تشكّل تحويلات المغتربين الشريان الحيوي للإقتصاد اللبناني، ما يجعل من تناولها بالأرقام وغيرها موضوعاً لا ينضب، نظراً إلى أهميتها في العجلة الإقتصادية للبلاد.
رئيس قسم الأبحاث والدراسات الإقتصادية والمالية في بنك بيبلوس الدكتور نسيب غبريل قال في حديث إلى «الشرق»: «بلغت تحويلات المغتربين إلى لبنان بحسب تقديرات البنك الدولي 7 مليارات و500 مليون دولار في العام 2015 بارتفاع نسبته 1 في المئة عن العام 2014، وبلغت هذه التحويلات في معدلها السنوي 6 مليارات دولار بين 2005 و2009، في حين بلغ منذ العام 2010 إلى العام 2015 ما قيمته 7 مليارات و200 مليون دولار. أما التحويلات بالنسبة إلى الناتج المحلي فتشكّل 15 في المئة تقريباً وتُعتبر سابع أعلى نسبة في العالم في الأسواق الناشئة من بين البلدان ذات اقتصادات تفوق العشرة مليارات دولار».
وأضاف:» المؤشر المهم يُترجم في قيمة تحويلات المغتربين مقارنة بعدد السكان اللبنانيين المقيمين، والبالغ تقريباً 1600 دولار لكل شخص مقيم سنوياً، مقارنة بالدخل الفردي في لبنان البالغ 11 ألفاً و500 دولار تقريباً، ما يدل على زيادة مدخول اللبناني المقيم سنوياً جراء هذه التحويلات، ويفسّر مستوى الإستهلاك في لبنان والحركة الإقتصادية بالرغم من كل المعوقات السياسية والأمنية وعدم الإستقرار إلى جانب تباطؤ النمو الذي بلغ معدله 1،3 في المئة سنوياً بين 2011 و2015.
أما مصادر التحويلات فحدّدها غبريل بخمسة بلدان تشكّل 65 في المئة من مصدر التحويلات، هي: المملكة العربية السعودية، الإمارات، الكويت، قطر، والولايات المتحدة الأميركية. وبحسب الإحصاءات غير المنشورة والصادرة عن مصرف لبنان، تتصدّر السعودية قائمة الدول الخمس، وهذا أمر طبيعي لكونها تضمّ أكبر عدد من اللبنانيين».
وعن مصير هذه التحويلات في المستقبل القريب، قال غبريل: «أشيع في الفترة الأخيرة أن الخطوة التالية لدول الخليج تجاه لبنان هي ترحيل اللبنانيين المقيمين فيها، لكن فعلياً، أعلن مجلس الوزراء السعودي بشكل واضح في بيانه الصادر بعد إعلان تجميد الهبة إلى الجيش اللبناني والقوى الأمنية، أنه حريص على الشعب اللبناني بكل أطيافه ولا يمكن إلحاق الأذية به، وكذلك الإمارات أعلنت ترحيبها باللبنانيين المقيمين لديها مؤكدة أن لا خطر عليهم، لكن بالطبع كل شخص لا يخضع للقوانين والأنظمة المعمول بها سيتم ترحيله، لأي بلد انتمى».
ولفت إلى أن عوامل عدة تؤدي إلى إمكان تراجع التحويلات، وقال:» صدر العديد من الأقاويل أن التحويلات ستتراجع بفعل هبوط سعر برميل النفط، لكن أرقام البنك الدولي أظهرت أن التحويلات لم تتراجع، برغم أنه حصل ذلك بنسبة 5 في المئة في العام 2014، ومن الطبيعي أن تنخفض لكون المبلغ مرتفعاً جداً من بين أكبر 15 بلداً متلقياً للتحويلات في العالم، مقارنة ببلدان الصين والهند ومصر والمكسيك والتي يفوق عدد سكانها بكثير عدد اللبنانيين».
وتوقع «تراجع حجم التحويلات لأسباب لا علاقة لها بسعر برميل النفط، علماً أن المغتربين يتمركزون في بلدان ذات كلفة معيشية عالية، كالدوحة والرياض، ودبي، وأبو ظبي، ولاغوس، ولواندا، ونيويورك، وباريس، ولندن…إلخ،»، وأوضح أن الأسباب التي تؤدي إلى انخفاض مجموع التحويلات هي:
1- ارتفاع كلفة المعيشة محلياً خصوصاً إذا ارتفع معدل إنفاق المغترب لأسباب عدة منها شراء منزل، أو تأسيس عائلة، ما يعني أن حجم مصروفه سيزداد، إضافة إلى سداد ضرائب مرتفعة جداً تصل إلى 30 و35 في المئة من مدخوله الخاص لا سيما في بلدان أوروبا الغربية وأميركا الشمالية وأوستراليا، ما يؤدي تلقائياً إلى تقليص التحويلات التي يرسلها إلى لبنان.
