IMLebanon

العقل قبل شجاعة الشجعان

 

 

أطلقت منظمة حماس بعمليَّة طوفان الأقصى شرارة أشعلت مخزن بارود امتداده على مساحة أراضي فلسطين المحتلة، فارتأى الكيان الإسرائيلي أن يكون هذا الحدث منطلقاً للبدء بتنفيذ أحد أهم مراحل مخطَّطه الإستعماري، والذي يعتبر بمثابة حلم يراوده منذ أن أنشئ الكيان الغاصب على أرض فلسطين، ويتمثل في تهجير أهالي غزَّة من أرضهم ورميهم خارج وطنهم، وقد طرحوا بديلاً عنها في صحراء سينا، وألمحوا إلى إسكان حزء منهم في دول عربيَّة أخرى. إلّا أن ما أعاق تنفيذ هذا المُخطَّط صمود الشَّعب الفلسطيني «رغم فداحة الخسائر البشريَّة التي نزلت به جراء جرائم الحرب التي ترتكبها آلة الحرب الإسرائيليَّة»، وإصراره على تشبثه في أرضه ووطنه رغم الإبادة الجماعيَّة التي يتعرَّض لها على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وإعلان مصر كما الأردن رفضهما استقبال نازحين جدد، لما ينطوي ذلك على مشاركة في تهجير الشَّعب الفلسطيني ومؤامرة على القضيَّة الفلسطينيَّة برمّتها.

الكيان الإسرائيلي، وعلى الرغم من استمرار قادته بالتلويح بتهجير الفلسطينيين، وسعيهم إلى فرض هذا الأمر عنوة، إلاَّ أنهم أضحى أكثر قناعة بأن هذه المسألة غير قابلة للتنفيذ، نتيجة الصمود الأسطوري للشَّعب الفلسطيني، لذا تبنّوا شعاراً آخر «التَّخلص من سيطرة حماس السياسيَّة على قطاع غزَّة والقضاء على جناحها العسكري أي كتائب القسَّام»، ولكن يبدو أن هذا الأمر ليس بمقدور الكيان الغاصب تحقيقه أيضاً نظراً لعجز جيشه من حسم المعركة عسكريًّا لصالحه في مهلة معقولة، ولن تجدي نفعاً ادّعاءاتهم أن المعركة ستبقى مستمرة إلى أن تحقق الأهداف التي أعلنوها وإن طالت أسابيع أو أشهر، وذلك لأن إطالة الحرب أدّت إلى انكشاف العدو بغطرسته ووحشيته ودمويَّته، وأخذت تولِّد ردَّات فعل شعبيَّة غاضبة على المستوى العالمي منادية بوقف حملات القتل والإبادة الممنهجين اللذين يتعرض لهما الشَعب الفلسطيني، كما بوقف المشاركة في هذا المخطط الجهنمي المتمثل في توفير الغطاء والدَّعم العسكري والسياسي لهذا الكيان العنصري وتمكينه من تنفيذ مأربه، ولن يكون بمستطاع السُّلطات في الدُّول المعنية، قمع الاحتجاجات أو التغاضي عن مطالبها لأسباب مختلفة، كما لأن إطالة أمد الحرب سيضع المجتمع الدَّولي أما كارثة إنسانيَّة لم تتكشف معالمها بعد، قد تنطوي على مجاعة، وتفشي أمراض مستعصية، وستتسبب في أزمة إيواء لمئات آلاف الشيوخ والنساء والأطفال هذا عدا التسبب بظاهرة مصابي الحرب وحالات الإعاقة الصحيَّة نتيجة استعمال أسلحة فتَّاكة ومحرَّمة دوليًّا… الخ..

 

