كتب جوزف صقر
صباح الأربعاء لم يكن كغيره من صباحات لبنان، فلم تشرق تلك الشمس الجديدة التي طالما غنتها، وبشرى نهار جديد طويت مع الفجر، حين انطفأت صباح لبنان وهي نائمة، ورحلت الشحرورة الاسطورة كما ترحل طيور أيلول في آخر الصيف، معلنة مجيء الخريف، فيما خريف الفن يستفحل في بلد الفن والجمال كلما سقطت ورقة من شجرة نمت وغمرت بفيئها الشرق وأرخت بظلها على مناطق واسعة في العالم، حيثما يحل لبناني…
شائعة بموتها انتشرت قبل أيام، أحست معها الراحلة انه آن الاوان، فرحلت قبل طلوع الصباح، «لتريح الجميع، ولاختبار حياة أخرى»، كما كانت تردد في الفترة الاخيرة.
لقد شعرت الصبوحة انها أصبحت وحيدة، مع رحيل من رحلوا من رفاق الدرب، وآخرهم كان عملاق الصوت وديع الصافي، و«تقلت دفة الميزان بهاك الميلة»، كما قال رفيقها الذي سبقها الى العالم الآخر، في الكثير من أعمالهما المسرحية المشتركة، نصري شمس الدين، فاختارت الصمت الاخير، فسكت صوتها الذي غرد فريدا في عالم الاغنية وزرع مواسم الفرح في القلوب العطشى الى الجمال.
الأحد المقبل، ترجع الشحرورة، جانيت الفغالي، ابنة بدادون، وللمرة الاخيرة، الى ضيعتها التي أحبتها وغنتها، لكنها لن تتسلق شجرة الزيتون «اللي كانت تبكي على فرقتنا»، «راجعة مطرح ما شفت النور نام»، لتنزرع بجوار من احبوها ورحلوا، وكانوا لها سندا في بداية مشوارها الكبير، وخصوصا عمها شحرور الوادي، أسعد الفغالي الذي أطلق عليها كنيته لأنه أدرك ان هذا الصوت سيملأ الدنيا صداحا عذبا. لكن صوتها لن يغني بعد اليوم الا في القلوب وعبر المحطات الاذاعية والتلفزيونية التي سيتلون أثيرها كل يوم بنغماتها ساعات وساعات تعشق فيها الحياة.
«عا بابك ليش موقفني والباب مسكر؟ قرب صبيعك واقطفني عنقودي أشقر…»، فجر 26 تشرين الثاني 2014 قطفت يد الموت العنقود المثقل بحلاوة العمر، لكن سخرية القدر ان تموت صباح في غرفة في فندق، هي التي سكنت بيوت الناس كلها، في لبنان وبقـاع عـديدة من العـالم.
عند سن الـ87 توقف الزمن…
صباح، هيهات أن تطل صباح جديدة…
صباح الحياة، صباح الفرح، صباح الابتسـامة المشرقة، جانيت الفغالي: صباح الخير…
رحلت «الصبّوحة»… وبقيت الأسطورة… وداعاً
ساعاتها الأخيرة ووصيّتها
كان يوم اول من أمس الثلاثاء يوماً عادياً للصبوحة التي كانت لا تزال تقرأ تعليقات المحبين على آخر شائعة وفاة طاولتها، وقامت ابنة شقيقتها كلودا التي ترافقها باستمرار بنشر صورة لها وهي تمسك الهاتف وتقرأ تعليقات المطمئنين عليها، وطمأنت كلودا المحبين إلى أن الصبوحة بخير.
في المساء شعرت الفنانة الكبيرة بضيق حاد في التنفس، فطلبت كلودا طبيبها الخاص بصورة عاجلة، وحضر الطبيب إلى الفندق حيث تقيم وبعد أن عاينها طمأن كلودا إلى أنها بخير وأن قلبها سليم.
وكانت الصبوحة تشعر بغثيان حاد، فبقيت كلودا إلى جانبها إلى أن تحسنت حالتها ونامت فتركتها مع ممرضتها هنادي التي دخلت لتطمئن عليها عند الثالثة فجراً، فاكتشفت أن الصبوحة رحلت.
ابنة شقيقتها كلودا عقل، التي نعتها عبر «فايسبوك»، قالت: «يا أحباب الصبوحة، الصبوحة اليوم راجعة على ضيعتا عالأرض اللي حبّتا وحبّتا، الصبوحة اليوم راحت عالسما عند الرب الكبير راحت عند أهلا واخوتا اللي اشتاقتلن كتير.
