في حمأة التطورات الميدانية التي يشهدها قطاع غزة، شكّلت عملية اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» صالح العاروري نقزة كبيرة على اكثر من مستوى ديبلوماسي وعسكري، بغية تخفيف التصعيد في المنطقة، على وقع مجموعة من الإجراءات العسكرية التي قلّصت العمليات في قطاع غزة، إفساحاً في المجال أمام المبادرات التي تمّ إحياؤها، بوصول مجموعة من الموفدين الدوليين والغربيين الى لبنان والمنطقة. وعليه، هل يمكن ان تفتح العملية «نافذة» الى إنهاء الحرب؟
تعتقد مراجع ديبلوماسية، أنّه يوم أُعلن في تل أبيب أنّ رئيس حكومة الحرب بنيامين نتنياهو أعطى توجيهاته الى جهاز الاستخبارات الاسرائيلية الخارجية «الموساد» بالتعاون مع جهازي «الشين بيت» و«أمان» لملاحقة قادة حركة «حماس» وقتلهم أينما وجدوا، أيقن المنخرطون في المفاوضات الجارية على أكثر من مستوى ثنائي بين تل أبيب وحلفائها، كما على مستوى أوسع مع بقية القوى الوسيطة في الدوحة والقاهرة وغيرهما، انّ هناك مساراً اسرائيلياً جديداً. وكل ذلك من اجل التوصل الى «هدنة إنسانية» لإجراء عملية جديدة لتبادل الرهائن والموقوفين، او التوصل الى وقف دائم لإطلاق النار. وأنّ اسرائيل بدأت البحث عن نصر عسكري واستخباراتي خارج ساحات المواجهة. وهي خطوة جاءت عقب الجردة التي أُجريت واثبتت انّها لم تحقّق ما أرادته منها حتى اليوم منذ دخول عملية «السيوف الحديدية» الأسبوع الأخير من شهرها الثالث. فقد سبق ان تمّ تحديد أهدافها بحدّها الأدنى لإنهاء حركة «حماس» وقتل قادتها الذين وضعت صورهم على «أوراق الشدة» ووزعتها على عناصر الجيش، بدءاً بيحيى السنوار ومحمد الضيف، على الرغم من افتقاد صوره ومجموعة من قادة الحركة في محافظات القطاع.
وما عزّز هذه النظرية، أنّ اسرائيل وفي موازاة العمليات العسكرية في غزة وعلى الجبهة الشمالية مع لبنان، بدأت البحث عمّا يؤدي الى استعادة شيء من هيبتها المفقودة منذ 7 تشرين الأول الماضي. وخصوصاً انّها تعاني ما لم تعانيه من قبل من تردّدات «حرب داخلية» عكستها المناكفات بين عدد من أعضاء حكومة الحرب ورئيسها بنيامين نتنياهو، والتي بلغت الذروة عندما فضّ نتنياهو جلسة الحكومة منتصف ليل اول امس، بعدما علت الأصوات في وجه رئيس الأركان بسبب قراره تشكيل طاقم تحقيق في إخفاقات الجيش يوم 7 تشرين الأول، وعهدت المهمّة الى رئيس هيئة الاركان السابق شاؤول موفاز، بذريعة مسؤوليته عن عملية الانفصال عن غزة التي نُفّذت عام 2005 وتحميله مسؤولية إهمال ما يمكن ان يقود إليه هذا القرار. ولم يلق من يدعمه سوى عضو حكومة الحرب بيني غانتس، الذي اعتبر انّها مهمّة مهنية وتقنية وسرّية، وهو الذي دخل «حكومة الحرب» ممثلاً للمعارضة للحكومة الأساسية، فيما رفض الاقتراح اكثرية وزراء الحكومة، مخافة انعكاس ما يمكن اكتشافه من أخطاء ارتُكبت قبل نهاية الحرب.
وإلى هذه الخلافات، يمكن الإشارة الى مثيلاتها القائمة على مستوى اعلى واخطر ما بين أركان الحكومة والإدارة الاميركية، عند تناول الخلاف الذي بدأ يظهر الى العلن على وقع المواقف التحذيرية المتناقضة بين وزيري الدفاع والخارجية الاميركيين لويد أوستن وانتوني بلينكن، وكل من نظيريهما الاسرائيليين ايلي كوهين ويوآف غالانت، عدا عن انتقادات مدير المخابرات المركزية جاك سوليفان ومن قبلهم ملاحظات الرئيس جو بايدن ومعه أكثر من رئيس دولة. فهم ممن اضطروا الى التراجع عن الدعم الأعمى لإسرائيل في حربها وما رافقها من الخسائر البشرية والمجازر التي ارتُكبت ولم توفّر حجراً او بشراً وقطاعات صحية وانسانية، فلسطينية وأممية.
