Site icon IMLebanon

الأسير الحالة المصطنعة التي أطاحها “تغيّر الدول”

لم يكن مثيراً للاستغراب والدهشة هذا الاهتمام غير العادي بمشهد اعتقال الشيخ أحمد الأسير وسوقه الى غرف التحقيق بعد وضعه في مقام الصيد الثمين، وهذا التركيز الاستثنائي على ترقب الكشف عن خزانة اسراره المكتوم منها والمعلن وذلك لثلاثة أسباب:

– الاستثمار الواسع والذكي للحدث من جانب الجهاز الامني الذي كان له قصب السبق في عملية القبض على هذا المطلوب الفار في سياق تنافس مضمر بين أجهزة رسمية اتقنت بفعل التجارب لعبة التوظيف منذ أن تنطح مسؤولون أمنيون لهذا الدور السياسي وتحديداً إبان حقبة الوصاية السورية.

– الفراغ المدوّي في الحياة السياسية بعدما نجحت طبقة سياسية الى حد ما في ادخال “الانتفاضة العونية” في دائرة الملل والقنوط وفي امتصاص تداعيات قضية النفايات بعد تأقلم الناس وتقبّلهم قسراً مسألة عجز الحكومة عن حلّها وتعايش المعنيين مع منظر أكوام النفايات في بعض الشوارع.

– تحمس الجمهور عادة للعبة البحث عن تفاصيل الحبكة البوليسية لحالة ارهابية فعلت فعلها في حقبة معينة واسترضتها بعض الزعامات لإزالة الالتباس الذي يكتنف ولادتها ونموها ونهاياتها في بيئة حساسة جداً ومتحولة.

لذا كان بديهياً أن يمضي الجميع في رحلة بحث وتحر عن الجهات التي موّلت الرجل وأمنت له شبكة أمان ورعاية، ووفرت له لاحقاً شبكة حماية في أعقاب هزيمته المدوية في موقعة عبرا الشهيرة وتواريه.

فالرجل الذي بدأ حياته بائع مناقيش وتنقّل في مهن متواضعة كونه من بيئة مسحوقة، اتقن اداء المهمة التي نيطت به وبرع في لعب الدور الذي كلّف إياه على مسرح هو عبارة عن بقعة جغرافية حساسة جداً يتداخل فيها الجنوب المعقل الأساسي لـ”حزب الله” والمقاومة مع المدينة السنية العريقة (صيدا) وصولاً الى أكبر تجمّع للاجئين الفلسطينيين في لبنان (مخيم عين الحلوة)، فضلاً عن امتدادات باتجاه اقليم الخروب والى شريط قرى وبلدات مسيحية في شرق صيدا وجزين.

في تلك البقعة وفي وسط المعبر الى الجنوب ظهر الأسير بخطاب تحد وباستعداد للذهاب الى حيث يخشى الآخرون، ومعه حالة سياسية معروفة تؤمن له حبل السرة للدعم وتوفر له غطاء سياسياً وبيئة حاضنة أغرتها وحركت نوازعها الى حد كبير “عنتريات” الرجل وخطابه التحريضي المكشوف وتصرفاته المنطوية على كثير من مظاهر البهلوانية.

إنه، باختصار، حالة جديدة كل الجدة وغريبة الاطوار، لذا اقامت تلك الظاهرة على فرادة وجاذبية فاقت كل أقرانها وأترابها في مرحلة كبرت فيها آمال شريحة واسعة بقرب توجيه ضربة الى فريق لبناني معيّن من خلال دعم “الثورة السورية” التي كانت في حينه في ذروة تألقها.

ولا يمكن نكران ان ثمة تيارات سياسية تقدم على أساس انها مدنية معتدلة توسلت بشكل أو بآخر الحالة الأسيرية وحالات طبق الأصل لتظهر اعتدالها من جهة ولتصفّي حسابها مع الذين أقصوها من جنة السلطة ودست الحكم وتربك حكومتهم من جهة أخرى، خصوصاً ان الأسير والحالات الشبيهة نجحت في زعزعة الارض من تحت أقدام حكومة الرئيس نجيب ميقاتي.

هذا اختصار مكثف لسيرة مرحلة عمرها أربعة أعوام تحتاج الى فصول لسبر أغوارها وللوصول الى أسرارها. لكن الثابت في مسار تلك المرحلة السوداوية المضطربة ان الوهن ومظاهر الانهيار سرعان ما بدأت تطرق مداميك تلك المرحلة مباشرة بعد التفاهم الكبير الذي شكّل رحم ولادة حكومة الرئيس تمام سلام وسطوع نجم شخصيات من عيار الوزير نهاد المشنوق، واستطراداً منذ ذاك التحول العلني في دورة الحياة السياسية بدأت مرحلة القضم التدريجي لهذه الحالات، فانتهت أولاً ظاهرة قادة المحاور وصولاً الى ضرب الحالات والخلايا “الجهادية السلفية” في بحنين ومناطق عكارية وفي عمق احياء طرابلس القديمة، مما أفضى الى سَوْق أكثر من 300 رمز من هذه الرموز الى خلف القضبان والى قتل بعضهم الآخر، فيما فضّل قسم ثالث الخروج من البلاد أو التواري.

تجربة طويلة عريضة أغرت نواباً وسياسيين ومشاريخ وانتهت نهاية درامية – مأسوية. انها بايجاز قصة المجموعات والرموز التي تُستخدم فيكبر رأسها وتتوهم انها تحرك التاريخ او تكتبه، ثم فجأة ينتهي دورها وتنزل عن المسرح لتصير لاحقاً عبئاً ومشروع جثة سياسية. تلك هي بالضبط حالة أحمد الأسير ابن المذهبين الذي ضاقت به السبل وأوصدت في وجهه أبواب كانت مفتوحة على مصاريعها وأقفلت حنفيات مال كانت ذات عهد فياضة الى أن صار وراء القضبان ينتظر الجميع كيف سيفصح عن خزان الأسرار لمرحلة بدأ فيها النجم الساطع.

وعليه، فالسؤال المطروح بإلحاح هو: هل انطوت صفحة تلك الرموز وحجارتها الى غير رجعة؟ بالتأكيد ثمة تقاطعات مصالح وتحولات عدة اطاحتها، أبرزها:

– عودة “تيار المستقبل” الى دست الحكم.

– قرار اقليمي – دولي يحول دون جنوح الساحة الى درك الانفجار الواسع.

– تبدل الحسابات الميدانية وتعثّر مشروع بدأ في وقت من الأوقات انه داني القطوف.

منذ زمن بعيد انتهى الأسير والحالة الخطرة التي صعدت معه واعتقل أخيراً من دون أن يجد سوى 10 نسوة يحتججن على اعتقاله، في حين أن المطلوب الآخر شادي المولوي خرج في طرابلس من ينصره بطلاً. انها المفارقات ولعبة الرؤوس التي تطير عند تغير الدول وتبدل مجرى الرياح.