أُحرج رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري، فأخرج “تيار المستقبل” شاهراً سيفه على عموم الحلفاء “السابقين والمستجدين” وعلى الخصوم. في بيان إتصف بلغة حادة وواضحة وجّه “المستقبل” رسائله إلى الجميع باستثناء الثنائي الشيعي. وتكاد تكون هي المرة الأولى التى لا يتم الغمز فيها من قناة “حزب الله”.
إستعار البيان اللغة ذاتها التى يستخدمها رؤساء الحكومات الثلاثة السابقون في بياناتهم لجهة الحفاظ على موقع رئاسة الحكومة وعدم المس بالصلاحيات، مع مفارقة التلميح إلى الذين يحاولون أن يظهروا في الساحات مثل “تشي غيفارا”، ليغمز بذلك من قناة من التحقوا بالثورة أخيراً. وإذا كان الرد تناول “التيار الوطني الحر”، فهو لم يسقط الرد على “القوات اللبنانية” فتم وضعهما في الخانة نفسها… ورد على الفوقية في التعاطي مع البيان الذي صدر عن رئاسة الجمهورية بشأن تأجيل موعد الاستشارات إلى الخميس المقبل وذلك من باب التضييق عليه.
خلافاً لتمنيه بأن يكون غالباً، خرج الحريري من المعادلة مغلوباً نتيجة موقف “القوات” بعدم تسميته فأسقطوه، الذي قال للحريري “إما معاً في الحكومة أو معاً خارجها”. ربح جبران الرهان وخاب أمل الحريري وصار الرجلان خارج المعادلة. ومن التقى الحريري بالأمس شعر بضيقه وامتعاضه مما حصل معه، وعمل جردة حساب طويلة انتهت إلى ما قاله في بيان “المستقبل” المسهب.
في التوصيف السياسي لم يعد للحريري “ضهر يحميه” لا حلفاء في الداخل، وفي الخارج رفع عنه الأميركيون كما الأوروبيون الغطاء السياسي وفي “8 آذار” ما وصل إلى حد اعتبار أن دول الخليج ابتعدت عن الحريري.
إعتقد رئيس حكومة تصريف الأعمال أن الحراك في الشارع يفيده، فاستقال متماهياً. يوم قدم ورقة اصلاحية، دعمه لتنفيذها الثنائي الشيعي، ونصحوه بالصمود لتقطيع المرحلة وتسوية الأوضاع. وعدهم بعدم الاستقالة وصدقوه، حتى أنهم شككوا بمن جاءهم يقول الحريري سيستقيل. لكنه خذلهم واستقال ظناً منه أنه سيعود أقوى. غفر له “حزب الله” كما بري، لكن “الوطني الحر” أسقط ورقته بعد الاستقالة مباشرةً وبدأ رحلة البحث عن البديل. وفق قراءة قوى “8 آذار”، فعلى رغم بيانه الذي قال فيه “ليس أنا بل أحد غيري” غير أن سلوكه بقي على قاعدة “أنا أو لا أحد”، أسقط ترشيح محمد الصفدي وبهيج طبارة ووعد سمير الخطيب بدعمه، وكان كلما سأله الأخير عن بيان التأييد قال له: “غداً إن شاء الله” إلى أن طلب منه قبل يومين من الإستشارت أن يزور دار الفتوى، ليقول له المفتي عبد اللطيف دريان جملته الشهيرة “سعد الحريري مرشحنا الوحيد”، وبرر له الحريري فعلته بأنه مضطر لمواكبة مطالب الشارع. وظنّ الحريري أنه بإخراج باسيل من المعادلة سيكون هو الأقوى حكماً، ولم يكن يخطر في باله أن يأتيه يوم يندم فيه على الاستقالة من أساسها، ولم يبق من حلفائه إلا رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس “التقدمي” وليد جنبلاط والطرفان لم يعد بإمكانهما فعل الكثير لإنقاذه. بين الحريري الذي أصر على الاستقالة وباسيل الذي أصر على الانتقال إلى المعارضة، ضاقت خيارات الثنائي الشيعي. لم يترك الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله والرئيس بري وسيلة لردع جبران عن خطوته لكنه أصر عليها. قال له بري بالحرف إنّ خروجك سيورطنا في مشكلة قد لا نقدر على تحمل تبعاتها. قد يكون في ظن رئيس “القوات” سمير جعجع انه أضر بباسيل لكنه في واقع الحال ألحق الأذى بالحريري، الذي ضاقت الخيارات أمامه لأنه لن يجد من يتبناه إلا بعد موافقته على حكومة تكنو – سياسية مع باسيل، وهذه قد لا يكون بمقدوره تحمل تبعاتها أيضاً. أصيب الحريري بنكسة مسيحية، فحليفه التاريخي أي “القوات” أصابه بنكسة، ومن أنجز معه التسوية أخرجه من المعادلة، فكان طبيعياً أن يكتب ما كتبه.
وليطلب الحريري تأجيل الاستشارات يعني أنه يستبق الأمور بحجة اللاميثاقية، علماً أنه في التسمية ليس المفروض التكليف بناءً على هويات الكتل طائفياً، وبناء عليه فالحريري إنما قصد تفادي التكليف بأصوات زهيدة، وهو يعرف ضمناً استحالة التأليف في هذه اللحظة، لأن الحكومة بمثل ما كانت ستكون عليه غير ميثاقية حكماً وليس فيها التمثيل المسيحي الوازن.
لكن السؤال الكبير إذا كانت مشكلة الحريري مع عون معروفة الأسباب فإنّ ما لا جواب عليه بعد، ما الذي حصل في الساعات الست الفاصلة بين موافقة “القوات” على تسميته ثم الانقلاب على موقفها؟
“زمن البطولات انتهى، زمن العضلات السياسية انتهى”. قال بيان “المستقبل” ناطقاً بلسان الحريري، لكن في المقابل فإن البعض يقول إن المؤكد الوحيد أن طريق عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة لم تعد ميسّرة على غرار ما كانت عليه في السابق، ولم يعد هو مطلب الجماهير على ما كان عليه في السابق، ويبدو أنّ التغيير قد وقع وهو لم يعد مقتصراً على المصارف فحسب بل في السياسة أيضاً.