كان يمكن التوقف بكثير من التفاصيل المتصلة بهذه الوقائع التي لا يمكن لأي انسان التنكّر لها، وهي التي أُعطيت معنى إضافياً عندما تناولت ما انتهى اليه الإغتيال الخطير للعاروري ورفاقه من قادة عسكريين في الضفة ولبنان في قلب الضاحية الجنوبية التي حمته لسنوات عدة. وما شكّلته من ضربة قاسية لم يتنكّر احد لدقّتها وخصوصاً في توقيتها، إن صحت الروايات والسيناريوهات الهووليودية المتداولة التي قالت انّ الهدف منها قادة فلسطينيون، ولا يجب ان تمسّ حياة اي مسؤول من «حزب الله»، فنُفّذت بعد دقائق قليلة على مغادرة مسؤولي الحزب للاجتماع. وهو ما سمح لأحد مستشاري نتنياهو في التصريح لشبكة «إم إن بي سي» مبرراً العملية من دون ان يتبنّاها بالقول، إنّ «ما حدث في بيروت ليس هجوماً على لبنان أو «حزب الله» وإنما على قيادات حماس».
والى هذه الملاحظات التي يمكن ان تقود الى ان تشكّل عملية الإغتيال محطة يمكن الإفادة منها لفتح «نافذة» على المخارج الممكنة او التأسيس لهذا المسار والبناء عليها، انّ العاروري وبشهادة حلفائه والخصوم في آن، كان من صانعي قوة «حماس» ومؤسسي «شهداء الأقصى» ومشروع «وحدة الساحات» التي بناها شخصياً واطرافها مع القيادة الايرانية وتحديداً مع الحرس الثوري الايراني بعد الإمام الخامنئي، قبل ان يكون مهندس عملية «طوفان الأقصى». وعليه، فإنّ مثل هذه العملية يمكن ان تشكّل «نصراً كبيراً» يُرضي طموح القيادة الاسرائيلية التي تبحث عن انتصار يعوّض عليها ما لم تحققه. وكل ذلك من اجل ان يساهم في مساعي التهدئة وحصر العمليات العسكرية والتوجّه الى الحلول السياسية والديبلوماسية التي يمكن ان توقف سيول الدم في غزة كما في لبنان، وقبل ان تنفجر في البحر الأحمر، فيزداد احمراره من دم اليمنيين في أي مواجهة محتملة مع الحلف الدولي الذي أُنشئ لحماية الممر المائي في باب المندب.
عند هذه المؤشرات تقف القراءة الديبلوماسية المحدثة للحراك الذي انطلق بعد اغتيال العاروري في اتجاه اسرائيل ولبنان والمنطقة، ويقوده كل من بلينكن وعاموس هوكشتاين في اسرائيل، بالتزامن مع كل من مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الذي وصل الى بيروت قبل ان يصل اليها المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان الذي سيصل قريباً لمتابعة مهمّة اللجنة الخماسية، والموفد القطري أبو فهد جاسم آل ثاني الذي قيل انّه تلقّى دعوة من رئيس مجلس النواب نبيه بري للتحرّك مجدداً، ومعهم كلاً من وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لعمليات حفظ السلام جان بيار لاكروا ووزيرة خارجية ألمانيا انالينا بيربوك. فجميعهم مهتمون بمنع تدهور الوضع في المنطقة ولبنان، قبل انفلات الامور وخروجها عن السقوف الحمر الى ما لا يمكن ضبطه لاحقاً.
عند هذه الخلاصات التي تقاطعت عليها المراجع الديبلوماسية المعنية مباشرة بما هو مطروح من مخارج وحلول، وسط أجواء توحي بإمكان الإفادة من عملية اغتيال العاروري من أجل البناء على تطويقها ولجم أي ردّ فعل خارق يمكن ان ينعكس على مسار الأحداث الدموية. فالعاروري هو من أبرز من أدرجتهم اسرائيل على لائحة القيادات الحمساوية المستهدفة، الى جانب كل من إسماعيل هنية، وخالد مشعل، بعد اغتيال كل من محمود المبحوح، ومحمد الزواري، والمحاولة الفاشلة لاغتيال مشعل. ويمكن ان ترضي اسرائيل للنزول من سقف مطالبها الى حيث نقطة الالتقاء مع سعاة إنهاء الحرب.