بين دخول سمير جعجع للمرّة الأولى قاعة المحكمة ودخول أحمد الأسير إلى «العسكريّة»، 20 عاماً كاملاً يعيد التّاريخ فيها نفسه، وتعيد شخصيّاته التّفاصيل بحذافيرها.
تتعدّد المبرّرات بينهما والتّعطيل واحد. ولذلك، يبدو جلياً تطابق أرشيف جلسات المحاكمات الخاصّة برئيس «القوات» إن كان في المجلس العدليّ أو في محكمة الجنايات، إلى حدّ بعيد، مع ما يجري اليوم في «العسكريّة» حيث الجلسات المعطّلة لإمام «مسجد بلال بن رباح» سابقاً.
يبدو الأسير وكأنّه تعلّم من مسيرة جعجع، حتّى يكاد يعيدها بأمانة من دون زيادة أو نقصان أو أنّه يستمع برويّة إلى «النصائح» الآتية من خلف الزنزانة!
كيف؟
منذ أن وطأت رجلا جعجع سجن وزارة الدّفاع في اليرزة وتحضّر القضاء اللبنانيّ لفتح أبواب قاعاته كي يمثل المتّهم الأشهر في حينه، حتّى بدأ وكلاء الدّفاع عن رئيس «القوّات» بالمطالبة بنقل موكّلهم إلى سجنٍ آخر، وتحديداً إلى رومية.
وفي 27 تشرين الأوّل 1995 زار محامو جعجع النائب العام التمييزي القاضي عدنان عضوم وقدموا له طلبات تتعلق بنقله من سجن وزارة الدّفاع، وآخر يتعلّق باختلائهم بموكّلهم، والثالث يتعلّق «بالتحوطات الصحية والطبيّة الضرورية للمحافظة على صحّة الموكّل، فتبين لنا أن وجوده في زنزانة تحت الأرض تسبب بالإضرار برئتيه، طالبين الترخيص بتقديم طلب تأليف لجنة طبية تعاين جعجع».
وهذا فعلاً ما حصل عندما أعلن عضوم أنّ لجنة طبيّة عاينت جعجع الذي «لا يعاني أي مرض ولا يوجد أي مؤشر على تدهور وضعه الصحي».
لم ينقل جعجع من اليرزة ولم تلبَّ مطالب الدّفاع كافّة. ولذلك، ما إن بدأت جلسات محاكمة رئيس «القوّات اللبنانيّة» حتّى مارس وكلاء الدّفاع عنه حقوقهم بالدّفاع على أكمل وجه وصولاً إلى انسحابهم من الجلسات وتمنّعهم عن حضورها.
وهو الأمر الذي تكرّر خلال جلسات الاستجواب على مدى سنوات وفي أكثر من ملفّ. كان «البيان الرقم 1» إثر اجتماع موسّع لـ131 محامياً عن جعجع (غاب عنهم ثلاثة) أعلنوا فيه «مقاطعتهم للجلسات بعدما عددوا الظروف التي رافقت القبض عليه والجرائم التي يشملها قانون العفو العام والشوائب والمغالطات التي وردت في بعض القرارات القضائية»، بالإضافة إلى رفضهم توقيفه في الانفراد في سجن الوزارة.
لم يتأخّر القضاء في مجابهة موقف وكلاء الدّفاع في التمنّع عن الحضور. وفي بداية العام 1995، كان نقيب المحامين في بيروت آنذاك ميشال خطّار يعيّن ثلاثة محامين من النقابة للحضور إلى جانب جعجع في المجلس العدلي للتحقيق في جريمة قتل داني شمعون وعائلته. استبق الموقوف ووكلاء الدفاع عنه هذا القرار ليعلنوا عن لسان موكّلهم أنّ «التعيين لا يلزمني ولا يعنيني وأرفضهم (المحامين) وأتمسّك بمحامي الدّفاع الأصليين».