إسرائيل التي حظيت بما لم تكن تطمع به من دعم عسكري وسياسي غربي غير محدودين، ترغب في استغلاله لتحقيق مآرب أبعد من غزَّة؛ وهي تتطلَّع إلى تقويض القوَّة العسكريَّة لحزب الله الذي تخشى من أن يكون قد اكتسب خبرات قتالية من مشاركته في الحروب خارج أرضه سواء في سوريا أمن العراق أو اليمن، كما تخشى من أن تكون إيران قد نجحت في تزويده بمحزون كبير من الأسلحة، وبأسلحة ذكيَّة أو متقدِّمة قادرة على إنزال خسائر موجعة بجيشها أو بالرد على اعتداءاتها داخل الأراضي الفلسطينيَّة باستهداف أهداف استراتيجيَّة أو موجعة. ولكن طموحها الأكبر يتمثل في التَّخلص من مشروع يقلق راحتها، ويسبب لها أرقًا استراتيجيًّا ألا وهو المشروع النَّووي الإيراني، ولا يقل عنه خطورة باقي الصناعات العسكريَّة المتطورة كالصناعات الصاروخيَّة البعيدة المدى والذَّكيَّة ويضاف إليها صناعة المسيّرات الجويَّة وربما البحريَّة، والتي تنطوي جميعها على مخاطر وجوديَّة على الكيان، وتشكّل تهديداً صارخاً لتمايز جيشه بتفوّقه التِّكنولوجي عن سائر جيوش دول الشرق الأوسط. وما يحول دون مبادرة إسرائيل إلى تحقيق هذين الهدفين الأساسيين هو استمرارها في التَّخبُّط بمعركتها العسكريَّة مع كتائب القسَّام، وبالتالي عجزها لغاية الوقت الراهن عن تحييد حماس عسكريًّا لتتفرَّغ لتحقيق تطلّعاتها الخارجيَّة والأهم.

 

إن حجم النتائج العسكريَّة الباهرة التي حققتها عمليَّة طوفان الأقصى لم تكن مُتصوَّرة، إذ جاءت بمثابة صفعة مدويَّة على وجه الكيان الإسرائيلي، أفقدته توازنه وكادت أن تصيبه مقتلاً لولا مسارعة الولايات المتحدة الأميركيَّة إلى إقامة حلف عسكري (غير معلن) مع حلفائها الغربيين لتوفير الدَّعم العسكري للكيان وفتح مخازنها العسكريَّة لمدِّه بالأسلحة والذخائر المتطورة، وإرسال الأساطيل البحريَّة وحاملات الطائرات والغواصات الاستراتيجيَّة لتكون بمثابة قوة ردع لمن تسول له نفسه الوقوف إلى جانب حماس، أو الانخراط معها بالصراع مع إسرائيل، وقد وجهت رسائل واضحة إلى من يعنيهم الأمر تفيد بأن كل تلك الحشود العسكريَّة جاهزة للتَّدخّل إن اقتضى الأمر، وهذا ما دفع بقوى الممانعة للإحجام عن الإنخراط في حرب مفتوحة والتَّخلي عن مقولة وحدة السَّاحات، وفي طليعتهم إيران التي نفت علمها المسبق بالعمليَّة أو بالتحضير لها، أو توفير الدَّعم اللوجستي أو الخبرات لمنفذيها.

 

حزب الله، والذي لطالما أعلن وقوفه إلى جانب الشَّعب الفلسطيني في الدَّفاع عن أرضه وسعيه لتحقيق مطالبه المحقَّة، وجد نفسه محرجاً، فسعى إلى مشاغلة الجيش الإسرائيلي بمناوشات محدودة، أو أعمال عسكريَّة مضبوطة، ولكنه يبدي حرصًّا على عدم توسيع نطاقها ميدانيًّا ونوعيًّا؛ أما إسرائيل المتعطشة لضرب حزب الله وتقويض قوَّته تردّ بذات الوتيرة والسياق ليس لأنها لا تريد الحرب مع الحزب أو تخشاها، ولكن تريدها بمثابة ربط نزاع إلى حين نجاحها في تحييد حماس عسكريًّا، لتتفرَّغ إلى حربها مع لبنان بعد استفرادها بحماس، وربما تنجح بعد ذلك في توريط الولايات المتَّحدة الأميركيَّة في حرب أكبر تستهدف ضرب الداخل الإيراني وبالتحديد الصناعات العسكريَّة وربما أهدافاً استراتيجيَّة موجعة لإيران.

تطلّعات الكيان الإسرائيلي واضحة ولا لبس فيها، وهو يرى أن الفرصة مؤاتية في ظل كل ما يلقاه من دعم، وما تشهده منطقة الشرق الأوسط من حشودات عسكريَّة غير مسبوقة، وانشغال الاتحاد الروسي في حربه مع أوكرانيا، ما يتيح المجال للدُّول الغربيَّة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركيَّة من لوي ذراع النِّظام الإيراني، ويبدو أن الولايات المتحدة الأميركيَّة قد فاتحت بعض الدُّول العربيَّة سرَّة بالأمر ولو بصورة غير مباشرة لمعرفة موقفها فيما لو تطورت الأمور إلى حرب إقليميَّة موسَّعة، ويبدو أنها لم تلقَ تجاوباً وخاصَّة من المملكة العربيَّة السُّعوديَّة، التي رفضت صراحة الإستقواء بالغرب لضرب النِّظام الإيراني، رغم ما لقيته سابقًا من مشاكسات إيرانيَّة عبر التطاول الحوثي وغيره.

