Site icon IMLebanon

طوفان الأقصى بأبعاده العسكريَّة والجيوسياسيَّة

 

طوفان الأقصى منازلةٌ ليست كسابقاتها من جولات التَّقاتل الإسرائيلي – الفلسطيني المتعاقبة منذ عقود، وربما ليست على غرار مختلف الحروب السَّابقة ما بين الدول العربيَّة والكيان الإسرائيلي. إنها حربٌ بكل ما للكلمة من معنى، لا بل يمكننا القول إنها حربٌ مفصليَّةٌ لعدَّة اعتباراتٍ: منها ما هو عسكري، ومنها ما هو سياسي، ومنها ما هو جيوسياسي نظراً لما قد يترتَّبُ على مآلها من تغيّرات جيوسياسيَّةِ على خريطة الشَّرق الأوسط، ومصيريَّة بالنِّسبة للقضيَّة الفلسطيني ووجوديَّة بالنِّسبة للكيان الإسرائيلي الغاصب.

إن أي تحليلا جيوستراتيجيا متجردا لهذه المنازلة، يوحي بأن لها أبعادٌ ثلاث: عسكري، سياسي، وجوسياسي وهو الأهم، تتوقف مآلات هذه الحرب على ما ستنتهي إليه جولات القتال في غزَّة، ومدَّتها والتَّغيرات التي ستطرأ على أرض المعركة، والمواقف والتَّدخلات الدَّوليَّة في معرضها، وهذا يملي علينا التَّطرق إلى كل من هذه الأبعاد على حدة.

أولاً: البُعد العسكري ويتمحور حول العمليَّة العسكريَّة التي نفذتها كتائب القسَّام «الجناح العسكري لمنظَّمة حماس» صباح يوم السَّبت الفائت، حيث يحتفل اليهود بعيد العُرش، فاجأت كتائبُ القسَّام بعمليَّتها العسكريَّة الجميع، من حيث حجمها، وتوقيتها، والتكتيك الذي اعتمد في تنفيذها، وأسلوبها السَّهل الممتنع وبساطةِ الوسائل والأدوات التي تكاد لا تخطر في بال أي رجل عسكري، وهذا ما وفَّر لها عنصر المباغتة رغم ما تتطلبه مثل هذه العمليَّات من تحضير وجهد ووقت يسهل كشفها.

عنصر المفاجأة لا يقتصر على ما سبق أشرنا إليه، إنما يطال أيضاً النتائج الأوليَّة المحقَّقةِ في وقت قياسي، ما بين أسرى ودمار شبه شامل في المُستعمرات، وإفقاد العدو عنصر المبادرة، ما أصابه بالتَّضعضع لساعات عدَّة. ويمكننا القول أن مسؤولو حماس وداعميهم وحتى منفذي العمليَّة قد فوجئوا أيضا، ولكن بما استطاعوا إنجازه وتحقيقه من نتائج في وقت قياسي، متخطين كل الحواجز والمعوقات الماديَّة والتِّقنيَّة والإلكترونيَّة، وكل ما يندرج ضمن ذلك من شبكات تجسس وقبَّات حديدية وعملاء وأجهزة مخابرات، وبرامج للإعتراض على الاتصالات، وجهازيَّات مراقبة ورصد وتعقّب. تلك النتائج شكَّلت وصمة عار غير مسبوقة حلَّت فجأة على أجهزة إسرائيل العسكريَّة والاستخباريَّة وأمنها الوقائي، رغم ما لديها من أسلحة وتجهيزات وبرمجيات حديثة ومتطورة. إنه عنصر المفاجأة يا سادة، والذي لا يتحقَّق إلاَّ بتكتمٍّ شديد، كدنا نظن إنه منعدمٌ لدى المنظَّمات الفلسطينيَّة، لما اعتدنا على كشفه من شبكات تجسس وعملاء فلسطينيين يتآمرون على وطنهم ومقاوميهم لقاء حفنة من الأموال الملوثة بالخيانة الوطنيَّة.

