IMLebanon

نصرالله يوزع الرسائل في خطاب «المنتصر النزيه»:

نصرالله يوزع الرسائل في خطاب «المنتصر النزيه»:

«لبننة» المعركة… وإنصاف الجيش… ونصيحة للمسلّحين

عماد مرمل

بحجم الانتصار الكبير على ارهابيي الجرود، وبما يليق به ويستحقه، بدا خطاب الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي أعلن مساء أمس عن تحقيق انتصار عسكري كبير جدا، موضحا انه سيُستكمل قريبا، إما بالمفاوضات وإما بالقوة.

ترفع نصرالله في كلامه المدروس عن الصغائر والصغار، وظهر شامخا كالجبال المحررة في الجرود، ومتواضعا كبساتين الكرز فيها.

لم ينزلق «السيد» الى الزواريب ولم ينخرط في السجالات. حافظ على نقاء النصر وطهارته، وأهداه الى كل اللبنانيين من مسلمين ومسيحيين والى جميع شعوب المنطقة.

تحلى «السيد» في خطابه بأخلاق «المنتصر النزيه». تجاهل المُعادين واستوعب المتمايزين وقدّر المؤيدين واحتضن المضحين. أكثر من ذلك، ابدى نصرالله قدرا كبيرا من الرقي البليغ وسعة الصدر في التعامل مع أعدائه ممن يقاتلون المقاومة في صفوف «جبهة النصرة» وسرايا أهل الشام، ليثبت مرة جديدة ان الحزب يخوض الحرب كما السياسة متسلحا بمجموعة من «آداب السلوك» .

ظهر نصرالله حريصا على سلامة النازحين السوريين وحتى على عائلات المسلحين، اكثر من مقاتلي «النصرة» أنفسهم، مؤكدا انه لا علاقة لنا بنسائهم واطفالهم، ونحن ليس كغيرنا. كما بدا مسكونا بهاجس حماية أهالي عرسال أكثر مما توحي به المرجعية السياسية لهذه البلدة، مطمئنا إياهم الى ان بلدتهم لم تكن يوما مستهدفة من قبل الحزب.

كان «السيد» خائفا على المدنيين حتى من خطأ غير مقصود او قذيفة طائشة، الى حد انه طلب من المقاتلين التمهل في انهاء الجزء الاخير من العملية العسكرية والحذر في استخدام بعض أنواع الاسلحة، تجنبا لالحاق أي أذى بالمدنيين.

أطل نصرالله بهدوء ما بعد العاصفة، تغلفه طمأنينة الواثق في قدرات المقاومين وارادتهم. لم يُفقده الانتصار توازنه او اتزانه، بل هو اتكأ عليه حتى ينصح النصرة بالتجاوب مع خيار التسوية عبر المفاوضات للانسحاب من آخر مواقعهم في الجرود، مشيرا الى ان هذه المفاوضات التي تتم عبر جهة رسمية اكتسبت شيئا من الجدية وحقق بعض التقدم خلال اليومين الماضيين، وداعيا قيادة «النصرة» في ادلب الى التعاطي بمزيد من الواقعية مع التطورات الميدانية.

وخلافا للاتهامات التي وُجهت اليه بأنه أطلق معركة تحرير الجرود خدمة لاجندة سورية او ايرانية، بادر نصرالله الى «لبننة» المواجهة والانجاز بشكل كامل، بدءا من مرحلة التخطيط وصولا الى موسم القطاف. وابعد من ذلك، بلغ التواضع بـ«السيد» حد الايحاء للبنانيين الداعمين للمقاومة بأنهم معنيون بإيقاع المعركة ونجاحها، وليسوا فقط مؤيدين ومناصرين لها، طالبا منهم عدم الضغط علينا في الوقت وعد الساعات والايام لإتمام الحسم العسكري.