صباح الحياة صباح الفرح صباح الابتسامة المشرقة دايما صباح الضحكة المرسومة باصعب الاوقات بتودعكن وبتقلكن ما تبكو وما تزعلوا عليي وهيدي وصيتي الكن. قالتلي قوليلن يحطو دبكة ويرقصوا بدي ياه يوم فرح مش يوم حزن. بدي ياهن دايما فرحانين بوجودي وبرحيلي متل ما كنت دايما فرّحن. وقالتلي قلكن انه بتحبكن كتير وانو ضلوا تذكروها وحبوها دايماً».
وتابعت: «يا احباب الصبوحة، الصبوحة ما عادت موجودة معنا بجسدا في هاللحظة، الساعة 3 فجر اليوم (امس) طلعت روحا الى الخالق وهي نايمة، حتى في رحيلها كانت هنية ومتل النسمة وما زعجت حدا ولا تعبت حدا، الصبوحة رحلت بالجسد بس رح تضل موجودة بقلوبنا الى الابد، رح نشتقلك كتير كتير كتير يا حبيبتنا، يا ريت كان بإيدنا نعطيكي كل لحظة من عمرنا ونخليكي معنا اكتر واكتر، بس هاي ارادة ربنا.
منحبك صبوحة منحبك للأبد وما رح ننساكي ابداً ابداً، الله يرحمك يا صبوحة ويغفرلك وتكون نفسك بالسما مع الابرار والقديسين».
وختمت كلودا: «هذه كلمات صباح إلينا. هذه وصيتها: الفرح».
لا أخاف الموت
وفور وفاة صباح انتشر على مواقع التواصل الإجتماعي مقطع فيديو لها من مقابلة لقناة «دريم» المصرية، تكشف فيه رغبتها في اكتشاف الموت في عيد ميلادها الـ87.
وتقول «الشحرورة» باللهجة المصرية: «انا اأسأل ربنا، اقول له لماذا معيشني كدا، كفاية تعبت». وتضيف: رغم عمري ورغم كل حاجة احبّ الدنيا.. احب الناس، وارى كل حاجة حلوة.. ما انا عارفي الموت ما يعملي شي، يعني لقيت نفسي بالحياة ولازم روح ارتاح، ونشوف العالم الثاني إذا احلى من هنا ولا لأ؟
وردا على سؤال مقدّم البرنامج: هل يجي بذهنك العالم الآخر؟ تجيب «الشحرورة»: انا ما بخاف منو، عرفت كل حاجة، الفرح والحب والأهل والأصحاب..
يسألها: صباح ليست خائفة من الموت، ما حدّ يجب يتكلم عن الموت، انتي فتحتي الحديث عن الموت، هذه اول مقابلة احس بها صباح تتحدث عن الموت!
تجيب: نعم الموت ما بهمينيش.. ساعات ساعات، ساعات ساعات احبّ عمري واعشق الحياة، أحبّ كلّ الناس..
اعمالها الفنية
ومن أغنياتها المعروفة التي لا يزال يرددها الكبار والصغار «تعلى وتتعمر يا دار» و«دخل عيونك حاكينا» و«جيب المجوز يا عبود» و«ساعات ساعات» و«عالضيعة».
وصباح التي لقبت بـ«الشحرورة» و«الأسطورة»، هي أول فنانة لبنانية غنت على مسرح الأولمبيا في باريس مع فرقة روميو لحود الاستعراضية في منتصف السبعينات، كما اعتلت خشبات مسارح عالمية أخرى كارناجري في نيويورك، ودار الأوبرا في سيدني، وقصر الفنون في بلجيكا، وألبرت هول في لندن، وغنت على مسارح لاس فيغاس في الولايات المتحدة. وبفضل المنتجة اللبنانية الاصل اسيا داغر، دخلت صباح السينما المصرية في العام 1943 واطلت في فيلم عنوانه «القلب له واحد» للمخرج هنري بركات.
توالت بطولات صباح السينمائية حتى شاركت في نحو 85 فيلمًا مع كبار الممثلين، بينهم رشدي أباظة الذي تزوجته لفترة وجيزة، وأحمد مظهر، ومحمد فوزي، وفريد الأطرش. وكانت تعتبر أن أفضل أدوارها السينمائية كان فيلم «الايادي الناعمة».
وأطلت صباح في 27 مسرحية بينها «موسم العز» و«دواليب الهوا» و«القلعة» و«الشلال» و«فينيقيا» و«شهر العسل» و«ست الكل» و«وادي شمسين». و«كنز الاسطورة» هي اخر مسرحية قدمتها مع زوجها السابق فادي لبنان.
وحملت صباح، إضافة إلى الجنسية اللبنانية، ثلاث جنسيات أخرى هي المصرية والأردنية والأميركية. وكانت على صلة وثيقة بعدد من الرؤساء والملوك العرب الذين قدروا فنها، وكانت صديقة لأسرة عاهل الأردن الراحل الملك حسين.