طوفان الأقصى عملٌ دفاعيٌّ بامتياز، ولن تعيب توصيفه مُحاولات التَّضليل التي يقف خلفها العدو الإسرائيلي وأجهزته المخابراتيَّة ولا الإعلام الغربي، الذي بدى متحيَّزاً منذ اللحظات الأولى، والكلُّ يعلم بالمبدأ العسكري القائل «إن الهجوم خير وسيلة للدِّفاع»، وخاصَّةً عندما يقوم به الطَّرف المعتدى عليه، وهذا ما يُستشف من تسميته بـ «طوفان الأقصى» وكأني بهم ضاقوا ذرعاً بالإعتداءات الإسرائيليَّة المتكرِّرة على الدَّوام على مقدَّساتهم في القدس الشَّريف، كما بأعمالهم الإجراميَّة الإرهابيَّة التي تحصد الأبرياء، بالإضافةِ إلى التعديات على الأملاك والحرمان من أدنى الحقوق والتطاول على الكرامات، كل ذلك كان يحصل بتشجيع من القادة الإسرائيليين وعلى مرأى ومسمع من المجتمع الدولي ومؤسساته الأمميَّة.

من النَّاحيةِ العسكريَّةِ البحتة، حقَّقت الحرب نتائجها العسكريَّةِ بساعاتها الأولى، وأكَّدت انتصار كتائب القسَّام على جيش الكيان المدجَّج بالأسلحة المتقدمة والفتاكة، رغم محدوديَّةِ الإمكانات العسكريَّة لدى مقاتلي حماس المحاصرون في منطقة جغرافية ضيِّقة، أما ما حصل ويحصل من اعتداءات إسرائيليَّة منذ عشرة أيام مرشَّحة للتمديد لأسابيع وربما لأشهر، فهو اعتداءٌ ممنهجٌ ضدَّ المدنيين العزَّل في غزَّة، وينطوي على توصيفاتٍ جرميَّة، ما بين جرائم حرب وإبادة جماعيَّة وجرائم ضدَّ الإنسانيَّة، وبالتالي ليست بحرب بين قوى مسلَّحة، وهي بين طرفين غير متكافئين؛ وكل أغراض إسرائيل من اعتداءاتها المحمومة تمثَّل في إنزال أكبر قدر من الخسائر في الأرواح بين المدنيين العزَّل وتدمير أكبر مساحة سكنيَّة داخل غزَّة، وذلك لإفقاد سكَّانها أدنى مقومات الحياة، باستهدافها للبنى التَّحتية ومصادر الطَّاقة ومراكز الإيواء والمراكز الاستشفائيَّة…

هذه النتائج العسكريَّة سيكون لها من دون أدنى شك تبعاتها على ما ستؤول إليه الحرب بكل أبعادها، أي النتائج النهائيَّة، والتي غالباً ما لا تقتصر على نتائج العمليَّات القتاليَّة البحتة، إنما أيضاً على ما يواكبها من تحرُّكاتٍ دبلوماسيَّة ومفاوضات ونتائج ما يتوصَّل له الوسطاء الدَّوليون وموفدوهم، وهذا ما سنشير إليه في بعدها السياسي.

ثانياً: البُعد السياسي: هذه الحرب تحصل في ظل انقسام دولي حاد، وبالتوازي مع حرب دوليَّة وإن تكن محصورة جغرافيا في أوكرانيا. وبالتالي لا يمكن تقييمها بمعزل عما يدور على السَّاحة الدَّوليَّة؛ كما في ظل الكثير من الأزمات الدَّولية الاقتصاديَّة والصحيَّة وغيرها.

إن جلَّ ما يتطلَّع إليه الفلسطينيون من هذه الحرب، إعادة تذكير المجتمع الدَّولي بحقِّهم في العيش الكريم، ولو على ما تبقّى من أرضهم المغتصبة، ووقف المساس بمقدَّساتهم، والتنكيل بشيوخهم ونسائهم وأطفالهم، وحلِّ مشكلتي الأسرى في المعتقلات الإسرائيليَّة واللاجئين الفلسطينيين في دول الجوار ومنها لبنان والأردن ومصر وسوريا، والذين يعيشون أوضاعاً إنسانيَّةً صعبة منذ عقود.