 

الخطورة إذن في ظل هذه المعطيات تكمن في تهوّر المسؤولين الإسرائيليين وفي طليعتهم رئيس الوزراء نتنياهو، وجرِّ المنطقة إلى مواجهة مفتوحة حتى قبل نجاحه في السَّيطرة عسكريًّا على حماس، خاصَّة وأنه على المستوى الشَّخصي مربك، ومستقبله السياسي على المحك، بحيث يرى في مثل هكذا خطوة، فيما لو نجحت، ضمانةً لمستقبله السياسي بعد أن شوَّهت مسيرته بقصور أدائه السياسي وأداء الجيش الاسرائيلي التَّقهقري، والفشل الذريع للقوى الأمنية في حماية المستوطنين مما تعرضوا له في عملية طوفان الأقصى.

أميركا بدورها ليست متحمسة لخوض غمار حرب مفتوحة في توقيت لم تختره هي، وإن كانت مرغمة قد أعدَّت العدَّة لها بالتَّعاون مع باقي حلفائها الغربيين، وهي تسعى قدر المُستطاع لتجنيب لبنان هذه الحرب نظراً لما يشهده من أزمات متفاقمة، إلاَّ أنها فيما لو انجرَّت إليها ستخوضها بقوة، وستسخِّر لها كل ما لديها من قوى وإمكانيَّات عسكريَّة وسياسيَّة. وإن كان صنّاع القرار الأميركيون يدركون أن أية مواجهة عسكريَّة مع إيران وأذرعها الواسعة الانتشار في منطقة الشرق الأوسط لن تكون مجرَّد نزهة ولكنها ليست بمهمة مستعصية، كما أن ثمَّة مصلحة غربيَّة مشتركة في تحجيم قدرات إيران، وتقليم أذرعها الخارجيَّة، والتي جعلت منها دولة ذات نفوذ إقليمي مربك دوليًّا.

لبنانيًّا يبدو أن الرسالة قد وصلت ومن أكثر من مرجع دولي إلى المعنيين في لبنان، وانطوت على تهديدات مبطَّنة بنصح، بأن لبنان لن يسلم إن انخرط في النِّزاع القائم، بل سيدفع أثماناً باهظة على كل المستويات، ولتكن العظة مما حصل ويحصل في غزَّة. لبنان الرسمي كما المقاوم يتوجَّس مما تحيكه إسرائيل من مكائد، كما من نواياها الشريرة المبيَّتة؛ كما أن المسؤولين اللبنانيين مدركون لأن تأثير المناوشات على الحدود اللبنانيَّة – الفلسطينيَّة يكاد يكون معدوماً بالنسبة لما يدور في غزَّة، وذلك بغض النَّظر عن الجهات التي تتبنّى عمليات إطلاق الصواريخ من لبنان، وإن كان يصعب عليهم الظُّهور بمظهر المقموع، خاصَّة وأنه المناوشات الحدوديَّة المحدودة قد كلَّفت لبنان تضحيات بشريَّة جسام، بحيث استشهد لغاية الآن عشرات الكوادر المقاومة، والذين لم يبخلوا بدمائهم في سبيل الوطن، لذا يكتف المسؤولون بتبني مواقف تحفظ الكرامة اللبنانيَّة بالحد الأدنى. وهنا يطرح سؤالاً على قدر من الأهميَّة: كيف للبنان أن يدرأ حربًا تسعى إليها إسرائيل؟

ثمَّة مؤشِّرات توحي بأن العدو ماض في تهديداته، وأنه لن يفوّت فرصة لتدمير لبنان وتقويض مقاومته إن تيسَّر له ذلك، وهو ليس بحاجة لذرائع للقيام بذلك بعد أن ربط النِّزاع بعمليات القصف والقصف المضاد على الجبهة اللبنانيَّة. ونرى الإجابة في القول المأثور «العقل قبل شجاعة الشُّجعان هو أول وهي المكان الثاني»، ومن باب سد الذرائع وتفويت الفرصة على العدو وتجنّباً للمزيد من الخسائر نطرح وبكل مسؤوليَّة «نشر الجيش اللبناني على امتداد الحدود مع فلسطين المحتلة وليتولى حصريًّا الرد على الانتهاكات الإسرائيليَّة»، ولتبقى المقاومة على جهوزيَّتها للتَّدخل فيما لو فُرِضَت علينا المَعركَة.