واهمٌ من اعتقد أنّ الرئيس ميشال عون في صدد التراجع أمام ضغط الشارع، أو أمام من تحصّن بالشارع. الرجل ليس من صنف الشخصيات التي تتهيّب المواقف الصعبة أو الاختبارات الخطيرة، لا بل تزيده تلك الظروف، صلابة ورفضاً للاستسلام… فيتقدّم إلى الأمام وعينه على الهدف.
بهذا المعنى، ستكون الجولة الجديدة من المشاورات الحكومية صعبة جداً، بعدما أقفلت دار الفتوى نادي الترشيحات لرئاسة الحكومة على رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري، أو من يمثله. إنها العودة إلى المربع الأول، والقاعدة الأساس: سعد الحريري وجبران باسيل.
هذه “المعادلة القاتلة” هي التي أنتجت سيناريوات ترشيح من خارج “بيت الوسط”، نظراً إلى إصرار عون على التصدي لدفتر شروط الحريري والقاضي بإخراج باسيل من الحكومة، فأتت بالوزير السابق محمد الصفدي، ومن ثم بهيج طبارة، ومن بعده سمير الخطيب. وها هو فؤاد المخزومي يستعد لدخول نادي المرشحين!
يرفض رئيس الجمهورية السماح لرئيس حكومة تصريف الأعمال باستخدام رمال الشارع المتحركة، لفرض انقلاب سياسي يكون هو بطله، وباسيل “ضحيته”. ولهذا لم تجد مطالب الحريري مخرجاً ذكياً يسمح له بالغوص في مفاوضات جدية مع بقية شركائه الحكوميين لإعادة تأليف حكومة ما بعد 17 تشرين.
حتى اللحظة، يغلّب عون خيار حكومة الأكثرية النيابية على ما عداها. لا يرى نفسه مضطراً لمجاراة الحريري في لعبة حرق الأسماء والوقت. يقرّر كما دوماً، الذهاب إلى الأمام. لكن ممانعة الثنائي الشيعي هي التي تحول، إلى الآن، دون ذلك.
ولهذا، قد لا تجد آذان العاملين على خطّ المقار الرسمية، الكثير من الإصغاء، طالما أنّ كل فريق يتسلّح بموقفه ويرفض التراجع عنه لتقديم أي تنازل.
“سؤال المليون” الذي يشغل بال الكثيرين: كيف صار الحريري بين ليلة وضحاها شخصية محنّكة قادرة على المناورة؟
بعض من يعرفون الرجل يعتقدون أنّ هناك أكثر من عامل لعب دوره في بلورة سلوكه في المرحلة الأخيرة، وجعل من عودة المياه إلى مجاري علاقته بباسيل، ضرباً مستحيلاً:
أول تلك العوامل، هو انكفاء ضابط ايقاع العلاقة، رجل الأعمال علاء الخواجة، والذي لعب دوراً توفيقياً في الكثير من المراحل.
ثانيها، الاعتبار الشخصي الذي دفع الحريري إلى “الأخذ بالثأر” من المرحلة السابقة، التي قضمت من طبق شعبيته وصوّرته وكأنه تابع لمنظومة باسيل لا شريكاً له.
ثالثها، العنصر الجديد الذي فرضه الحراك الشعبي على طاولة الحسابات السياسية، حيث يتصرف الحريري على قاعدة أنّ الشارع “أكل” العهد ومعه “التيار الوطني الحر”، وبالتالي هي فرصته الذهبية لتعويض ما تعرض له من ضرر طوال الحقبة الماضية.
رابعها، حرص الثنائي الشيعي على رفع ترشيح الحريري إلى المرتبة الأولى، خلافاً لوجهة نظر رئيس الجمهورية، ما زاد من رصيده في معركة التفاوض.
ورغم ذلك كله، يقول المطلعون على موقف الحريري، إنّ الخشية من انفجار القنبلة المالية – الاقتصادية تدفعه إلى التردد، ولذلك إذا ما أطلقت يداه في الحكومة، فسيكون متحمساً لإعادة تشغيل مولداته لا سيما في عواصم القرار بحثاً عن منقذ للمالية العامة. ولكنه في هذه الحالة، يواجه تصلّب “حزب الله” الرافض وضع “رقبته” تحت مقصلة حكومة خالية من الدسم السياسي، ولذا يتحصن باتفاق الطائف لدفع أي رئيس حكومة مكلف إلى احترام موازين قوى البرلمان واحترام نتائج الانتخابات النيابية.
ولهذا يؤكد هؤلاء أنّ نهاية سيناريو ترئيس سمير الخطيب لم تكتب أبداً في “بيت الوسط” كما يعتقد كثيرون. يشيرون إلى أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال كان جدياً في دعمه لمدير “خطيب وعلمي”، لكنه في النتيجة غير قادر على تغطيته سنياً. لا بل أكثر من ذلك، يجزمون أنّ رئيس “تيار المستقبل” طلب من فريقه الاستشاري الاقتصادي وضع سلّة الخطط والمشاريع الاقتصادية والاستثمارية في عهدة الخطيب، لتكون على طاولته فور تسميته رئيساً مكلفاً. ويضيفون أنّ الحريري كان يستعد للتوجه إلى المغرب فور الانتهاء من الاستشارات النيابية ليبدأ إجازة طويلة، قبل معاودة نشاطه السياسي.
وفي هذا السياق، يلفتون إلى أنّ الحريري “أُلبِس” تهمة حرق الخطيب لاعتبارات سنّية بحتة. وهذا ما يفسّر تقبّله على مضض دور رؤساء الحكومة السابقين، بعدما صاروا “شريكاً مضارباً” له في القرار السني، ويحرجونه مزايدةً ومن خلال رفع سقف الخطاب. ولهذا يجوز القول إنّ الحريري لا يستطيع تغطية بديل عنه يرضي الثنائي الشيعي، في المقابل لا يرضى الثنائي ببديل لا يستطيع الحريري تغطيته. وتلك معضلة أساس لا تقلّ تعقيداً عن معادلة الحريري- باسيل.