الإسرائيليون بدورهم، يسعون لاستغلال عملية طوفان الأقصى لتحقيق تطلعاتهم التَّوسعيَّة القديمة – الجديدة لإخلاء قطاع غزَّة من قاطنيه الفلسطينيين، وتهجيرهم إلى دولٍ أخرى، وقد سعوا سابقاً لإقناع مصر بإيوائهم في منطقة سيناء، لقاء إغراءات ماليَّة مستغلين حجم الديون المتراكمة عليها؛ وها هم يسعون منذ اللحظة الأولى على تقليب الرأي العام العالمي على منظَّمة حماس، لتوفير الغطاء الدَّولي لتنفيذ مأربهم هذا، على غرار ما كانوا اعتمدوه في حروبهم السَّابقة مع الدول العربيَّة، مستغلين المناكفات ما بين إيران الدَّاعمة لحماس والدُّول الخليجيَّة المنزعجة من الحوثيين. وقد نجح الإسرائيليون في جرَّ أميركا إلى منطقة الصراع ومن خلفها دول غرب أوربا الذين انخراط في الصِّراع بشكل أو بآخر، وما كادت تمرّ ساعات على العمليَّة حتى بدأت جحافل الأساطيل وحاملات الطائرات ترد إلى البحر المتوسِّط، وأساطيل جويَّة لشحن الأسلحة والذَّخائر، كما أنشئت غرف عمليَّات مشتركة. كل تلك الحشود توحي بأننا في معرض حملة «صهيو-غربيَّة» على المقدسات المسيحية والاسلامية، وأن ثمَّة سيناريوهات معدّة مسبقاً وضعت أو أوشكت أن توضع موضع التَّنفيذ، أولها القضاء على منظَّمة حماس وتهجير سكان القطاع، وثانيها تقويض قدرات حزب الله في لبنان، وثالثها القضاء على المشروع النووي في إيران وضرب منشآتها العسكريَّة ومرافقها الحيويَّة.

وبغية تمهيد الوضع السياسي لتنفيذ السيناريو الأول، أوفِدَ وزير الخارجيَّة الأميركي ليُملي على العرب تسهيل عمليَّة التهجير، مغدقاً بعض المغريات الماليَّة على مصر والسياسية على غيرها، ولكن يبدو أنه لم يلق تجاوباً لغاية الآن، لأن أحداً من المسؤولين العرب قادر على تحمّل مسؤوليَّة القضاء على القضيَّة الفلسطينيَّة، ولكون ما يسوق له ينطوي على عمليَّة تزوير كبرى لتاريخ منطقة الشَّرق الأوسط وجغرافيَّتها بأيادٍ إسرائيليَّة ومباركةٍ غربيَّة، وهذا ينطوي على تحوّل جيوسياسي خطير.

ثالثاً: البُعد الجيوسياسي: لا يمكن النظر إلى هذه الحرب بمعزل عن السياق التاريخي للقضية الفلسطينية، كما وإغفالٍ للحروب العربية – الاسرائيلية المتعاقبة، والاعتداءات الاستفزازية الإسرائيلية المتكررة على الفلسطينيين عامة وعلى القدس رغم رمزيتها الدينية.

لقد هُيِّئ لهذا المُخطَّط الجَهنمي، الذي تسعى إسرائيل لتَحقيقه، بتفتيت الدُّول العربيَّة، وحلِّ أهمِّ جيوشها، وتحييد أخرى، تسهيلاً لمحو فلسطين من الخارطة الدَّوليَّة، وإحلال الكيان الإسرائيلي على أرضها المغتصبة، وتهجير الشَّعب الفلسطيني في شتى أصقاع الأرض.

لقد كشفت هذه الحرب الكثير من الحقائق، وأماطت اللثام عن الكثير من المخاطر على مُستويات مختلفة دولية وإقليميَّة وعربيَّة ولبنانية.

أ- على المستوى الدولي: كشفت هذه الحرب عجز هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي عن القيام بدورهما، وتحكّم الولايات المتحدة بقراراتهما؛ كما كرَّست الانقسام الدولي، والتفوّق الأميركي، والتَّبعيَّة الغربيَّة لأميركا، وضمور التأثير الروسي على الساحة الدَّولية، والتزام الصين بنَأيها عن الصِّراعات المسلحة على الساحة الدوليَّة.