وتعامل الامين العام لحزب الله بمسؤولية عالية مع اللحظة الراهنة، وتصرف كرجل دولة وليس فقط كقائد للمقاومة، وهذا ما عكسه قوله بأنه لن يرد على كلام الرئيس الاميركي دونالد ترامب ضد حزب الله مراعاة لمهمة الوفد اللبناني الرسمي في واشنطن (برئاسة الرئيس سعد الحريري).

اما الجيش اللبناني، فقد انصفه نصرالله وقدمه شريكا اصيلا في الانتصار، من خلال الاجراءات التي اتخذها والسد المنيع الذي بناه حول عرسال والمخيمات لمنع تسلل المسلحين في هذا الاتجاه او ذاك.

وتجنبا لاي اجتهاد في تفسير نيات الحزب من قبل «قارئي الفنجان» ومنعا لاي شرود في مخيلات الخصوم، أعلن نصرالله صراحة عن الاستعداد لتسليم المواقع التي سيطرت عليها المقاومة الى الجيش اللبناني إذا كان جاهزا لذلك، الامر الذي من شأنه ان يُسقط نظرية توظيف الانتصار في حسابات حزبية او مذهبية.

وتفادى نصرالله المتخصص في صناعة المفاجآت الكشف عن كيفية التعاطي لاحقا مع مسلحي «داعش» في الاجزاء الاخرى من الجرود، محتفظا بـ«الغموض البناء» الذي يشكل بحد ذاته سلاحا مؤثرا.

ولأن عناصر المقاومة، من شهداء وجرحى واسرى ومقاتلين إضافة الى أهاليهم، هم صنّاع الانتصار وحراسه، فقد خاطبهم نصرالله بتأثر شديد، محاصرا الدمعة التي حاولت ان تفلت من عينيه، ومتوجها اليهم بعاطفة متدفقة، اضفت على الانتصار بُعدا وجدانيا، زاده بريقا.

وفي انتظار ان تقرر «بقايا» جبهة النصرة وجهتها، سواء نحو الانسحاب بالتفاوض او استمرار القتال حتى النهاية، بات مؤكدا ان رقعة انتشار مقاتليها اصبحت محصورة في كيلومترات معدودة ضمن جيوب جردية متاخمة لمخيمات النازحين في وادي حميد ومدينة الملاهي، فيما لجأ الجيش اللبناني الى تعزيز حضوره العسكري في القاع وراس بعلبك تحسبا لاحتمال بدء الهجوم على مراكز داعش في جرود البلدتين قريبا.

وأبعد من تحرير الجرود، انعكست العملية العسكرية ربيعا متجددا للمقاومة التي أعادت انتاج حضورها في الوجدان الوطني العام، واكتسبت من جديد زخما معنويا وعاطفيا كبيرا، كانت بحاجة اليه، بعدما صرفت جزءا من رصيدها خلال السنوات الماضية، تحت وطأة الاستحقاقات التي واجهتها والحملات المنظمة التي تعرضت لها.

وفيما تستعد الولايات المتحدة لفرض عقوبات جديدة على الحزب وتشديد الحصار المالي عليه، كان هو يكسر الحصار الداخلي ويتمدد مجددا في عروق النسيج اللبناني بعد انسداد بعضها في المرحلة الماضية، متجاوزا الاصطفافات الطائفية والمذهبية.

ولعل الحزب معني بان يرسمل مرة اخرى على هذا التعاطف والتضامن معه، بحيث يعيد توسيع رقعة البيئة الحاضنة، ردا على محاولات حصره في الوعاء الشيعي، في سياق السعي الحثيث الى اعطاء الصراع طابعا مذهبيا.

اما القلقون من الطريقة التي سيصرف بها الحزب انجازه النوعي في جرود عرسال، فالارجح انهم يعانون من «فوبيا الانتصارات» ، لا سيما ان المقاومة ليست اساسا بهذا الوارد، إضافة الى ان طبيعة المرحلة لا تحتمل اي توظيف لنتائج المعركة او فائض القوة، على المستوى الداخلي، إذ ان رئيس الجمهورية أنتخب، وقانون الانتخاب أقر، والحكومة الحالية باقية حتى ايار المقبل، والمقاومة التي كانت تواجه في ايار 2008 خطر استهداف سلاح الاشارة باتت الآن تمتد من اقصى الجنوب الى تخوم الجولان.

