دخل لقاء الديمان الذي عُقد أمس حدثاً جديداً في الحياة السياسية، ولم يقتصر على الشكليات، بل بحث في عمق بعض الأمور حتى لو لم يتخذ قرارات. وإذا كانت بكركي قد عبّرت عن ارتياحها، إلا أنّ الهمّ الأول للبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي يبقى انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
بعد سيطرة الفراغ الرئاسي على قصر بعبدا عام 2014، رأى رئيس الحكومة آنذاك تمام سلام أنّ أفضل صيغة لعدم استفزاز المسيحيين في ظل الفراغ هو توقيع الـ24 وزيراً على أي قرار يُتخذ، لكن حكومة سلام لم تكن حكومة تصريف أعمال، كما حال حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. ومع إرتفاع الصوت المسيحي الممتعض من تخطّي ميقاتي صلاحيات تصريف الأعمال كان المخرج بعقد لقاء وزاري في الديمان لطمأنة البطريرك والمسيحيين.
سجّل لقاء الديمان نقاطاً عدّة في الشكل والمضمون، فقد وجّه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي رسالة إلى المسيحيين وسيد الصرح مفادها عدم قيامه بأي عمل إستفزازي أو التصرّف وفق عصبية معينة واستغلال غياب رئيس الجمهورية الماروني، بل كل ما قام به سابقاً بعد الشغور يتم وفق قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»، أو وفق ضرورة تسيير شؤون الدولة وحاجات الناس التي تتطلّب قرارات حكومية.
النقطة الثانية التي نجح فيها ميقاتي كانت إحراج وزراء «التيار الوطني الحرّ»، فأظهر أمام الرأي العام اللبناني أنّ رئيس الحكومة السني يدعو إلى لقاء تشاوري في مقر أهم مرجعية مسيحية في لبنان والشرق ويتحمل الإنتقادات، بينما من يدعي تمثيل المسيحيين في الحكومة ويدافع عن حقوقهم يتغيب عن اللقاء الذي يعقد في مقر البطريركية المارونية وليس في السراي.
عملياً، حاول ميقاتي أمس من خلال إطلالته من الديمان «التكفير عن ذنوبه» وتلميع صورة رئيس الحكومة الذي يحكم بعضلات «الثنائي الشيعي»، وغير الآبه برأي المسيحيين، وظهر كابن طرابلس الوسطي وغير الطائفي ولا يستخدم فائض القوة التي يمدّه بها «الثنائي»، ودغدغ مشاعر بكركي بكلامه عن المشكلة الأساس وهي انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وكان محور «الثنائي الشيعي» أذكى من «التيار الوطني الحرّ» بالتعامل مع الدعوة إلى الديمان، فلم يغب وزراء حركة «امل» و»حزب الله» وتيار «المرده»، ولم يصوبوا على اللقاء، بل تعاملوا معه بايجابية تامة.
ومن جهة الراعي، فقد أعاد تصويب البوصلة وأثبت للجميع عدم قدرة البلاد على السير بلا المكوّن المسيحي، فمجرّد عقد اللقاء في مقر البطريركية هو دليل على تأثير بكركي ومكانتها وأن أحداً لا يستطيع تخطّيها.
وقد تكون هذه السابقة هي الأكثر وقعاً بعد اتفاق الطائف وتمثلت بعقد اللقاء في مقر ديني وغير رسمي، فالرئيس فؤاد السنيورة كان يستعيض عن جلسة مجلس الوزراء أثناء فترة حصار السراي بعقد لقاءات وزارية تشاورية، لكن هذه اللقاءات كانت تعقد في مقار رسمية وليس في مقر ديني، وبعد هذا الإجتماع أثبتت بكركي أنّها مرجعية وطنية وليست مسيحية فقط. أما الأهم فقد أوصل الراعي رسالة الى الداخل والخارج بالقول: «نحن هنا ولا يستطيع أحد تخطينا»، وهذا النجاح الثاني في أشهر قليلة، فقد أجبرت بكركي فرنسا على التراجع عن سلوكها الرئاسي وأبلغ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الراعي بهذا الأمر لحظة زيارته الأليزيه، وكذلك إستبدال فريق الأليزيه بالموفد جان ايف لودريان مقدماً الإعتذار عن تخطي دور البطريركية المارونية والمسيحيين.
وعلى رغم التغيير الفرنسي إلا أن مواقف الراعي ظلت عالية السقف، وهذا ما كشفه خلال اللقاء الوزاري حين أعلن أنه قال للودريان: «كل ما تسمعه لا يعبّر عن الحقيقة. نحن جمهورية ديموقراطية برلمانية وهناك مرشحان للرئاسة، فليقم النواب بواجباتهم في الاقتراع، فإمّا ينتخب رئيس أو لا ينتخب، وفي ضوء النتيجة يصار إلى حوار واتفاق على مرشح ثالث. وللاسف البلد سائر إلى الخراب والدولة تنازع وما نشهده من سجال في شأن حق الحكومة في العمل وحدود ذلك هو نتيجة»، وبالتالي وجّه الراعي ضربة للمقترحات الفرنسية بالحوار، بينما يجب إحترام الدستور والذهاب إلى الإنتخاب.
وعلى رغم الإنتقادات، فقد كان الدستور الحاضر الأقوى في لقاء الديمان، ففي وقت تخوّف لبنان الرسمي والشعبي من عودة المقاطعة السعودية والخليجية، وجّه اللقاء رسالة رسمية وروحية بمشاركة جميع الأطياف إلى الرياض مفادها التمسك بصيغة «الطائف» وعدم الإنقلاب عليه والدخول في تجارب جديدة.
لا تحتاج البطريركية إلى هذه اللقاءات لتأكيد مكانتها سواء السياسية أم التربوية أم الإجتماعية، لكن من الضروري حسب بعض الأساقفة التذكير بأن البلد لا يُحكم بالتسلط وفائض القوة، بل يجب احترام جميع المكونات، وإلا لا مهادنة مع من يستقوي ويخرق الدستور.