حياة صاخبة عاطفياً
وإلى جانب صخب حياتها الفنية، عاشت حياة صاخبة على الصعيد العاطفي، اذ تزوجت تسع مرات من نجيب شماس والد ابنها الطبيب صباح شماس في العام 1946، وخالد بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود، وعازف الكمان المصري انور منسي الذي انجبت منه ابنتها هويدا في العام 1952، والمذيع المصري احمد فراج، والفنانين رشدي اباظة ويوسف شعبان، والنائب السابق في البرلمان اللبناني يوسف حمود، والفنانين اللبنانيين وسيم طبارة، ثم فادي لبنان الذي تزوجته في العام 1984 واستمرت علاقتهما 17 عاما، وكان ارتباطها به من اطول زيجاتها.
ولم تتوان صباح التي عرفت بشخصيتها الصادقة والجريئة، عن الاعتراف في حديث تلفزيوني انها خانت معظم ازواجها مع رجال اخرين لأنهم كانوا يخونونها أيضا. ورأت ان غالبية ازواجها كانوا يستغلون شهرتها وثروتها لمصالحهم.
وعرفت صباح بكرمها، وكانت تنفق المال بسخاء على من تحب وتساعد من يحتاج، لذلك كان يطلق المقربون منها عليها لقب «مدام بنك».
واتسمت علاقتها بابنتها بشيء من التوتر، واعترفت صباح بان شهرتها عذبت ابنتها، وان تجربتها مع ازواجها أثنت هويدا عن الزواج. وحين اصيبت هويدا بأزمة صحية نتيجة ادمانها في العام 2006 باعت صباح منزلها، واقامت في فندق برازيليا وادخلت ابنتها إلى مصح في كاليفورنيا… حتى تماثلت للشفاء.
وكانت صباح رمزا للاناقة، وعرفت بشعرها الاشقر الغزير المتدلي على كتفيها حتى ارتبطت تسريحتها باسمها، وكانت تردد «أتمنى اذا خسرت ثروتي إلا أخسر جمالي وأناقتي». ورغم تقدمها في السن، رفضت أن تشيخ وان تعتزل الغناء، واستمرت في اجراء المقابلات والمشاركة في الاحتفالات الفنية. ومن آخر اغنياتها «شو فيها الدني» التي تم تصويرها بطريقة الفيديو كليب.
عبرت صباح عن سعادتها لحصولها على جوائز تكريمية عدة خلال سنوات حياتها الاخيرة. وكرمها رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان بتقليدها وسام الارز الوطني برتبة ضابط أكبر ضمن مهرجانات بيت الدين 2011.
وكان عرض في العام نفسه مسلسل «صباح« الذي اثار جدلا حول دقة سرده لمحطات معينة.
نعي
وقد نعى صباح كل من رئيس مجلس الوزراء تمام سلام، الرئيس العماد ميشال سليمان صباح، الرئيس فؤاد السنيورة،النائب وليد جنبلاط، وزير الثقافة ريمون عريجي، وزير الاعلام رمزي جريج، وزير العدل اللواء أشرف ريفي، الوزير بطرس حرب، النائب ألان عون، النائب فادي كرم، السيدة نازك رفيق الحريري، و كل من مفوضية الثقافة في الحزب التقدمي الاشتراكي، دائرة الثقافة والفنون في القوات اللبنانية، الحركة الثقافية ـ انطلياس، المجلس البلدي في مدينة صيدا برئاسة المهندس محمد السعودي، المركز الدولي للملكية الفكرية والدراسات الحقوقية – فكر ICIP)).
وقدم السفير السوري علي عبد الكريم علي، بتكليف من الرئيس السوري بشار الاسد، التعازي بالفنانة صباح، الى عائلتها في فندق «برازيليا» في الحازمية. وعبرت العائلة عن امتنانها وتقديرها «لهذه اللفتة الكريمة من الرئيس الاسد»، مشيرة الى «المحبة الكبيرة التي كانت تحملها الفقيدة لسوريا».
الأحد وداع رسمي وشعبي…
ووصيّتها لمحبّيها: ليكن يوم فرحٍ ودبكة ورقص
نعت نقابة الفنانين المحترفين وعائلة الفغالي، الأسطورة شحرورة لبنان صباح (جانيت الفغالي). يسجى جثمانها الحادية عشرة من قبل ظهر يوم الأحد 30 الحالي في كاتدرائية مار جرجس المارونية – وسط بيروت، حيث يترأس رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس مطر الصلاة لراحة نفسها عند الثانية من بعد الظهر في مأتم رسمي وشعبي ويوارى في الثرى في مسقط رأسها في بدادون.
تقبل التعازي يوم الوداع الأحد، ويومي الاثنين والثلثاء 1 و2 كانون الأول في صالون كاتدرائية مار جرجس المارونية – وسط بيروت من الحادية عشرة قبل الظهر ولغاية السادسة مساء.