لم يُخيل لأشد المتشائمين في تياري «المستقبل» و«الوطني الحر» أن تبلغ العلاقة هذا المستوى من الإنحدار بين رئيسيهما سعد الحريري وجبران باسيل ومعه طبعا الرئيس ميشال عون.
مهما كابر التياران، فإن التدهور الحاصل اليوم هو انعكاس لافتقاد باسيل والحريري للكيمياء التي جمعتهما منذ نيف وثلاثة أعوام. حينها، رسم عون والحريري معالم ما اصطلح على تسميته بالتسوية الرئاسية التي أفاد منها رئيس «التيار الحر» حينها، العماد عون، ومعه خليفته المطلق في كل شيء، باسيل، من جهة، والحريري ومعه «المستقبل»، من جهة أخرى.
تيه سني وصعود مسيحي
وإذا كان الحريري قد ساهم في استقرار عون على عرش الرئاسة، فإنه كان أكثر استفادة لأكثر من سبب. حينذاك، لم تكن الطائفة السنية في لبنان في أفضل أحوالها. والواقع أنها كانت تمر في مرحلة تيه وسط وضع مذهبي ملتهب في معظم المنطقة جاءت عودة الحريري الى رئاسة الحكومة لتحدث خرقا فيها.
حدّت العودة من تراجع «المستقبل» في ظل حالة عامة من الإحباط لدى الطائفة من تطورات الإقليم, وبرغم ذلك، إستمر «التيار» في تصدر الشارع السني، وبعد مكابرة حريرية لاختزال الطائفة بعد أن أضر بها هذا الاختزال أكثر مما أفادها، إستدرك زعيم «المستقبل» الأمور متصالحا مع أقطاب الطائفة وأحزابها وتياراتها.
وهو بذلك جابه كل من اتهمه بالخضوع ومسايرة مرشح «حزب الله» لرئاسة الجمهورية بما يعاكس النبض السني العام في البلاد. وكانت حجة المعارضين للتفاهم مع عون وباسيل أن «الجنرال» تحول من دوره «وطني» في التسعينيات الى رفع شعارات طائفية بامتياز بعد عودته، ما أوجد حساسية لدى الجمهور السني.
وفي مقابل هذا التيه السني، سكر العونيون بصعودهم التاريخي الى السلطة بعد أن حلوا دوما في موقع المعارضة، سواء عبر الشارع أو بعد انخراطهم في السلطة حيث استمروا على المنوال ذاته.
والواقع أن التيار الأكبر لدى المسيحيين الذي اصطف مع محور متقدم في المنطقة وفي لبنان حيث يمثل «حزب الله» رأس حربته، كان، على النقيض من «المستقبل» والسنة، في مرحلة صعود، ما لبثت أن ظهرت جلية في هجمته الكبرى على الوظائف المسيحية في الدولة مطيحا بحلفه المرحلي مع خصمه الاكبر في الطائفة «القوات اللبنانية».
ومع حاجة الحريري للحلف المقدس مع عون، راهن الأول على احتضان رئيس الجمهورية له في سبيل مصالحة حقيقية مع الوجدان السني. وقد جهد عون لتكوين هذا الانطباع لدى شارع سني وجد صعوبة في هضم ما حصل. وللأمانة، حقق الزعيم المسيحي بعض الخرق على هذا الصعيد لكن ذلك لم يكن كافيا في ظل ما اعتبره «المستقبل» جشعا في السلطة بدا جليا من قبل باسيل.
التفاهم الفوقي
والواقع أنه بعد أن سارت الرياح بما اشتهت سفن الحريري طويلا، ها هي عاكست ما يلفت كثيرون، بمن فيهم قياديون عونيون بارزون، الى كونه تفاهما فوقيا جاء على مزاج باسيل والحريري ولم يسقط نفسه على القاعدة.
شرع الرجلان في محاصصة مكشوفة أفاد منها باسيل أكثر من الحريري، لا بل أن الرئيس الجديد لـ«التيار الحر» جاهر بسياسة طائفية نافرة حتى بالنسبة الى أكثر حلفاء باسيل قربا كـ«حزب الله».
يتوقف القيادي في «المستقبل» مصطفى علوش طويلا عند سلبيات سياسة باسيل على هذا الصعيد. لقد كشفت هذه السياسات والتي أوصلت الى الصدام مع الحريري، واقع أن العلاقة بين الجانبين لم تكن جيدة في أية مرحلة من المراحل، لا بل أنها لم تقترب من وصفها بالعادية.
برز صوت علوش، وهو من صقور التيار (برغم عدم تحبيذه تلك التسمية)، عاليا مع انحدار العلاقة بين عون وباسيل من جهة، والحريري من جهة أخرى. في المقابل، خفت الى حد التلاشي صوت من دافع عن تفاهم هش أريد له أن يرمم علاقة ملتبسة بين الطرفين.
يبدي علوش مقته للسياسة الاستفزازية لباسيل التي فرقت اكثر مما وحدت، ولم تساهم سوى في ضرب التفاهم والتسوية عبر جشع لا محدود.
