Site icon IMLebanon

المسألة اللبنانية و«طوفان الأقصى»: هل دقت ساعة التحوّل الكبير؟

 

أنطوان الدويهي

قبل 7 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، حين وقع «طوفان الأقصى» وأدخل المنطقة في مسار تاريخي مفاجئ، يصعب توقع مداه ووجهته النهائية، كان الوضع اللبناني قد وصل منذ زمن إلى فخ تاريخي مطبق، بات يستحيل على أطرافه الداخليين الخروج منه.

 

وحقيقة الأمر أن لبنان بلد مقسّم، تقوم على مساحة منه سلطة ما بقي من لبنان الكبير، وعلى مساحة أخرى سلطة «الثنائي الشيعي» الذي يهيمن عليه «حزب الله»، التي تشكل كياناً أو دولة بالمعنى الفعلي للكلمة، وإن كانت تنقصها التسمية والاعتراف الرسميان. ولم يكن الأمر بحاجة إلى «طوفان الأقصى» لمعرفة أن السلطة الفعلية الآن في المدى اللبناني هي، إلى حد بعيد، سلطة «الثنائي الشيعي». وبما أن الأزمات الكبيرة تدفع إلى تبيان الأمور على حقيقتها، فقد أظهر «طوفان الأقصى» مدى حضور هذه السلطة في الوضع اللبناني. فالقوى الدولية والإقليمية، ممن وصلت حاملات طائراتها إلى المنطقة، أو التي تكتفي بوضع ثقلها الاقتصادي والدبلوماسي في الميزان، إنما تتوجه فعلياً الآن إلى هذه السلطة، التي في يدها ورقة الحرب والسلم من الجانب اللبناني، بينما تكاد تغيب دولة لبنان الكبير عن المشهد.

 

ولمّا أضحى الخروج من الفخ اللبناني متعذراً على أطرافه الداخليين، بات تحريكه وتخطيه عائدين في صورة أساسية إلى ما يمكن أن يطرأ من تحولات إقليمية ودولية كبرى تطاوله. فهل «طوفان الأقصى» وما يثيره من ارتدادات حربية واستراتيجية في المنطقة والعالم، هو التحّول الكبير المنتظر الذي سيفكك، في طريقه، هذا الفخ ويخرجه من مأزقه؟

 

ليست هي المرة الأولى في الأزمنة الحديثة الذي يجد المكان اللبناني نفسه فيها أسير مأزق تاريخي مطبق. حدث ذلك 4 مرّات، عام 1861، وعام 1918، وعام 2005، والآن في المرحلة التي نعيش. وعلى الرغم من الظروف الكثيرة الاختلاف لكل منها، فالصراع التاريخي العميق الفاعل فيها، هو واحد. وجوهر هذا الصراع هو التالي؛ لأسباب جغرافية – تاريخية لا مجال الآن للتوسّع فيها، هناك حركة عميقة الجذور في مجتمع جبل لبنان، منذ قرون طويلة، تنشد الحكم الذاتي والاستقلالية، والانعتاق من الأنظمة الشمولية المهيمنة، نحو نمط حياتي مختلف وأفق جديد، قوامه الحرية والانفتاح على العالم الحديث، المتمثل خصوصاً في الغرب الأوروبي الذي شهد نهضة فريدة كبرى، أخرجته من القرون الوسطى وأدخلته الأزمنة الحديثة. وقد تفاعل معه مجتمع جبل لبنان، ثقافياً وسياسياً، منذ بدايات تلك النهضة بين أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، حين كانت مجتمعات المنطقة ما زالت مقيمة في ما يعرف بـ«عصر الانحطاط»، ولم يصل إليها التفاعل مع الحداثة إلا بعد قرنين من الزمن، مع حملة بونابرت على مصر، آخر القرن الثامن عشر.