وهذا أيضاً ما كرّره جعجع في «العدلي»، من دون أن يغيّر في مواقف المحامين الثلاثة الذين استمهلوا للاطلّاع على الملفّ قبل أن يتركوا الملفّ نهائياً، ويعود وكلاء الدّفاع الأصليون عن جعجع إلى حضور الجلسات، ثم ما لبثوا أن استنكفوا عن ذلك بعد حوالي العام.
حينها، عادت المشكلة، فقام رئيس «العدلي» القاضي فيليب خير الله من جديد بمراسلة نقابة المحامين في بيروت. ولكن تغيّر اسم النقيب أدّى إلى تغيّر الإجراء، إذ رفض النقيب الجديد شكيب قرطباوي في كانون الثاني 1996 تعيين محام بديل لجعجع.
في المقابل، لم يرضخ القضاء اللبناني لتمنّع المحامين عن الحضور، ولذلك فقد اتّخذ كلّ قاضٍ الإجراء المناسب بحق جعجع.
ففي 16 شباط 1996 مثلاً، أدّى ضغط الأسئلة الموجّهة من عضوم إلى جعجع، أثناء إعادة المحاكمة في قضية تفجير كنيسة «سيدة النجاة»، إلى استجوابه من دون حضور محامين.
أمّا في محكمة الجنايات في بيروت حيث كان جعجع يُستجوب في قضيّة قتل الدكتور الياس الزايك، فقد كان الأمر مختلفاً بعض الشيء. إذ تدخّل في جلسة عقدت في نهاية كانون الثاني 1996 ممثّل النيابة العامة القاضي غسان فواز الذي قال: «إنّ هذه المقاطعة يمكن أن تستمر لكن المحاكمة لا يمكن أن تتوقف، وسير العدالة لا يمكن أن يتوقف».
وعلى الفور، اتخذ رئيس المحكمة سهيل عبد الصمد قراراً بتكليف ثلاثة محامين للدّفاع عن جعجع، ليردّ الأخير قائلاً: «أرفضهم ليس لشخصهم بحد ذاتهم إنما أرفضهم بالمبدأ فأنا أرفض تكليف محام للدفاع عني لأن لديَّ محامين أصيلين».
أوجه الشبه كثيرة
اليوم، يتكرّر هذا السيناريو حرفيا. تغيّر اسم الموقوف ووكلاء الدّفاع عنه. ومع ذلك، الأمر سيّان.
بدا المشهد نفسه عندما تمّ القبض على جعجع وبعده الأسير. كان المطلب الأوّل هو النقل إلى سجنٍ آخر، والإشارة إلى تدهور الحالة الصحيّة وبقائهما انفرادياً في سجنٍ تحت الأرض، برغم أنّ الاثنين ظهرا في جلسات علنيّة في قاعات المحاكم. هنا، حيث يمنع على الموقوفين مواجهة أهلهم، كان الاثنان من «المحظيين».. في البداية حضرت ستريدا جعجع، وبعد 20 عاماً أتت «الحاجة أمل» بـ «تشادور» أسود تنتظر انتهاء الجلسات لمقابلة زوجها في غرفة محاذية للمحكمة بحضور الشرطة العسكريّة.
فارق وحيد في المشهد هو مكان وجود المناصرين. فعندما قرّر مناصرو جعجع تحيّة قائدهم من الغرفة التي فتحت أبوابها لتطلّ على الغرفة التي يُستجوب فيها في «العدلي»، تمّ إخراجهم جميعاً. أمّا مناصرو الأسير، فلم يبذلوا جهداً في مشاهدة «شيخهم». نظرة واحدة من خلف القضبان إلى المقاعد الأماميّة، تعني «العين بالعين».
