Site icon IMLebanon

نحن مع ملحمة «طوفان الأقصى»  

 

 

على درب الأنداد في ميادين القتال، تأتي عملية «طوفان الأقصى» لمحو بقايا أي رواسب للخوف الذي صنعته الدعايات الاسرائيلية ذات المبالغات والتهويلات… إذ من الغفلة بل العبث، أن ننكر ان إسرائيل لا تدير شؤونها يوماً بيوم، وفق أهداف صغيرة عابرة، ولا بناء على خطة تستغرق بضع سنوات، بل إن جزءاً أصيلاً من هذه الاستراتيجية يقوم على إشعار الخصوم بالضعة والنقص، وقلّة الحيلة، عبر إظهار الاسرائيلي على أنه دوماً شخص حادّ الذكاء، قويّ الإرادة، ومن ثم إظهار المؤسّسة التي تقيمها إسرائيل بأنها غاية في الكفاءة حيث التنظيم المحكم، والإخلاص الشديد، والقدرة الهائلة على الانجاز، وانسحب هذا الشيء بالطبع على تصويرها جيشها، بأنه لا يُقهر ولا يُهزم، وأنّ كل حروبه عبارة عن نزهة، تدور أحداثها في أرض العرب وليس داخل إسرائيل. ولا ننسى في هذا المقام ما كان يردّده شيمون بيريز رئيس وزراء إسرائيل الراحل حول تعاون إقليمي تكون إسرائيل عقله ودرعه وسيفه عند الضرورة. كما صوّرت إسرائيل نفسها لمحيطها العربي على أنها وحش مخيف، لا يمكن مواجهته، في الوقت الذي كانت ترسم لنفسها صورة مختلفة في الغرب، على انها حمل وديع وسط «قطعان من الذئاب الكاسرة الجائعة».

 

ورغم ان بعض الباحثين والمفكرين العرب، قد انتبهوا الى لعبة المبالغة في القدرات لتركيع الخصوم، فإنّ غالبية العرب ظلّوا على حالهم القديمة، مُسْتسلمين للدعايات الاسرائيلية، بل كان من بينهم من يغذّي هذا الشعور، سواء عن قصد أو جهالة أو لامبالاة، وأحياناً للتهرّب من تبعات المواجهة.

 

وحدهم الفلسطينيون، ورغم الصدمة المروّعة التي حدثت لهم أيام القتل والتهجير وبعده، راحوا يرون الأمر على حقيقته، من دون مبالغة… وهي مسألة وفّرها لهم الاقتراب الدائم والاحتكاك اليومي بالاسرائيليين، والمعرفة العميقة بشخصية اليهودي، باعتبار ان إسرائيل أعلنت نفسها وبصراحة تامة دولة لليهود فقط.

 

من هنا اكتسب الفلسطينيون مناعة بمرور الوقت، فصاروا أكثر قدرة على الاعتماد على الذات في الدفاع عن أنفسهم، بعدما ظلوا زمناً طويلاً يعتمدون على مساندة العرب لهم عسكرياً واقتصادياً.

 

ومن هنا أيضاً أقول: لقد جرّب الفلسطينيون انتفاضة الحجارة التي اندلعت في كانون الأول عام 1987 واستمرت 6 أعوام، وحققت دعايات كبيرة ومهمة للفلسطينيين… والأهم من هذا كله انها أكسبتهم ثقة بأنفسهم وقدرة على تحويل الجهد الفردي الى جهد منظم. أما الأهم أيضاً فإنها كشفت نفسية الجندي الاسرائيلي أمام الفلسطيني، إذ كان بعض الجنود الاسرائيليين يهربون أمام أطفال فلسطين الذين كانوا يقذفون هؤلاء الجنود بالمقالع الفلسطينية ويقفون أمام الدبابة بكل كبرياء وعزة وشموخ.. ولقد اكتسب الفلسطينيون منعة وصلابة نفسية.

 

وعلى درب الأنداد في ميادين القتال تأتي عملية «طوفان الأقصى» لتمحو بقايا أي رواسب للخوف، الذي صنعته الدعايات الاسرائيلية التي تحدثت عنها قبل قليل، وهذا أثر له ما بعده في قابل الأعوام، وفي المنازلات الكبرى التي ستلي هذه العملية.