 

كان من الطبيعي أن يصطدم هذا التوق اللبناني في كل مرة بالنظام السائد، الذي يسعى إلى دمجه فيه والقضاء عليه. هكذا، قام الصراع التاريخي بين «الحركة اللبنانية» (التي انتقلت منذ عام 1920 من لبنان الصغير إلى لبنان الكبير) من جهة، والأنظمة المشرقية المتوالية، التي لها دعاتها وامتداداتها المجتمعية داخل المدى اللبناني، من جهة أخرى. من النظام العثماني، إلى النظام الوحدوي الناصري، إلى المد الفلسطيني المسلّح داخل لبنان، إلى نظام البعث السوري، وصولاً إلى النظام الإسلامي الإيراني، على ما بينها من تباينات. وقد جاء كيان الاستيطان الصهيوني في فلسطين ليعقد هذا الصراع تعقيداً خطيراً منذ عام 1948، وصولاً إلى الهجوم الوحشي الراهن على غزة، مروراً بتهجير شعب فلسطين من أرضه، والحروب العربية – الإسرائيلية، والاجتياحات الإسرائيلية للبنان.

 

لا شك أن التحولات المجتمعية تلتقي فيها حتماً، بنسبة أو أخرى، العوامل الداخلية والعوامل الخارجية. وفي المرات الثلاث الماضية واليوم، كان المأزق اللبناني يتمثل في عجز أطرافه الداخليين عن حلّه، في انتظار تحول خارجي، إقليمي أو دولي كبير، يفككه ويضعه في مسار جديد.

 

وعلى مدى زمني طويل، خلال قرن ونصف قرن، من عام 1861 إلى عام 2005، صبّ مسار التاريخ (الذي يتفاعل فيه قدر لا حصر له من العوامل يصعب تحديد وجهتها)، لصالح «الحركة اللبنانية»، التي كانت تصل في كل مرة إلى شفير الزوال وسط بحر من المآسي، ثم تنهض، وذلك لـ3 مرات متوالية…

 

المرة الأولى عام 1861، حين تشكل المأزق الداخلي حول مذابح 1860، حيث حاولت السلطة العثمانية استغلال النزاع الدرزي – الماروني لتصفية المسألة اللبنانية. غير أن عاملاً خارجياً آخر كان أشد تأثيراً، انقلب معه الحسم العسكري إلى هزيمة سياسية. فقد وصلت أصداء المذابح الى أوروبا التي توحدت دولها الخمس الكبرى حول التدخل العسكري الفرنسي في سوريا وجبل لبنان، ما أدّى في نهاية المطاف إلى تكريس الكيان اللبناني الأول المتمتع بالحكم الذاتي داخل السلطنة العثمانية، المضمون من السلطنة ومن الدول الخمس.

 

كانت المرة الثانية عام 1918، حيث برز المأزق اللبناني مع دخول تركيا الحرب عام 1915 إلى جانب ألمانيا والنمسا، وإلغائها نظام الحكم الذاتي لجبل لبنان، ووضعها الجبل في إمرة حاكم عسكري تركي، وفرضها عليه الأحكام العرفية وذلك الحصار البري الرهيب الذي أدى إلى المجاعة الكبرى، وقضى بين عام 1915 وعام 1918، على ثلث سكانه. لو انتصرت دول المحور الثلاث، لعمدت تركيا إلى تصفية المسألة اللبنانية. ومع انتصار الحلفاء، نهضت «الحركة اللبنانية» من جديد وتكوّن عام 1920 لبنان الكبير.

 

المرة الثالثة كانت في عام 2005، حين تجسد المأزق الداخلي بهيمنة نظام البعث السوري من زمان على لبنان، بصورة محكمة و«نهائية». وإذ على حين غرّة، أدى اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري وانتفاضة «14 آذار» الشعبية، إلى انقلاب الموقف الدولي، ما أجبر القوات السورية على الانسحاب من الأراضي اللبنانية، في مشهد يصعب تصديقه. لكن انتفاضة «14 آذار» الكبرى لم تتوافر لها قيادة تاريخية بمستواها، إذ سارع بعض أطرافها إلى «الاتفاق الرباعي»، ودخل طرفها الآخر في «اتفاقية مار مخايل»، وكان ما كان.

 

والآن، انطلاقاً من «طوفان الأقصى» والزوبعة الإقليمية والدولية الضخمة التي يثيرها، هل نشهد في عام 2023، التحول التاريخي الكبير الرابع، الذي سيحرّك مأزق لبنان المقسّم ويخرجه من طريقه الداخلي المسدود؟ ترى في أي اتجاه هذه المرة، ونحو أي لبنان؟ تلك هي المسألة.