2- العامل الإيجابي الذي يدفع بالتحويلات صعوداً هو تثبيت سعر صرف الليرة في سوق القطع، وحجم الثقة بها وبمصرف لبنان والثقة بالمصارف التجارية اللبنانية. أما العامل السلبي لبقاء التحويلات في هذا المستوى المرتفع، فهو الهجرة المستمرة من لبنان والتي لم تتوقف بعد الحرب لأسباب اقتصادية ومعيشية. وكانت معدلات الهجرة تراجعت ما بين الأعوام 2004 و2006 لكنها عادت وارتفعت اعتباراً من العام 2007، ولا تزال مستمرة. ومن الوهم الإعتقاد أن لدينا جاليات لبنانية أو مغتربين بأعداد كبيرة، فذلك من باب التمني، إذ هناك على سبيل المثال 4 ملايين برازيلي من أصل لبناني لم ولا يزوروا لبنان ولا يجيدون اللغة العربية وليس لهم أي صلة بلبنان إطلاقاً. أما المغتربون الذين لديهم تواصل مع أهلهم في لبنان فعددهم لا يتجاوز المليون و200 ألف شخص. من هنا إن استمرار الهجرة لأسباب اقتصادية ومعيشية هي التي تؤدي إلى ارتفاع مستوى التحويلات.
وخلص إلى القول إن الهجرة من أهم العوامل التي تسبّب ارتفاع معدل التحويلات إلى لبنان، «وكل ما يُحكى عن أن تراجع سعر برميل النفط سيؤدي إلى تراجع معدل التحويلات هو مجرّد أقاويل، حتى أن أرقام مصرف لبنان حول تحويلات المغتربين التي تتناول الأشهر الستة الأولى من العام 2015، تبيّن ارتفاعها 4 في المئة وذلك أفضل من أرقام البنك الدولي».
وتابع: «حتى اليوم لا تراجع في التحويلات، وإن وُجدت فلا تعود إلى هبوط سعر برميل النفط. كما أن التهويل بترحيل اللبنانيين من دول الخليج، ليس سبباً أيضاً لتراجع التحويلات، فتقلّب معدلات التحويلات موضوع متشعّب ولا يعود إلى سبب وحيد».
وتوقع غبريل أن «تتقلص التحويلات الآتية من نيجيريا بسبب الشحّ في العملة الأجنبية من جهة، وتراجع سعر صرف العملة النيجيرية من جهة أخرى، وتُعتبر نيجيريا مصدراً مهماً للتحويلات»، وقال: «لكن الدول الخمس التي تشكل المصدر الاساس للتحويلات الى لبنان، عملاتها مثبتة بالدولار الأميركي وبالتالي لا تقلبات لعملاتها في مقابل الدولار الأميركي».
أضاف: «وإن تراجعت التحويلات في العام 2016 بنسبة 10 في المئة من 7 مليارات و500 مليون دولار في 2015 ، يبقى ما قيمته 6 مليارات و800 مليون دولار، أي ما يوازي 1400 دولار للمقيم اللبناني، وهو رقم كبير».
وتحفظ غبريل «عن اعتبار بعض السياسيين المغتربين اللبنانيين كأنهم «قجة» أو «حساب مصرفي» ويدعونهم إلى الإستثمار في لبنان وإيداع ودائعهم فيه، وتمضية عطلاتكم فيه … إلخ، بدل العمل على تفعيل هذا التواصل مع الإغتراب اللبناني وتقويته»، وقال: «تنقصنا اليوم استراتيجية عملية ورؤية واضحة طويلة الأمد من أجل تقوية التواصل مع الإغتراب اللبناني وتوسيعه مع الجيل الأول، واستراتيجية توعوية للجيل الثاني من المغتربين الذي لا يعرف شيئاً عن بلده الأم. وتشجيع المغتربين على الإنخراط في العمل السياسي في بلدهم، والأمر الأساسي السماح لهم بالإقتراع من خلال السفارات في البلدان المقيمين فيها، إنها الطريقة الفضلى لتواصل المغتربين مع بلدهم الأم».