ب- البُعد الاقليمي: أظهرت إيران قدرتها على إيلام الكيان الصهيوني في عقر داره بواسطة أذرعها، ومناؤة الولايات المتَّحدة الأميركيَّة والتَّطاول على قواعدها العسكريَّة على امتداد منطقة الشَّرق الأوسط، ولكنها فوجئت بردَّة الفعل الإسرائيليَّة، والدَّعم الغربي المبالغ بهما للكيان الإسرائيلي.

وأظهرت هذه الحرب أن إيران ربما تكون قادرة على إطلاق شرارة جولات قتال موضعيَّة، ولكنها عاجزة عن حصرها وتحديد أوان وقفها، وبدت عاجزة عن تنفيذ تهديداتها، وهذا ما يترجم مسارعتها للطلب من المملكة العربية ومصر للتَّدخل العاجل لمنع تمدِّد القتال إلى ساحات أخرى، وبتراجعها عن تهويلاتها السابقة بوحدة السَّاحات والحرب المفتوحة، رغم إطلاقها بعض التَّحذيرات الخجولة بعدم قبولها بالقضاء على غزَّة وتهجير أهلها، وفي الوقت عينه تسعى لحجز موقع لها على طاولة الحلول الشرق – أوسطيَّة بإصرارها على تفعيل دور منظمة التعاون الإسلامي على حساب جامعة الدول العربيَّة.

ج- على المستوى العربي: كشفت هذه الحرب المزيد من التَّفكك العربي والروح الإنهزاميَّة العربيَّة، وحالة الانفصام التام ما بين الشعوب العربيَّة وأنظمتها؛ وهذا ما كشفته المقاربات العربية الخجولة، وغياب مقارباتٍ فاعلة وعلى قدر الحدث، إذ اكتُفي بمؤتمر خجول لوزراء الخارجيَّة العرب، بدلاً من التداعي لعقد قمة عربية طارئة، ودعوة وزراء الدِّفاع العرب إليها، واعتبار اجتماعاتها مفتوحة، لحين وقف أعمال التدمير الممنهج في غزَّة.

كما كشفت هذه الحرب زيف المقاربات التَّطبيعيَّة، في ظلِّ إصرار الكيان الإسرائيلي على مخطَّطاته الإجراميَّة التَّوسعيَّة، وتظاهره بالتقارب مع بعض الأنظمة لتسهيل عملية استفراده بالشَّعب الفلسطيني.

د- على المستوى اللبناني: أظهرت هذه الحرب هشاشة الوضع السياسي في لبنان، ومغبَّة الشغور في منصب رئاسة الجمهوريَّة ما يجعلنا نواكب الحرب من دون إجماع لا بل في ظل انقسامات سياسيَّة حادَّة، كما كشفت عدم الجهوزيَّة اللوجستيَّة في لبنان، رغم أنه على فوهة بركان ناشط من الحروب، وعرَّت هذه الحرب أيضا الحكومات المتعاقبة لإغفالها تحقيق الحدِّ الأدنى من مستلزمات الصمود والإستعداد للحرب، على الأقل في الإطار اللوجستي، ولعدم تأمينها الحد الأدنى من الملاجئ على امتداد القرى الحدوديَّة وباقي المناطق المُستهدفة، ولعدم توفيرها مخزونات استر اتيجيَّة للمواد الأساسيَّة كالمحروقات والمواد الغذائية والمتطلبات الاستشفائية، كما لإغفالها العمل على التعبئة الشَّعبية لتوحيد الصَّف تجاه المخاطر الخارجيَّة، أقول ذلك لأن الاستعداد للحرب لا يعني التَّرويج لها أو التَّشجيع على الإنخراط بها.

وأختم بالقول أن هذه الحرب بنتائجها الكارثية ستشكّل وصمة عار على جبين المجتمع الدولي، لما تنطوي عليه من انتهاكات فادحة للقِيَم والمشاعر الإنسانية.