 

وأعود الى عملية «طوفان الأقصى» ورأينا بها فأقول أيضاً: ليس من شك في ان 99% من المراقبين المحايدين والموضوعيين، هم مع هذه العملية، ولكن بالتأكيد، ان هؤلاء ليسوا مع العنف والقتل، ومن أجل هذا ندين إسرائيل، ومبالغاتها في العنف الذي مارسته ولا تزال على نساء وأطفال وشيوخ ومدنيي غزة مدينة الأبطال.

 

ولنكن موضوعيين ونتساءل: ماذا يريد العالم من الفلسطينيين غير ما فعلوه؟ ألم ينتظروا خمسة وسبعين عاماً تحت القهر والظلم والحصار والاضطهاد والإذلال؟ ماذا يريد العالم منهم غير ما فعلوه؟ هل يريدون لهم أن يستسلموا ويصبروا أكثر، ويذلّوا أكثر وأكثر؟ إنهم محاصرون مقهورون جائعون، عاطلون من العمل… هم بحاجة الى رغيف خبز يسدّ جوعة أبنائهم.. يحتاجون الى شيء من العدل والإنصاف، في زمن اختفى العدل من الوجود.. فالناس باتوا ينصرون الظالم على المظلوم… العالم كله بات ينظر بعين واحدة.. هو يرى أطفال إسرائيل ينعمون بالفرح والراحة، ويتعامون عن رؤية أطفال فلسطين، وهم مضرّجون بدمائهم بل أشلاء تحملها أيدي والديهم وأمهاتهم. أتلك هي العدالة؟ أوهكذا يقف العالم الى جانب إسرائيل اليوم، متغافلاً عن حق أطفال فلسطين بالحياة؟

 

ولأعُدْ بالذاكرة الى اتفاقية أو «معاهدة أوسلو-1»، والمعروفة رسمياً باسم إعلان بالمبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي… وهي عبارة عن اتفاق سلام، وقعته إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في مدينة واشنطن الأميركية في 13 أيلول عام 1993، بحضور الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون.. وسمّي الاتفاق نسبة الى مدينة أوسلو النرويجية التي تمّت فيها المحادثات السرّية التي جرت عام 1991، وأفرزت هذا الاتفاق في ما عُرف بعد ذلك بـ»مؤتمر مدريد»، وتعتبر الاتفاقية تلك أول اتفاقية رسمية مباشرة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بياسر عرفات ووزير خارجية إسرائيل آنذاك شمعون بيريز عن الجانب الاسرائيلي.

 

وينص إعلان المبادئ على:

 

أولاً: إقامة سلطة حكم ذاتي انتقالي فلسطينية (السلطة الفلسطينية) ومجلس تشريعي منتخب للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة.

 

ثانياً: تغطي المفاوضات المقبلة القضايا المتبقية بما فيها القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين.

 

لقد انتظر الفلسطينيون ليأخذوا «اللقمة» التي أعطتها إسرائيل لهم… وما نحن عليه اليوم، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك ان إسرائيل عملت بمبدأ: «ما لنا لنا، وما لكم، لكم ولنا»، وها هي ذي المستوطنات تأكل أرض فلسطين، بقعة بعد أخرى، وها هم الفلسطينيون لا يزالون تحت القهر والظلم والأسر والتعذيب والتنكيل والاضطهاد بلا رحمة.. أوَيجرؤ أحد بعد ذلك على إدانة ما قامت به المقاومة الباسلة في غزة من «حماس» و»الجهاد» وغيرهما من المنظمات المقاتلة الصامدة؟ أيجرؤ أحد في هذا العالم أن يغض بصره عن جرائم إسرائيل بقتلها الأطفال والنساء والشيوخ واضطهاد كل فلسطيني يطالب بحقه؟ أوَبعد هذا يحاول العالم -كما نرى- مساواة الظالم بالمظلوم، هذا إن كان شبه عادل، أما إذا لم يكن كذلك، فإنّ دول العالم في معظمها، وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، وحتى أقرب المقرّبين ينصرون الظالم (إسرائيل) على المظلوم «الشعب الفلسطيني البريء المضطهد»، حقاً إنها سخرية القدر.

