مربك رئيس الحكومة السابق سعد الحريري إلى أقصى الحدود: هل يطلق العنان لأوركسترا المعارضة ويفتح النار بوجه الخصوم، فـ”ينتف ريش” الحكومة مثلاً؟ أم يتحلّى بالصبر والهدوء بانتظار فرج ما لا أحد يدري من أين سيطلّ لـ”يهدّي بال” اللبنانيين ويسمح بعودة اللعبة السياسية الى قواعدها التقليدية؟
كان الاعتقاد سائداً حين قرر الرجل تسليم مفاتيح السراي لمن آلت إليه، أنّ البركان الاجتماعي – الاقتصادي وحده سينفجر بوجه خلفه وبوجه مجموعة الدعم السياسي المحيطة به. وإذ بالبلاد توضع، كما كل الكرة الأرضية، على “فالق” الكورونا الذي قرر هزّ استقرار البشرية جمعاء!
عشية رفع يديه رفضاً لأي تفاهم قد يعيده إلى رئاسة الحكومة، كان غالب الظنّ أن الحريري يتدلل ليحسّن دفتر شروطه، مستغلاً حاجة الآخرين لدوره في قيادة دفة الحوار مع المجتمع الدولي الغاضب على لبنان لألف سبب وسبب. لكن حقيقة الأمر أنّ رئيس “تيار المستقبل” كان يتفنن في مراكمة طلباته التعجيزية وكأنه يطلب “اللامستطاع كي لا يُطاع”، لاقتناعه أنّها مرحلة الأرض المحروقة التي ستلتهم الأخضر واليابس، ولن يكون بمقدوره تقمّص دور سوبرمان الانقاذي. ولا ضير بالتالي من جلوس غيره على كرسي السراي التي تحولت إلى معمودية نار “ستشوي” كل من يقترب منها.
جلّ ما حاول القيام به هو تأمين ضمانات وقائية لحقبة “ما بعد الحريري”، لتكون انتقالية، موقتة، غير انقلابية بالمعنى السياسي، وبأقل الأضرار الممكنة التي قد تلحق بمنظومته السياسية والادارية. ولهذا، لم يلجأ رئيس الحكومة السابق إلى سلاح المعارضة الفتّاك – الأرجح أنه غير متوفر أصلاً لكونه سيفاً ذا حدين سيذبح كل اللبنانيين – واكتفى بالجلوس بين منزلتين: لا هي معارضة بالمطلق ولا موالاة. وإنما الانتظار والترقب.
يعرف الحريري وفق المقربين منه أنّ الويلات الاقتصادية والاجتماعية التي تصيب اللبنانيين، تحول دون منح ترف المعارضة لأي مكون سياسي. باتت الهوة شاسعة بين اهتمامات الناس وهمومهم ومصائبهم، وبين خطابات السياسيين وتنظيراتهم. بالأساس، بات كل هؤلاء في قفص الاتهام الشعبي، وستكون المهمة شبه مستحيلة لاقناع الناس بجدوى صفّ الكلام وصوابيته لأنها باتت فعلاً أزمة لقمة عيش ورغيف خبز.
ومع ذلك، وجد رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل بين مفردات اطلالته الاعلامية الهادفة إلى “تأديب” الحكومة، مساحة كي يذكّر مستمعيه بظروف سقوط الحكومة الأخيرة، فيعيد تصويب سهامه نحو سعد الحريري. إذ توجه للحكومة الحالية بالقول: “أشرف للحكومة ان تنجز وتسقط من ألا تنجز وتسقط… واذا كان محكوم لها ان تسقط، فلتسقط بشرف… وليس كما حصل معنا”.
ذهب أبعد من ذلك، ليلاقي من يحاول القول إنّ حكومة حسان دياب تقف على رجل واحدة وقد تقع في أي لحظة ليكشف: “ليس خافياً ان البعض اراد لهذه الحكومة ان تكون لفترة قصيرة، ثم ترحل لتعود السابقة وهذا ليس بخفيّ وتمت مفاتحتنا به. وعندما رأوا ان هذه الحكومة تعمل وقد تستمرّ، بدأوا يستعجلون رحيلها، وهناك تقاطع بهذه المصلحة بين بعض من في داخلها ومن في خارجها، فنراهم يهددون مراراً بالاستقالة!”.