وعليه، فان المقاومة تشعر بأن ظهرها آمن ومحمي على الصعيد الاستراتيجي، في ظل وجود رئيس للجمهورية يتناغم معها، ورئيس مجلس نيابي حليف لها، وقائد للجيش يتكامل معها، وحكومة محكومة بتوازن دقيق يمنع اي تعرض لها، وأجهزة أمنية تبرع في التصدي للارهاب، فيما يبدو ان بعض الاصوات المعاكسة لا يتجاوز تأثيرها حدود التشويش.

من يحق له ان يقلق هو العدو الاسرائيلي الذي يتابع قادته ومحللوه بتوتر تقدم المقاومة في جرود صعبة وجبال شاهقة يرتفع بعضها اكثر من 2000 متر عن سطح البحر، مع ما تتطلبه هذه الجغرافيا المعقدة من كفاءة عسكرية عالية، وتخطيط نوعي.

لقد جرب الحزب حتى الآن كل انواع القتال. اختبر المواجهة في الصحراء (تدمر والبادية) والمدن (حلب والقصير) والارياف السورية، والجرود والجبال في عرسال والقلمون، مكتفيا مع خصوصية كل ساحة وجبهة. والحصيلة التراكمية هي مزيد من التجارب والخبرات التي نقلت الحزب الى مصاف الجيوش، وفق تقديرات أعدائه قبل غيرهم. بهذا المعنى، فان سيناريو دخول المقاومة الى الجليل الاعلى، إذا نشبت حرب مع اسرائيل، يصبح واقعيا ومحتملا في حسابات العدو، تأسيسا على «القيمة المضافة» التي اكتسبها حزب الله من معارك سوريا والجرود اللبنانية، معطوفة على حرب تموز.

لكن، وعلى بُعد آلاف الاميال من جرود عرسال، برزت واحدة من المفارقات اللبنانية الصارخة التي يجدر التوقف عند دلالاتها. خلف البحار، وبالتزامن مع هجوم حزب الله على التكفيريين في الجرود، كان الرئيس الاميركي دونالد ترامب يستهدف الحزب بحملة عنيفة، على مسمع ومرأى من الرئيس سعد الحريري الذي يترأس حكومة تضم في صفوفها الحزب، بل انه لولا التفاهم السياسي مع الحزب، ما كان الحريري ليعود اصلا الى رئاسة الحكومة.

وبمعزل عن اي نوع من الحسابات والاعتبارات، فقد كان مزعجا ومؤسفا، اقله من حيث الشكل والرمزية ان يبادر رئيس دولة أجنبية، مباشرة على الهواء، الى شن مثل هذا الهجوم القاسي على حزب لبناني يشكل جزءا من مجلسي النواب والوزراء، في حضور مسؤول رسمي في الدولة اللبنانية.

ولعل من غرائب ترامب انه وضع حزب الله في مصاف «القاعدة» و«داعش» في وقت يخوض الحزب في جرود عرسال معركة شرسة ضد فرع القاعدة في بلاد الشام متمثلا في «جبهة النصرة» ويستعد لتحرير تلك الجرود من «داعش» ايضا، إضافة الى انه يخوض مواجهة شاملة منذ سنوات ضد هذين التنظيمين التكفيريين في سوريا.

ومن عجائب ترامب انه اعتبر ان حزب الله يشكل تهديدا للبنان ولشعبه، في حين ان معركة الجرود ترمي الى حماية لبنان وأهله بشكل اساسي وسط احتضان وطني واسع للمقاومة، وتكامل بينها وبين الجيش، من الادوار الميدانية الى رفع صور شهداء المؤسسة العسكرية فوق مواقع «النصرة» التي تساقطت كحجارة الدومينو.