطاقة الكهربائية والإنترنت والمستلزمات الطبية والادوية والمحروقات وملاحقة سيارات الاسعاف وقوافل النازحين المدنيين، ما دفع بالعديد من الدول الى الإنتقال من موقع المتفرّج وربما المؤيّد لإسرائيل الى موقع الداعي الى وقف الاجراءات غير الإنسانية.
كان ذلك كافياً لرسم مشهد مأساوي أشعلَ ردات فعل في المنطقة ولا سيما في دول الطوق الاسرائيلي حيث تتواجد القوى المناهضة وحلفائها، وهو ما ادى الى عمليات عسكرية محدودة على حدودها إيذاناً بحرب شاملة – والتي إن انطلقت لا يعرف احد ما سيكون مداها – وهو ما احتسبت له المواقف الدولية. فزادت من نسبة الضغوط على لبنان وأطراف مختلفة لحصر الصراع في مسرحه بعدما باتت معظم مدن اسرائيل ومطارها الرئيسي هدفاً للصواريخ. وقبل أن تُطوى الدعوات الى حصر العمليات العسكرية، أحيَت اسرائيل مشاريع قديمة لترحيل سكان شمال قطاع غزة الى جنوبه وسيناء لتزيد من حجم القلق من عملية الترانسفير. ولكن الموقف المصري مدعوماً بالرفض الفلسطيني الداخلي ومعهما دول الخليج تجاه عدم التفكير بالاقتراح شكّل نكسة لكل من سَوّق للفكرة من مسؤولين حاليين وسابقين بما يحقّق توافقا نادرا بين حكومة نتنياهو ومعارضيها. فمثل هذه الخطوة ستؤدي حتما الى تقليص مساحة القطاع الى الحد الادنى وقضم جزء منه لِضمّه الى السيادة الاسرائيلية.
عند هذه المؤشرات، كانت الحركة الديبلوماسية قد بدأت تعطي ثمارها، فقد ظهر واضحا انّ انتقال حاملة الطائرات الاميركية الى شرق المتوسط ومعها السفن البريطانية ونقل الطائرات الاستراتيجية الى القواعد الاميركية في الخليج وفتح الجسور الجوية بين واشنطن ولندن وتل أبيب لإمدادها بالسلاح لم تكن بهدف تمدد ساحة الحرب، بقدر ما كانت بهدف التحضير لما يمكن ان تؤدي اليه تردداتها اذا تمادت اسرائيل بضرب المدنيين في القطاع أيّاً كانت المبررات.
وعلى هامش هذه الحركة كانت التحركات المناهضة لاسرائيل قد انطلقت بحضور وزير خارجية ايران حسين أمير عبد اللهيان الى بيروت – بعد ان تحولت منبرا وحيدا لإطلاق مواقفه التحذيرية بعد ان تعطّلت مطارات سوريا – محذّراً مما قد يحصل ان استمرت الحرب على غزة، وهو ما تزامنَ مع نتائج الجولة التي قام بها وزير الخارجية الاميركية انتوني بلينكن الى عمان ولقائه بالعاهل الاردني الملك عبدالله والرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي رفض إدانة عملية حماس مقابل مطالبته بتنفيذ الالتزامات السابقة تجاه الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع معاً، وكذلك على دول الخليج العربي حيث لم يلقَ الدعم الذي طلبه لا في الرياض ولا في الدوحة بقدر ما دفعته الى التفكير بعواقب ما تقوم به اسرائيل عسكرياً بدلاً من الحل السلمي.
وكل ذلك كان يجري على وقع ما بات ثابتاً لجهة تجميد المفاوضات بشأن التطبيع، وتبخّر التفاهمات والالتزامات التي قطعت للادارة الاميركية، معطوفة على إحياء البحث بما يمكن اعطاؤه للفلسطينيين من أبسط حقوقهم بشكل من أشكال الدولة الفلسطينية على اساس «مشروع الدولتين» اذا بقيَ الرئيس الاميركي متمسكا بموقفه الداعم لها، كما بالنسبة الى التزام اسرائيل بما تعهّدت به في اتفاقيات مدريد واوسلو التي تبخرت تباعاً ووضعت السلطة الفلسطينية على هامش الحياة السياسية في الضفة الغربية وخروجها من قطاع غزة لصالح معارضيها. علماً أن إسرائيل لعبت دورا كبيرا لتشجيع الخطوات التي أدت إلى الصراع في غزة لصالح حماس والجهاد الإسلامي وحلفائهما للفصل النهائي بين القطاع والضفة الغربية من دون احتساب تحولها الى ما باتت عليه من قوة عسكرية أقلقتها وهزّت قيادتها وهددت جبهتها الداخلية ودمّرت هيبتها في ايام قليلة على عملية «طوفان الاقصى».
واضح، ومن خلال هذه الصورة الفسيفسائية التي تحاكي ما يجري في غزة وغلافها والعمق الاسرائيلي، انه لا يمكن البحث بأيّ وقفٍ للنار او اي حل سياسي قبل استعادة ما فقدته الدولة اليهودية وجيشها من هيبة نتيجة ما لحق بهما من هزائم موصوفة. ولذلك، فإنّ التحضير لعملية عسكرية برية في غزة بات موضوع نقاش داخلي اسرائيلي على مستوى حكومة الحرب والحكومة الموسعة في آن كما في الاندية الديبلوماسية العربية والغربية على قاعدة «خطوة إلى الأمام واثنتين الى الوراء». فشعار طرد حماس منها دونه عواقب وخيمة دلّت إليها التحذيرات من حرب شاملة وبدايات الانباء عن مقتل اسرى اسرائيليين وردات الفعل السلبية على أي فكرة للتخلي عنهم، وما يمكن أن تلقاه الوحدات المهاجمة من نكسة إضافية على وقع اعترافات اسرائيلية عبّر عنها وزراء تَقدّمهم وزير المالية بتسلئيل سموتريش الذي كان يحصي خسائر الدولة العبرية، داعياً الى «تحمّل مسؤولية ما كان وما سيكون»، واعترافه» بألم وبرأس مُطأطأ بفشل الحكومة والمنظومة الأمنية في الحفاظ على أمن سكاننا»، لافتاً الى انّ «ما فعلته حماس في غلاف غزة مذبحة بشعة لم نشهد مثلها منذ المحرقة».
وختاماً، لا بد من الاشارة الى ان اولى الإشارات المؤدية الى تقدم الحل السياسي، ولو بخطوات محدودة، الحديث للمرة الاولى عن هدنة إنسانية وما تردد بأن إسرائيل وافقت على عرضٍ أميركي بألا تقوم بالمبادرة بِشَن هجوم على لبنان مقابل التزام أميركي بالتدخل حال مبادرة «حزب الله» إلى الهجوم تزامناً مع دعوات أطلق بداياتها وزير الأمن الإسرائيلي السابق موشيه يعلون، الذي قال «ان نتنياهو يشكل تهديداً وجودياً على «إسرائيل» ويجب إقالته فوراً»، وهو ما يؤشر الى حجم الازمة السياسية المقبلة في الدولة العبرية ما ان تضع الحرب أوزارها.