ولأنّ مناصري إمام «مسجد بلال بن رباح» صاروا في صفوف المدّعى عليهم، لم يتجرأ أيّ منهم على النّطق بالتحيّة، سوى واحد قال في جلسة سابقة إنّه مستعدّ للبقاء إلى جانب الأسير عشر سنوات، قبل أن يضيف في جلسة أمس، أنّه لا يقبل بفصل ملفّه عن ملفّ الأسير قبل التحقّق ممن أطلق الرصاصة الأولى في عبرا، ليقوم وكيل الدّفاع عنه محمد المراد باعتزال الوكالة على القوس!
إذاً، التعطيل سيّد الموقف بين زمنين. وكلاء الدفاع عن الأسير يستنكفون عن الحضور. تبدو الفوارق قليلة: نقل الأسير من سجن إلى آخر مثلٌ حيّ. فالدّولة التي رضخت لمطالب «الشيخ» لم ترضخ قبل أعوام لمطالب «زعيم الحزب المنحلّ» في ظروف سياسيّة مغايرة.
طالب الأسير بثلاثة مطالب حقّقت له الدّولة اثنين منها، وبقي واحد: الإخبار المتعلّق بالطلقة الأولى. المفاجأة أنّ الإخبار، بحسب ما كشف مفوّض الحكومة المعاون القاضي هاني حلمي الحجّار في جلسة أمس، أنّ النيابة قد حوّلت الإخبار إلى الجهة الأمنية المعنيّة للبدء بالتحقيق، متوجّهاً إلى الأسير قائلاً: «هذا ما يؤكّد أنّها (الاستنكاف) حجّة للتعطيل وأن وكلاء الدفاع عنك أصلاً لا يتابعون الإخبار وإلّا لكانوا علموا أنّه تمّ تحويله».
ما يقوله الحجّار في الجلسات يتقاطع مع ما قاله ممثل النيابة العامّة القاضي غسّان فوّاز الذي أشار يوماً إلى أن الدّفاع يعطّل سير العدالة. الاثنان تحدّثا عن التّعطيل وسلبيّاته على تحقيق العدالة.. وكأنّ الـ20 سنة التي انقضت لم تنقضِ!
وما فعله أيضاً منذ 20 عاماً القاضي فيليب خير الله فعله رئيس المحكمة العسكريّة العميد حسين عبدالله، أمس، عندما أعلن في الجلسة تسطير كتاب لنقابة المحامين في بيروت «لأخذ العلم واتّخاذ ما يلزم على ضوء تمنّع وكلاء الدّفاع عن الأسير عن حضور الجلسات، ما يؤدّي إلى عرقلة سير العدالة، وذلك كإجراء أوليّ».
وهذا يعني أن سيناريوهات الجلسات اللاحقة ستذهب حكماً إلى النّمط الذي كانت عليه جلسات سمير جعجع. فإمّا أن ينحو النقيب أنطونيو الهاشم باتّجاه قرار سلفه قرطباوي فيتمنّع عن تعيين محامين، أو يذهب باتّجاه قرار خطّار بتعيين محامٍ أو أكثر للدّفاع عن الأسير.
وهذا يعني أنّ المحامي (أو المحامين) الجديد سيحضر في الجلسة المقبلة التي حدّدها عبدالله في 10 كانون الثاني المقبل (إذا لم يحضر محامو الأسير) وأن يستمهل للاطّلاع على الملفّ، قبل أن يتمنّع هو الآخر عن حضور الجلسات بعد رفض الأسير لمهامه، كما حصل مع جعجع تماماً.
أمس، تقدّم الأسير من المنصّة حينما سأله العميد عبدالله عن سبب عدم حضور وكلاء الدّفاع عنه الجلسات، فأجاب: «إنهم ينتظرون البتّ بالإخبار، وهكذا تتحقّق العدالة».
قبل 20 عاماً وعلى بُعد مسافة أميال من «العسكريّة»، وقف جعجع. سأله خيرالله: «هل تعني أن غياب وكلائك هو وسيلة من وسائل الدفاع؟»، فأجاب: «نعم».
.. هكذا يعيد التّاريخ نفسه، فهل يصل نحو العفو؟!