لكن الأمور ليست كذلك إطلاقاً لدى «التيار الحر»، الذي ينفي النائب آلان عون صبغ أداءه بالطائفية. لكن واقع الحال أشار الى ان ملفات خلافية عديدة برزت على هذا الصعيد وتعالت أصوات وسجالات ذكّرت بملفات خلافية جاء موضوع التحاصص في الكهرباء على رأسها، لكن مهما كان الحال فإنه يشير الى أمر واحد: باتت الكيمياء بين الحريري وباسيل مفقودة.
من جهته، لا ينفي عون تراجع العلاقة الشخصية بين الحريري وباسيل، لكنه لا يختصر التراجع به على صعيد علاقة لم تبلغ مرحلة اللاعودة. لكن في كل الأحوال، لم يفعل هذا المستجد في انكسار العلاقة التي أريد لها أن تُعبد طريق باسيل الى الرئاسة الاولى ومسلك الحريري لتكريسه رقما يصعب تجاوزه في الرئاسة الثالثة، فقط، بل أن شياطين الماضي سرعان ما ظهرت وباتت الحريرية السياسية نفسها مصدر الانقسام والتجريح.
يؤكد علوش أن الحريري، بعد أن رأى واقع الامور مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية، إختار الرحيل عن الحكومة بعد أن أصبح على قناعة أن التفاهم الرئاسي أثبت عقمه. وثمة من يؤكد أن الخلاف العميق حول خيارين ورؤيتين للبنان وللإقليم كان السبب في تفجر الأمور.
جبهة معارضة؟
من يمعن في مواقف «المستقبليين» يستشف انعدام الخيارات لديهم. ليس في إمكان رجل كالحريري، أو أن لا رغبة لديه، في عرقلة عمل الحكومة. لكن «لا تدوير للزوايا بعد اليوم»، حسب «المستقبليين».
ويطرح علوش تكوين جبهة سياسية مع الشركاء هدفها الإصلاح. هي جبهة قد تضم قوى ما عرف بـ«14 آذار» وهم المخاصمون للحكومة، إضافة إلى مستقلين وكل من يريد الالتحاق بهم. وسيكون لها برنامجا وطنيا يبدأ بتحسين الوضع المالي مرورا بإدارة الدولة وترشيق القطاع العام وتقليصه، وبالطبع التوصل الى قانون للانتخابات يأتي بتشكيلة نيابية ذات برنامج يواجه التدهور الحاصل في البلاد.
هذا الامر سيعني أن لا مواجهة في الشارع للحكومة التي يعمل الدكتور حسان دياب على تشكيلها، وخاصة أن دياب قد أحسن في إظهار نفسه مدافعا عن حقوق طائفة رئيس الحكومة وكان صلبا في رفض الضغوط وجريئا في تحمل المسؤولية، حسب المراقبين، في ظل واقع صعب على الصعد المختلفة.
على أن واقعية «المستقبل» تدفع به الى التسليم بأن الحكومة سوف تنطلق، أما عن الانتاجية والقبول بها من الخارج، فهذا شأن آخر.
يشير «المستقبليون» الى أن امام الحكومة جبهتين للعمل، داخليا وخارجيا. في الاولى عليها الشروع في إصلاح مالي بالغ الأهمية يؤمن إعادة توازن واستقرارا للدولة، يوفر بدوره موئلا لسياسة خارجية قوامها التوافق الداخلي في سبيل إجراءت قاسية ومؤلمة غير شعبية.
مؤدى هذا الكلام أن المعارضة التي سترتسم في وجه الحكومة لن تصطدم بها، في الوقت الذي لا يبدو أن العونيين في وارد التخلي عن لعبة السلطة التي بدأوا يتقنون دهاليزها. ويبدو أن ملفاتهم للمرحلة الثانية من العهد ستكون حبلى بالمراجعة لسياساتهم الماضية، خاصة على صعيد مهادنة الحريرية في رؤيتها المالية والاقتصادية. وهو رأي استقر عليه «التيار» نزولا عند رغبة صقوره من الذين يحمّلون التسوية سبب تراجعهم الشعبي الذي جاء نتيجة الاستدارة عن مبادئهم التاريخية في رفض السياسات التي أدت بالبلاد الى التدهور على النحو الذي أدت إليه.
وستشهد الفترة المقبلة مزيدا من التباعد بين التيارين على خلفية تلك المراجعة ورغبة باسيل في انتهاج سياسة اقتصادية مغايرة للسابق، ويبدو أن كلام زعيم «المستقبل» حول المخاصمين للحريرية السياسية والذين منعوها من العمل، قد مهد لهذا الأمر.
من ناحية الحريري و«المستقبل»، وهما حضرا بقوة في الايام الماضية دفاعا عن ثابتتين أساسيتين في المعادلة الداخلية مثل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمدير العام لقوى الأمن الداخلي عماد عثمان، بعد ان تعرضا لوابل من الانتقادات، فسيكون عليهما مواجهة فترات عصيبة خارج السلطة. ومع أنها ليس المرة الأولى، فإنها اليوم مغايرة للسابق. إذ من دون حاضنته الإقليمية الرئيسية التي استعاض عنها جزئيا بحلفه مع العهد، وبهدنته مع «حزب الله»، بات على الحريري أن يتقبل مستقبلا، لأسفه العميق، صعود شخصيات وتيارات أخرى داخل الطائفة السنية، في موازاة تراجع مستمر له على الصعيد الشعبي.