أثار الكلام المشين لرئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، في حق المثلث الرحمة البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير، زلزالاً من الإدانات والغضب طاول أكثرية الأفرقاء السياسيين من كل المذاهب والطوائف، ولا تزال التداعيات مستمرة حتى اليوم. فكيف بدأت القصة وكيف انتهت؟
كل شيء بدأ بفيديو مسرّب من مؤتمر صحافي للأسمر محاطاً بأعضاء من الاتحاد، أهان صفير خلاله قبل أن ينبّهه أحد الجالسين على المنصّة الى أنّ الميكروفون قد يكون مفتوحاً، لكنّ السيف سبق العزل. وسرعان ما انتشر الفيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم، وتفجّرت حالة من الغضب لدى اللبنانيين، وبدأت النقابات والاتحادات تعلن عن تعليق عضويتها في الاتحاد العمالي العام، وكرّت سبحة الاستنكارات من المركز الكاثوليكي للإعلام والمؤسسة المارونية للانتشار ومعظم الأحزاب مروراً بالرابطة المارونية التي شطبت عضوية الأسمر، وصولاً إلى البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الذي أكّد انّ بكركي مقفلة أمام الأسمر الى حين تكفيره عن خطيئته.
وعلى رغم من اعتذار الأسمر لم يتوقف «تسونامي» الغضب، وتصاعدت وتيرة المطالب الداعية إلى استقالته فوراً، معتبرة أنه لا يمكن لرجل في موقع المسؤولية أن ينحدر إلى هذا المستوى من الكلام، ولا يمكن ائتمانه على تمثيل شرائح كبيرة من اللبنانيين. ودعت القضاء اللبناني إلى اتخاذ الاجراءات المناسبة بحقه. وهذا ما حصل يوم السبت الفائت عندما طلب القاضي عماد قبلان، النائب العام التمييزي بالإنابة، الأسمر إلى التحقيق. فتمّ توقيفه، والتحقيقات مستمرّة معه ومع جميع المعنيين. ومن المتوقع أن يطّلع اليوم قبلان على مضمون التحقيقات التي أجراها قسم المباحث الجنائية المركزية مع الأسمر، تمهيداً لإحالته إلى النيابة العامة الاستئنافية لإجراء المقتضى القانوني بالادّعاء عليه.
في موازاة ذلك، ثمة مخاوف من تدخلات سياسية تعمل على لفلفة الموضوع وعلى تأمين مخارج للأسمر، لكنّ مصادر قريبة من الرئيس نبيه بري أكدت انه رفع الغطاء عنه.
من جهة أخرى دعا نائب رئيس الاتحاد العمالي العام حسن فقيه أعضاء هيئة المكتب الاتحاد إلى جلسة تُعقد قبل ظهر اليوم في الحادية عشرة والنصف. وعلم أن جدول أعمالها سيتضمن «البتّ بالاستقالة التي تقدم بها رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر».
يُذكر انّ الأسمر كان موظفاً في إدارة واستثمار مرفأ بيروت منذ الثمانينات، وتدرّج في العمل المرفئي والنقابي إلى أن أصبح رئيساً لنقابة عمال وموظفي مرفأ بيروت عام 1990، ثم رئيساً لاتحاد المصالح المستقلة والمؤسسات العامة والخاصة منذ العام 2000، قبل أن ينتخب في آذار 2017 رئيساً للاتحاد العمالي العام.
قيل وقتها عن وجود «توافق» بين القوى السياسية على الأسمر إلّا انّ هذا الأمر ليس دقيقاً، إذ إنّ موقع رئيس الاتحاد العمالي العام لم يكن مطروحاً للتفاوض عليه لدى الجهة المسيطرة على معظم أصوات المنتسبين في المجلس التنفيذي للاتحاد، أي حركة «أمل». يستدلّ بعض النقابيين على هذا الأمر، بالإشارة إلى أنّ بعض الأحزاب لم تكن راضية عن الاختيار، إلاّ أنها رضخت سريعاً وبلا نقاش لخيار المكتب العمالي في حركة «أمل».
يعلم رئيس الاتحاد وأركانه أنّ جسم الاتحاد واتحادات الأعضاء جميعها هو من صناعة السلطة السياسية. كلٌ بحسب نفوذه وما استطاعه عبر عقود من تأسيس نقابات وهمية لمهَن غير موجودة أصلاً، أو لها نقاباتها. هذه هي البنية التحتية للاتحاد العمالي العام الذي خرج نهائياً من كونه أداة نقابية مستقلة تدافع عن مصالح العمال، ويفترض أنها تمثّل نواة المجتمع المدني والدولة المدنية.
قد يكون تغيير الأسمر مناسبة للتغيير في بنية الاتحاد العمالي العام على رغم من صعوبة ذلك، لكن ما يطلب معالجته اليوم، على حد قول مرجع روحي مسيحي، هو الأزمة الأخلاقية التي يتخبّط بها المجتمع اللبناني، وخصوصا لدى بعض الذين يتعاطون الشأن العام فينساقون إلى سوقية تعبيرية، وأدبيات مبتذلة، تدعو إلى الاشمئزاز والتشاؤم.
عديمو الاخلاق انتقدهم البطريرك صفير نفسه عام 2008، ورأى أنّ كلامهم «فيه كثير من الإسفاف»، وأنّ «احترام القيَم في تراجع مستمر»، سائلاً الله أن «يهدينا سواء السبيل».