 

75 عاماً، وإسرائيل متعنّتة، رافضة الاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة لهم، رغم ان هذه الدولة التي ستُمنح للفلسطينيين -إن مُنحت- ليست إلاّ جزءاً بسيطاً لا يذكر من بلادهم التي اغتصبها الصهاينة بـ»وعد من بلفور» الانكليزي، وعلى حساب شعب مسكين ذاق الامرين.

 

إسرائيل بعد هذه المدة كلها، ترفض الاعتراف بحلّ الدولتين: هي تكابر وتعاند، والعرب كما ذكرت في إحدى مقالاتي نائمون أو في شبه غيبوبة وهم يتسارعون الى اتخاذ مواقف مستغربة… مثلاً ما أعلن قبل يوم واحد من خلال ما نشرته صحيفة «الايكونوميست» من أنّ الرئيس السوري بشار الأسد أخبر حزب الله أنه لن يتخذ قراراً بمساندة «حماس»، والمشاركة في المعركة بحجة ان «حماس» انحازت عام 2011 الى الثوار السوريين الذين قاموا ضد بشار وحاولوا إسقاطه، ولولا تدخل روسي وإيراني وتدخل حزب الله وتدخل أميركي سافر لكان بشار الأسد في خبر كان… هذا أولاً…

 

ثانياً: أعود الى المهرولين على التطبيع من دول الخليج وغيرها من الدول، فأقول: ماذا فعل التطبيع بالنسبة للدول التي طبّعت قبل هذه الفترة.. ألم تطبّع مصر؟ لكن الشعب المصري المناضل رفض التطبيع أصلاً، حتى ما تقوم به مصر اليوم تحت قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي، لا يستطيع أحد إنكار إيجابياته، ولا إهمال هذا الدور الكبير؟ وماذا فعل التطبيع مع الأردن واتفاقية «وادي عربة»؟ الشعب الاردني لا يزال مدافعاً عن حقوق الفلسطينيين كاملة.. فلماذا محاولة التطبيع في هذه الأوقات؟ أليْس هذا من الكبائر؟

 

وهنا أستذكر ما قاله كاتب فرنسي حربي عن حرب 1973 بين العرب وإسرائيل، حين قارن بين حربي 1967 و1973، فقال جملة لا يزال يتردّد صداها الى اليوم: «إنّ غطرسة إسرائيل واحتقارها للفلسطينيين أسهما في عماها».

 

وكتب مدير مجلة «أوريان 21» ألان غريش يومذاك: إنّ تلّ أبيب ارتجّت لهول ما وقع في تشرين الأول عام 1973 قبل خمسين عاماً، عندما كانت الجيوش المصرية والسورية تعبر خطوط وقف إطلاق النار لتُلْحِق خسائر فادحة بالجيش الاسرائيلي المهزوم.

 

إنّ الهجوم الذي شنته «حماس» في السابع من تشرين الاول الجاري، لم يكن مفاجئاً فقط، بسبب التوقيت الذي تمّ اختياره، بل أيضاً بحجمه وتنظيمه، وبقدراته العسكرية المنتشرة، والتي مكنت -من بين أمور أخرى- من اجتياح القواعد العسكرية الاسرائيلية. كما ان هذه العملية وحّدت الفلسطينيين، وأثارت دعماً واسع النطاق بين الشعوب العربية، رغم سعي بعض القادة العرب الى التطبيع مع إسرائيل.

 

ففي كل مرّة ينتفض فيها الفلسطينيون، يستحضر الغرب الارهاب، مع ان ذلك الغرب هو الذي لا يتوانى عن تمجيد مقاومة الأوكرانيين… وهكذا أدان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشدّة الهجمات الارهابية -على حدّ قوله- التي ضربت إسرائيل، من دون أن ينبس ببنت شفة عن استمرار الاحتلال الذي هو مصدر العنف. ولن ننسى مواقف جو بايدن المنبطحة أمام غطرسة إسرائيل، متناسياً ان إسرائيل، تحسب الرسائل بشأن حقها في «الدفاع عن النفس» بمثابة رخصة للقتل والمتابعة بالطريقة نفسها التي أدت الى تصعيد الوضع الأمني.

 

من أجل ما أثرته اليوم من أدلة وبراهين… لا يسعني إلاّ أن أقول: للأسباب التي أفضت في تفصيلها في متن هذه المقالة… أنا مع عملية «طوفان الأقصى» الى ما لا نهاية.