كان من الممكن أن يمرّ كلام باسيل مرور الكرام، طالما أنه معدوم التأثير على مجرى الحكومة، إلّا أنّ الأخيرة فتحت في سلوكها باب الملاحظات والشكوك في آن واحد، كما يقول المقربون من الحريري، حيث صار من الضروري “تفتيح العيون” أكثر لرصد ما تخبئه الحكومة في جدول أعمالها… ولو أنّ الكوفيد 19 ضاعف المصائب وجوّف الامكانات، وسخّف الجدل السياسي، أياً تكن استهدافاته.
وفق هؤلاء، لا يتصرف الحريري من منطق الكيدي الذي قرر “تفخيخ” الطريق أمام خصومه. وإنما يتعالى عن الخلافات لإدراكه أنّ الويلات التي تصيب اللبنانيين لا تحتمل الركون إلى القواعد الكلاسيكية. يتجنّب الاصطدام، ليس خوفاً من الآخرين ولكن خشية على البلد. ولهذا، منح الحكومة فرصتها ولو لم يقلها بالحرف الواحد. المطلوب أن تنجح الحكومة بمهمتها الانقاذية وتنقل البلاد إلى شاطئ الأمان، هذه مصلحة جماعية وليست مصلحة فريق دون آخر.
ولذا لم يتردد في الثناء على الجهود التي بذلتها الحكومة في سبيل إعادة المغتربين إلى وطنهم، بعد المناشدة التي وجهها لفتح مطار رفيق الحريري بشكل استثنائي للسماح للراغبين بالعودة.
وعلى خلاف الاعتقاد السائد، لا يخشى الحريري من عقدة الاطاحة به أو إلغائه حتى لو كانت رياح المرحلة غير مؤاتية. فالرجل لا يزال وفق المقربين منه، يمثل شريحة كبيرة من الطائفة السنية، لا يمكن تجاوزها. هو الرقم الأول، وبالتالي الصعب. وبالتالي، يقول هؤلاء: لا يظنن أحد أنّها ستكون نسخة جديدة عن التهميش المسيحي الذي حصل في تسعينات القرن الماضي، حين أقصي كبار ممثليهم واستعيض عنهم ببعض الشخصيات التي أسقطت بباراشوت الوصاية السورية.
بنظر هؤلاء لا يمكن مواجهة الحريري بمعادلة “كش ملك”. هو أصلاً من اختار الخروج من الحكم برجليه من دون تسمية خلف له، ولم يكن المشهد تكراراً لسيناريو خروجه من البيت الأبيض في العام 2011. وهو لا يفكر في العودة إلى السلطة، لكن الحكومة تراكم السلبيات على سجلّها بشكل يثير الريبة من سلوكها.
فسلة الأسماء التي طرحت للمواقع المالية تشي بامكانية التحضير لانقلاب سياسي داخل الإدارة العامة. قد تكون البداية على المستوى المالي، لكنها بداية غير مشجعة اذا ما اعتمدتها الحكومة قاعدة لعملها في التعيينات الإدارية. فيما يحور رئيس “التيار الوطني الحر” ويدور لتحميل “المستقبل” مسؤولية الارث المالي، وكأنّ فريقه لم يكن مشاركاً في هذا الإرث طوال السنوات العشر الأخيرة، وها هو يقود حملة “مشبوهة” في أهدافها وغير مبررة على رئيس مجلس ادارة “طيران الشرق الأوسط” محمد الحوت، فيما رئيس الجمهورية ميشال عون يتحدث أمام “مجموعة الدعم الدولية “عن “تصحيح الاختلالات العميقة في الاقتصاد ومعالجة التشوهات التي نتجت عن ثلاثين سنة من السياسات الاقتصادية والمالية الخاطئة”، وكأنّ الجالسين بوجهه لا يدركون “البئر وغطاه”!
ومع ذلك يقرّ هؤلاء أن الاشتباك السياسي في الوقت الراهن لا طائل منه، ولا “سمّيعة” له، لا في الداخل ولا في الخارج. ولذا يفضل الحريري تكثيف عمل رادارات رصده. أما معارضته فلا تزال داخل “قمقمها”.